المنتخب السعودي الأول لكرة السلة يودّع بطولة كأس آسيا    موجز    تعزيز الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد للمملكة.. "سالك".. 13 استثماراً إستراتيجياً في قارات العالم    مجلس استشاري لمنتدى الرياض.. السعودية ترسم مستقبل السياحة العالمية    السعودية ترحب بالإجماع الدولي على حل الدولتين.. أستراليا تعلن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين    وزير لبناني حليف لحزب الله: أولويتنا حصر السلاح بيد الدولة    عشرات القتلى بينهم صحافيون.. مجازر إسرائيلية جديدة في غزة    الشعب السعودي.. تلاحم لا يهزم    بحث مع ملك الأردن تطورات الأوضاع في فلسطين.. ولي العهد يجدد إدانة المملكة لممارسات الاحتلال الوحشية    بعد خسارة الدرع الخيرية.. سلوت يعترف بحاجة ليفربول للتحسن    برشلونة يسحق كومو ويحرز كأس غامبر    ضبط 17 مخالفًا بحوزتهم 416 كلجم من القات    السنة التأهيلية.. فرصة قبول متاحة    افتتاح معرض الرياض للكتاب أكتوبر المقبل    «ترحال» يجمع المواهب السعودية والعالمية    «الزرفة» السعودي يتصدر شباك التذاكر    مباهاة    المفتي يستعرض أعمال «الصاعقة» في إدارة الأزمات    حقنة خلايا مناعية تعالج «الأمراض المستعصية»    جني الثمار    الحكومة اليمنية تمنع التعاملات والعقود التجارية والمالية بالعملة الأجنبية    نائب أمير الرياض يستقبل سفير إندونيسيا    «محمية عبدالعزيز بن محمد».. استعادة المراعي وتعزيز التنوع    "فهد بن جلوي"يترأس وفد المملكة في عمومية البارالمبي الآسيوي    القيادة تهنئ رئيس تشاد بذكرى بلاده    بطولة الماسترز للسنوكر.. أرقام استثنائية وإشادات عالمية بالتنظيم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    7.2 مليارات ريال قيمة اكتتابات السعودية خلال 90 يوما    "هلال جازان الأحمر" الأول بمؤشرات المستفيد    ثقب أسود هائل يدهش العلماء    مخلوق نادر يظهر مجددا    تحديات وإصلاحات GPT-5    سيناريوهات مروعة في غزة    تمويل جديد لدعم موسم صرام التمور    تخصيص خطبة الجمعة عن بر الوالدين    232 مليار ريال قيمة صفقات الاندماج والاستحواذ    أخطاء تحول الشاي إلى سم    لجنة التحكيم بمسابقة الملك عبدالعزيز تستمع لتلاوات 18 متسابقًا    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025| الهولندي ManuBachoore يحرز لقب EA SportFC 25    340 طالبا وطالبة مستفيدون من برنامج الحقيبة المدرسية بالمزاحمية    إنقاذ مقيمة عشرينية باستئصال ورم نادر من فكها بالخرج    فريق طبي سعودي يجري أول زراعة لغرسة قوقعة صناعية ذكية    ملتقى أقرأ الإثرائي يستعرض أدوات الذكاء الاصطناعي وفن المناظرة    أخصائي نفسي: نكد الزوجة يدفع الزوج لزيادة ساعات العمل 15%    بدء استقبال الترشيحات لجائزة مكة للتميز في دورتها السابعة عشرة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة قاع الثور    أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر البلوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى    سعود بن بندر يستقبل مدير فرع رئاسة الإفتاء في الشرقية    النيابة العامة: رقابة وتفتيش على السجون ودور التوقيف    إطلاق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجاناً    طلبة «موهبة» يشاركون في أولمبياد المواصفات الدولي    البدير يشارك في حفل مسابقة ماليزيا للقرآن الكريم    «منارة العلا» ترصد عجائب الفضاء    منى العجمي.. ثاني امرأة في منصب المتحدث باسم التعليم    مجمع الملك عبدالله الطبي ينجح في استئصال ورم نادر عالي الخطورة أسفل قلب مريض بجدة    نائب أمير جازان يزور نادي منسوبي وزارة الداخلية في المنطقة    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسطين إذ تزف قادتها في طريق التحرر
نشر في شبرقة يوم 10 - 02 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل تراجع عربي، وصل إلى حدِّ العجز عن عقد قمة، خشية من الدولة المضيفة من إصدار إدانة لجريمة الاغتيال المبارك أمريكيًّا، لشيخ الانتفاضة، وخشية صدور إدانة لجرائم الاحتلال في العراق..
