قلّما نجد توثيقًا حقيقيًا للأشياء المهمة التي صنعت ملامح حياتنا، لتبقى شاهدًا لمن يأتي بعدنا، وهكذا هو حال معظم العرب. ومن بين تلك الملامح التي تستحق الذكر، أول محطة لبيع الوقود في طريب، والتي أسسها المواطن محمد بن حسين أبو جبهة رحمه الله في زمن لم تكن فيه كهرباء، ولا يعرف الناس المولدات الصغيرة. كان خزان الوقود الأسود الأسطواني قائماً على كوم تراب مرتفع بأسفل الهضبة المطلة على سوق الاثنين الحالي من الجهة الجنوبية الشرقية، وكانت الأرض من حوله فضاءً مفتوحًا يمتد إلى ما لا نهاية. وكان عداد الوقود يعمل بطريقة بدائية تعتمد على الضغط من الأعلى إلى الأسفل، أي بالجاذبية، فيما يمكن وصفه بالحركة الفيزيائية البسيطة. في ذلك الوقت، كانت محطات الوقود تُعرف باسم "الشيشة"، وهو مصطلح شائع عند البادية، رغم أننا لا نعرف أصل معناه على وجه الدقة. وعلى يمين الخزان، باتجاه الشرق، أقام حسين صندقة صغيرة بفتحتين تتجهان نحو الشمال؛ إحداهما لتحضير الشاي، والأخرى لتسخين التميس الذي كان يُجلب من خميس مشيط مرة واحدة في الأسبوع، ليكفي بقية الأيام. يرجع تاريخ إنشاء ذلك الموقع الخدمي إلى ما بين عامي 1391ه و1393ه، وكان أهم زبائنه أصحاب الشاحنات الثقيلة العابرة من الجنوب إلى الرياض والمنطقة الشرقية، إضافة إلى بعض أفراد شاحنات الكناور بالجيش العربي السعودي. أما نحن – طلاب مدرسة حنين الابتدائية – فكنا ننتظر وقت الفسحة الطويلة، التي تمتد أحيانًا إلى ساعة كاملة، بفارغ الصبر. وما إن يُطلق المعلم المناوب صفارته معلنًا بداية الفسحة، حتى ننطلق مسرعين بثيابٍ مشمّرة لما فوق الركبة، حفاة الأقدام، نحو تلك المحطة، نبحث عن كوب شاي أبو أربعة وقطعة تميس، رفاهية لا ينالها إلا من كان يملك في جيبه ريالًا واحدًا (20 قرشًا). لكن الصدمة الكبرى كانت حين نُفاجأ بعبارة: "الخبز خلص"، فنعود إلى المدرسة بخُفَّي حُنين، وقد اجتمع علينا الجوع والتعب، ويبلغ سوء الحظ ذروته إذا عدنا متأخرين عن نهاية الفسحة، حيث ينتظرنا السوط عند الباب، فيتحول اليوم كله إلى يوم تعيس! لم يستمر مشروع المحطة طويلًا، فقد اختفت ملامحها في عام 1394ه، بالتزامن مع افتتاح مدرسة مشروفة الابتدائية وانتقالنا إليها لإكمال الصف الثالث، تاركين وراءنا "عاصمة الوادي" بطابعها المتقدم مقارنةً بحياة قريتنا الهادئة في مشروفة والحرجة. وتلك أيام خلت، تبقى في الذاكرة رائحة ديزلها وشايها وتميسها... وشغف الطفولة الذي لا يُنسى. *من لديه معلومة أو توثيق يخالف ما ورد عن أقدم محطة وقود في طريب، فليتفضل مشكورًا بالتصحيح والإضافة.