وفي أعقاب عودة مجرم الحرب أرئيل شارون مظفرًا بما حصل عليه من ضمانات خطية من الولايات المتحدة، بموافقتها على خطته في الاحتفاظ بمجمعات استيطانية كبرى في الضفة الغربية، وعلى إلغاء قرارات دولية في الشأن الفلسطيني، منها حق اللاجئين في العودة.
وفي إطار المأزق الذي تعيشه إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش.. بعد اشتعال النيران تحت أقدام الاحتلال في العراق، وانكشاف خواء كل الحجج، التي تأسس عليها ذلك الاحتلال، وتورطه في مجازر وحشية، وتصاعد النقد الداخلي لغزوته الفاشلة، بما تجرُّه يوميًّا من هدرٍ لأرواح الأمريكان، وإرهاق لجيوبهم، وتلطيخ لسمعتهم، وتصاعُد للعداء ضدهم، وبالخصوص مع بداية انفراط عقد التحالف، بانسحاب بعض أطرافه، واحتمال سير آخرين في أثرهم، وكل ذلك يأتي في ظرف حرج جدًّا لإدارة بوش؛ إذ هي تتهيأ لخوض حملة التجديد لرئيسها.. فماذا تراه سيقدم لشعبه من حصيلة، في أهم ملف اشتغل عليه خلال عهدته: ملف الحرب على الإرهاب، وابن لادن، المتهم بتدبير الهجوم الصاعق على أمريكا، في عقر دارها، مطلق السراح؛ بل يوالي هجماته وتهديداته، والعراق الذي حسبته إدارة بوش أربح ورقة في ملفها قد تحول مستنقعًا وفخًّا خطرًا جدًّا، تتسع فيه يومًا بعد يوم الفوضى، وتتجمع فيه كل القوى الحريصة على الانتقام من أمريكا، وتترهل إلى حدِّ التداعي للسقوط المؤسسات، التي أقامتها ستارًا للحكم من ورائها، مثل مجلس الحكم، والجيش العراقي، الذي فككته قد انضمت قطاعات منه بخبرتها وأسلحتها إلى صفوف المقاومة، بينما الجيش الذي بدأت في تشكيله رفض لأول تجربة معه للتصدي للمقاومة، أداء هذه المهمة القذرة.. كل ذلك نزل بمكانة أمريكا ورئيسها إلى الحضيض، وجعله غاية في الضعف، أمام رغائب ومطالب وغطرسة شارون وفريق ليكود المحيط ببوش.
وفي ظل وضعٍ عربيٍّ مفكَّك ومرتعب من شعارات الإصلاح، التي لوحت بها الإدارة الأمريكية في وجه الأنظمة العربية البالية، من أجل مزيد تطويعها، وابتزازها، وفرض الصمت عليها؛ بل التعاون في إنفاذ خطط وسياسات ليس مستفيدًا منها غير الكيان الصهيوني، مثل غزو العراق، وفرض الحصار على شعب فلسطين وقيادته، وإطلاق يد مجرم الحرب شارون تفعل ما تشاء.
في إطار مجمل هذه الأوضاع، وعلى إثر عودة مجرم الحرب مضفرًا من أمريكا، حاصلاً على وعد بلفور ثان، أقدم الخنزير الوحشي على اقتراف جريمته الثانية، خلال شهر واحد؛ إذ دكت صواريخه ومروحياته الأمريكية سيارة قائد حماس في غزة بنفس الأسلوب الجبان والوحشي، الذي دكت به شيخ الانتفاضة على كرسيه المتحرك، - رحمهما الله - وتقبلهما ورفاقهما في الشهداء.. إزاء هذه الجرائم النكراء المتكررة يوميًّا على جبهتي فلسطين والعراق، على يد نفس التحالف، وبنفس الأساليب.. يهمُّنا- والقلب يتفطر ألمًا وغيظًا- أن نؤكد المعاني التالية:
1 - نهنئ أسرة العريس الجديد بعرسهم وعريسهم، نهنئ قادة المقاومة وجنودها وشعب فلسطين البطل وأمة العرب والمسلمين، ونشدُّ على أيديهم، ونبارك جهادهم وصمودهم وعطاءهم السخي من أجل تحرير فلسطين وقدسها، قبلة الأمة الأولى ومسرى نبيها، ونقول لهم: طبتم وبوركتم من أبناء بررة لهذا الدين العظيم، وحماة أشاوس لمسرى النبي وقبلته الأولى.. إنكم في الخط الأول للدفاع عن الأمة وشرفها، وعن المعاني الإنسانية الرفيعة في مواجهة الحرب الإمبريالية الظالمة ضد الأمة والإنسانية بقيادة شارون- بوش، هذه الحرب الظالمة، التي لا تستهدف فلسطين كل فلسطين والعراق والنفط، وإنما تهدف إلى الهيمنة على الأمة كلها؛ بل على كل الأمم وأحرار العالم.
2 - نؤكد يقيننا أن المقاومة باعتبارها تمثل حاجة للأمة حياتية في الاستجابة لتحديات وجودية، يمثلها الكيان الصهيوني المؤيد أمريكيًّا ضد الأمة والإنسانية، فشلت الأنظمة العربية والإسلامية كما فشلت المؤسسات الدولية في الاستجابة لها؛ ولأن الوعي بهذا التحدي عميق جدًّا في الأمة اليوم، وفي القطاع الأوسع من الرأي العام في العالم؛ ولأن الحق أصيل في بناء هذا الكون وفطرة الإنسان، فإن هذه الأمواج المتلاحقة من الشهداء في ظل موازين دولية مادية مختلة لصالح الظلم الصهيوني لن تضعف، ولا المقاومة ولا الأمة وصحوتها ولا نضالات أحرار العالم ضد ديانة السوق الشريرة، ووحشية رأس المال، وإخطبوط شركات نهبه المدمر، وفي طليعتها الكيان الصهيوني؛ بل إن أمواج الشهداء، وبالخصوص بعد أن انضم إلى موكبها النوراني القادة الكبار، بشائر نصر، وبراهين صدق هؤلاء القادة، فيما يحرضون عليه الأمة وشبابها من حب للشهادة والفداء، متطلعين إلى مستويات من الحياة أرقى وأغنى وأبقى.
إنه بالشهداء- وبالخصوص الكبار- تحيا الأمم وتتجدد، وتقبل أجيالها الجديدة فتية وفتيات؛ بل حتى العجائز والمقعدين على المعاني النبيلة الرفيعة، معاني الكرامة والعزة والأنفة والشجاعة وتحويل الطين الذي فينا إلى سلَّم ومعراج لارتقاء الروح وتساميها، بدل أن يكون سيدًا لها وسجَّانًا.
إنه لم يحصل قط في تاريخ المنازلة بين الحق والباطل أن نجحت القوى الغاشمة في أن تجهز على دعوة حق بلغت من التمكن في حياة حملتها درجة استعدادهم لفدائها بأغلى ما عندهم من أنفس وأهل ومال، مما لا قبل به لأهل الباطل وهم يتحدَّونهم: "فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (آل عمران: 61)، وقد يبلغ التعلق بالعقيدة حد عشق الاستشهاد في سبيلها، لما يعلمه هؤلاء العشاق، الذين تحيا بهم كل أرض يحلون بها، وكأنهم في ظلمات الكون أقمار، مما أعد لهم ربهم من مكرمات ومقامات، لا يصرفهم عنها؛ إذ يحلون بها غير روح الإيثار السامية، التي ملأت عليهم جوانحهم، فيتمنون العود إلى الأرض لتحريض أهلها على السير في طريق الشهادة، حتى ينالوا الذي نالوا، ويبلغوا الشرف الذي بلغوا، "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (آل عمران: 170).
الشهيد/ عبد العزيز الرنتيسي :
ومن تابع مسيرة العريس القائد الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، وكيف كانت الفرحة العظمى تملأ جوانحه وهو يتهيأ لرحلة الشرف والعزة والسعادة العظمى.. كيف كان يرش العطور على نفسه، ويمازح أهله، ويهزج بأجمل ما يحسن من الأهازيج، يستيقن أنه عرس وليس مأتمًا، وأنها لحظات نصر لم يعشها وحده، وإنما كانت روحانيتها من القوة أن غمرت كل أهله؛ بل كل فلسطين، بل هي قد هزت الأمة كلها، وكل ذي حسٍّ إنساني، فما تفاعل الناس مع ميتة؛ بل قل مع عرس، كما تفاعلوا مع عرس هذين القائدين العظيمين.
نلمس ذلك أول ما نلمسه في صاحبته أقرب الناس إلى أنفاسه.. أم محمد، التي شاهدها الناس وهي في تمام تماسكها، توزع الشربات على ضيوفها، وتُجري الحوارات الرصينة مع أضخم القنوات، فلا نواح ولا حتى شهيق أو غصَّة، ولا حتى دموع تتهاطل، وما هي بالإعلامية المدربة، ولا الخطيبة المتمرسة؛ بل كانت طلعتها الأولى على الناس في عزة وأنفة وبهاء وإشراق عجيب، وهي مع ذلك تؤكد لمحاوريها في القنوات الفضائية أنها ليست بالمرأة القاسية، وكأنها تعجب من نفسها من أين نزلت عليها هذه السكينة العجيبة.
رأينا ذلك في ابن الشهيد الشاب محمد ابن العشرين، وهو يتحدث عن سيرة والده، وقد فارقه وهو بصدد الإعداد لزواجه- أي محمد- وكأنه كان يتحدث عن شخص آخر غير أبيه. ومالنا نذهب بعيدًا والحال أنها الروح الكلي، الذي يسكن شعب فلسطين، الذي سار ليس في غزة؛ بل في كل مدن فلسطين بمئات الآلاف وراء الجنازة الحقيقية أو الرمزية، بينما طائرات المجرم شارون تزمجر فوق رؤوسهم، ويقبل الآلاف على بيت الشهيد للاشتراك في الحفل قادة حماس وقادة الفصائل وفدائييها، يتحدون بقوة الروح والحق غطرسة الباطل وسكرته بالقوة وغروره وعنجهيته.
إنها حقًّا مشاهد انتصار وإرهاصاته، لا تخطئها عين، وكانت من القوة أن حركت عالم الإسلام من أقصاه إلى أقصاه من إندونيسيا إلى غانا، حتى حواضر القلب من الأمة المكبلة بسلاسل الاستبداد اهتزت وتحركت، رغم أنف الاستبداد، حتى أجهزة التلفاز، التي أدمنت برامج تخدير الأمة غناءً ورقصًا وتمجيدًا للطاغية، لم تجد سبيلاً إلا أن تجاري العاصفة، التي أطلقتها روحانية الشهيد العظيمة، فاضطرت إلى الحديث لأول مرة عن حماس وأحمد ياسين والرنتيسي، وهي كلها مصطلحات محظورة في الإعلام التونسي مثلاً.
إنها بركة الشهداء العظام لا يحيا بها أصحابها في الملأ الأعلى فحسب، في أرفع مقامات الحياة والسعادة المطلقة، وإنما تحيا بها قضاياهم في أمتهم وفي العالم؛ بل تحيا بها الأمة كلها، تحيا بها معاني العزة والشجاعة والفِدا، تستعلي بها الأرواح عن الطين وتستخدمه، بدلَ أن يستخدمها كما اعتاد.
بوش وشارون :
كلما أمعن شارون وبوش في الأمة قتلاً وتنكيلاً.. كلما حرك فيها قطاعات كانت خاملةً لاهيةً، وجنَّد في نصرة قضاياها طاقات كانت مغتربة، ويسَّر لها فرصًا للإجماع حول قضاياها، وبالخصوص قضيتها المركزية في فلسطين والعراق كانت مفتقدة، وزاد العناصر الهشة أو المخربة فيها من نخب فاسدة وحكام متواطئين عزلةً وتهميشًا، وكشف المزيد من الظَّلَمة والخونة، وتركهم في العراء مسحوقين بين ما تريده الأمة منهم: دعم المقاومة، وبين مقتضيات ارتباطاتهم ومصالحهم في التطبيع سرًّا أو علانيةً مع الكيان المغتصب، بما يرفع ويصعِّب تكاليف أي خطوة تطبيعية مع العدو.
الثابت بالتجربة أن الذي ينهك حركات المقاومة والجماعات التغييرية والأحزاب ليس ضربات العدو، فهذه قد تحييها، وترفع من أرصدتها، وإنما تنازلها عن المبادئ، التي بشَّرت وعرَّفت بها يوم قامت، وجمعت بها وعليها من جمعت من الأتباع، فإذا بها تساوم على تلك المبادئ وتبيع وتشتري، سقطت من أعين الناس، فتنكسر مهما كان البديل الذي تحصل عليه من وظائف وأموال، ولا جبر لكسرها إذا كان ذلك ممكنًا، إلا بالتوبة والعود إلى سيرتها النضالية الأولى، تمسكًا بالمبادئ، وتضحية من أجلها، ولك أن تنظر إلى سيرة الفصائل المنضوية تحت منظمة التحرير ارتفاعًا وهبوطًا، بحسب موقعها من العدو.. ولو أنها ثابرت على سيرتها الأولى ما ظهرت الفصائل الإسلامية واكتسبت هذه المكانة داخل شعب فلسطين وخارجه.
لذلك صدق شهيدنا عريسنا العظيم الرنتيسي؛ إذ قال إن حماس مشروع شهادة لا مشروع سلطة، وعندما سئل عن الفراغ الذي تركته شهادة شيخه ياسين أجاب جوابًا بديعًا عميقًا:
نعم قد ترك الشيخ الكبير فراغًا لا يمكن لأحد أن يشغله.. اللهم إلا استشهاده، بما أحدثه من ردة فعل واسعة في كل أرجاء العالم، وأقول لكم لأطمئنكم: لو رحل الرنتيسي والزهار وهنية ونزار وصيام فوالله لن نزداد إلا لحمةً وحبًّا، فنحن الذين تعانقت أيدينا في هذه الدنيا على الزناد، ستتعانق أرواحنا في رحاب الله إن شاء الله..
لقد فقدت الحركة الإسلامية كثيرًا من قيادييها وعناصرها؛ لكنَّ الحركة استمرت وواصلت عملها.. وأذكركم بكلمة للشيخ ياسين: "ضربونا فارتفعنا وضربناهم فارتفعنا.. كم سيقتلون؟! هل يمكن إبادة هذا الشعب كله الملتفِّ حول الحركة؟ هذه الحركة فيها من القيادات والطاقات ما يذهل العدو؛ ولذلك لست قلقًا من مخطط الاستهداف؛ بل أشعر أن هذا الاستهداف يزيد من تعاظم الحركة وقوتها.. نحن لا نسعى إلى كرسي.. نحن طلاب شهادة" (مجلة المجتمع 10-16/4/2004م).
وصدق ابن حنبل عندما حدد هذا الميزان بين الدعاة الشهداء والطغاة السفاكين: "بيننا وبينهم الجنائز"، فما دمتم ترون جنائز الشهداء والصالحين تنعقد لها أعظم الجنائز؛ بل قد تحرِّك الأمة، وتبْعث فيها حياةً جديدةً من أقصاها إلى أقصاها، فالأمة بخير، مهما أمعن السفَّاحون في استباحة دمائها، لم تنصرف الأمة- وخاصةً شبابها- يومًا عن دعوة امتحنت من الطغاة، فصمدت وثبتت، مهما طال المدى وعظم التضليل.. بل إن الالتفاف حولها وحول قادتها يزداد ويتسع، بقدر عطائهم وصدقهم وصمودهم وإعراضهم ظهريًّا عن نهج المساومات على المبادئ.
ذلك طرف من فلسفة الشهادة وبركتها في الإسلام، ولقد أبدع قادة فلسطين إتقان هذا الفن، وبلغوا به الأوجَ، حتى جُنَّ جنون قادة الكيان الصهيوني وحماتهم، وتملَّك الهوس والرعب عصابات الاحتلال، وأخذت تتراءَى أمام أنظار عقلائهم ملامح مرعبة لنهايات واضحة للكيان اللقيط.
3 - ننبه إلى سوءِ تقديرٍ تردَّد على ألسنة البعض إزاءَ الحدث الجلل.. حدث اغتيال الرنتيسي عقب اغتيال شيخه في أقل من شهر واحد.. إن ذلك ما كان ليحدث لو لم يتأخر رد حماس الردعي الانتقامي!! وهذا التقدير الخاطئ يحمل في طياته- في أحسن وجوه تفسيره- تحريضًا على ألا يتكرر هذا الخطأ بحسبانهم، وكل ذلك خطأ:
أ - لأن حماس تعمل وفق نهج المقاومة، وليس وفق عمل الجيوش، التي تملك صواريخ وطائرات، يمكن أن توجِّهها- نظريًّا على الأقل- في أي وقت.
ب - إن سياسة الاغتيال ليست- وهذا هو المهم- حدثًا طارئًا على سياسات الكيان، جاء مع إدارة من إداراته، وإنما هو جزء من طبيعته، وطبيعة كل احتلال يهدف أبدًا إلى استلال روح المقاومة أصلاً من ضحاياه، ويستمر في ذلك ما دامت هناك مقاومة، فليس عمله رد فعل لعملية قامت بها هذه المقاومة أو تلك، وإنما فعل ابتدائي، نابع من طبيعته كاحتلال استيطاني، مصمم على تفريغ الأرض، ليس من المقاومة فحسب؛ بل من كل ساكنيها، قاوموا أم استسلموا؛ بل لولا المقاومة ما بقي في فلسطين اليوم أحد من أهلها، فهي في الأقل وضعت حدًّا لتمدد الاحتلال، وشغلته بنفسه وأزمته، حتى بلغ حد الهوس والجنون، وافتضح أمام العالم وحشًا كاسرًا، فضلاً عن الإبقاء على الملايين فوق أرضهم.
ج - إن عمل المقاومة هو الآخر ليس رد فعل على اغتيال هذا الزعيم أو هذا القائد أو ذاك، وإنما هو رد فعل على وجود الاحتلال ذاته.
د - إنه في ظل موازين القوة المادية المختلة بالكامل لصالح الصهاينة، وفي ظل التخاذل الرسمي يغدو الصمود في ذاته على المبادئ، ورفض المساومة عليها، والشهادة للأجيال القادمة.. إن عجز جيلنا عن إنجاز الرسالة العظمى، رسالة تحرير فلسطين، قبلتنا الأولى ومسرى نبينا، والمؤشر الذي لا يخطئ على حال أماتنا من الحضارة والعزة، فلا عزَّ ولا حضارة ولا مكان لأمتنا في هذا العالم والقدس تحت الاحتلال، الشهادة للأجيال القادمة أننا صمدنا، ولم ننحنِ لمنطق الظلم، وغطرسة المادة، وعرام السلاح المتفوق.
أ. مصطفى مشهور
إن الصمود- كما كان يردد الشيخ مصطفى مشهور - رحمه الله - للشعوب المقهورة هو بذاته نصر؛ ولكن المقاومة في فلسطين هي أكثر من صامدة.. إنها في حال نمو ثابت وسريع وزحف؛ بل هي في حالة انتصار.. العدو الصهيوني هو الذي يعيش الارتباك والهوَس وبدايات النهاية.
ومن الأدلة التي لا تخطئ على ذلك محاصرة نفسه بالجدار الفضيحة؛ ليحتمي من بأس المقاومة، ويمنع أهله من الهروب، ويدخل عليهم شيئًا من الاطمئنان، بينما هو بالأمس القريب كان يبشر بمنطقة شرق أوسطية يتربع هو موقع القلب فيها، ويمشي طولاً وعرضًا في بلاد العرب، مخترقًا نخبها بالثقافة والتجارة، وها هو اليوم يبني دون بحر العرب الواسع جدارًا سميكًا عاليًا مكهربًا محصَّنًا بالأسلحة، ثم يغلقه دونه، غير تاركٍ له من بوابة إلا على البحر.
أليست هي بداية الهزيمة؟! أو ليس مجرم الحرب- بتصعيده مستوى الوحشية إلى الأوج- يعيش وشعبه الهزيمة، وهو يتهيأ للفرار من لهيب غزة كما هرب من لهيب لبنان، وكل ما في الأمر أنه يلهث جاهدًا في بؤس للتغطية على الهزيمة الثانية، وملء قلوب شعبه المرتجفة من المصير المرعب بقدر من الطمأنينة، عبر شلالات الدماء، التي يسفكها، والخراب الذي يحدثه في الفلسطينيين، يبعث لشعبه رسالة تطمين أنهم أقوياء، ولا يفرُّون من موقع ضعف؛ بل من موقع قوة!!
أوليس فراره الثاني رسالةً عظمى للمستضعفين تُحررهم من الانحناء لغطرسة القوة؟! أليس في ذلك ما يطمئن إلى أن الإنسان- مهما تطورت التقنيات والأسلحة- يبقى سيد الموقف، بشرط أن يحيا بالروح، وأن يعتصم بالمبادئ، وأن يبذل جهده للتحرر قدر الوُسْع من أوحال الطين، من الخوف، إلا ممن بيده ملكوت كل شيء، وأن يتطلع إلى أن يذكي في نفسه أبدًا مشاعر التعالي والقرب والعشق والتحرر.
ذكر الدكتور منصف المرزوقي: "كنا نحسب أننا سنحرر فلسطين ولكننا اكتشفنا أن فلسطين هي التي تحررنا"؛ فما أعظم بركة هذه القضية على الأمة والإنسانية، وما أشد بأسها ونكالها على مواقع البؤس والخنوع والطغيان في أمتنا والعالم، ناهيك عن غرور الصهيونيين وقساوتهم ومطامعهم الشريرة.
4 - ننبه الولايات المتحدة ودول الغرب عامة إلى خطر استمرار وتفاقم دعمهم غير المشروط للكيان الصهيوني المتوحش، وخططه التدميرية لشعب فلسطين وحضارته، ولشعب العراق، باعتبار ذلك ليس فقط جرائم أخلاقية وإنسانية، وتحديات صريحة لكل المواثيق والقوانين الدولية، فقد يكون ذلك من قبيل اللغو في مسائل العلاقات الدولية اليوم، وإنما هو إضافة إلى ذلك يمثل دعمًا وتشجيعًا صريحين للإرهاب، الذي يزعمون محاربته، وهم من يزرعون كل يوم وساعة بذوره، ويرعون نماءه، من خلال دعم غير مجذوذ للوحش الصهيوني، ولحلفائه من أنظمة القمع في بلداننا، مما هو كارثي على مستقبل العلاقات الإسلامية الغربية.
5 - نتوجه إلى شعوب العرب والمسلمين ومعهم كل أحرار العالم، باعتبارهم- بعد عون الله - سبحانه - الأمل الوحيد، الذي يعول عليه في الوقوف في وجه تمدد هذا السرطان المدمر.
إن الأقصى يناديكم إلى تحمل مسئولياتكم في الدفاع عنه وعن أكنافه، وذلك عبر تشكيل أحزمة لدعم المقاومة، تتمثل في لجان تحرك وتضامن، تجمع كل تيارات المقاومة في الأمة.. إسلاميين وقوميين ووطنيين؛ لتشكيل قنوات من الدعم الشامل للمقاومة في فلسطين والعراق، ومنها الضغط على الحكام للمشاركة في ذلك، ولو بعدم العرقلة للأعمال الخيرية، وحملهم حملاً على وقف كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وطرد بعثاته، ومقاطعة بضائعه، وفرض حركة الشارع، وعدم التردد في تقديم التضحيات؛ من أجل ذلك قال - تعالى -: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (آل عمران: 143) صدق الله العظيم.
*************************************
*المصدر : المختار الإسلامي ، وموقع مداد0
**كاتب ومفكر إسلامي تونسي0


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.