سمو أمير منطقة الباحة يناقش في جلسته الأسبوعية المشروعات التنموية    إمارة منطقة مكة تشارك بمعرض ( لاحج بلا تصريح ) بمحافظة الطائف    أمير حائل يرعى التخرّج الموحد للتدريب التقني    أمير عسير يخرج الدفعة ال 10 من طلاب وطالبات جامعة بيشة    وزير الداخلية يدشن عدداً من المشروعات في منطقة جازان    نائب أمير مكة يطلع على برامج «هدف»    الخريف يلتقي عددًا من الطلاب السعوديين المبتعثين في هولندا    خالد بن سطام يشهد تخريج 7,066 من المنشآت التدريبية    «الرابطة» تُدين الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني    حل طبي يمكّن المكفوف من «رؤية» الأجسام    معسكر الدوحة يجهز «الأخضر الأولمبي» لبطولة «تولون»    على ملعب نادي القيصومة .. انطلاق المرحلة ال14 من برنامج اكتشاف المواهب    تتويج بطل كأس الدوري في ملعب الاتحاد    وزارة الموارد البشرية والجمعيات الخيرية يطلعوا على تجربة منتجع اكرام الوطني    «الشورى» يناقش 17 تقريراً ويطالب هيئة الطيران بإنجاز المستهدفات    هناك وهنا    عبدالعزيز بن سعود يلتقي مدير عام مكافحة المخدرات في منطقة جازان    حسام بن سعود يكرّم 29 فائزاً وفائزة بجائزة الباحة    صوت صفير البلبل.. التفكير خارج الصندوق    جانب الظل    بين الإيمان والثقة    حجاج بنغلاديش: «ضيوف خادم الحرمين» امتداد لعطاءات المملكة بخدمة الإسلام والمسلمين    العلاج بالخلايا الجذعية إنجاز علمي للشفاء من السُّكري تماماً    هذا السبب يجعلك تنام وفمك مفتوح !    أهمية الطيران في الاقتصاد السعودي    لا تستفزوا الهلال !    أمير القصيم يرعى حفل جائزة إبراهيم العبودي للتفوق العلمي بتعليم المذنب    محاولات فك الشراكة السعودية - الأمريكية !    أكاديمية مطوري Apple بالشراكة مع أكاديمية طويق تحتفي بتخريج 192 طالبة    تكثيف الحشد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين    تعزيز التعاون القانوني مع كوريا    المملكة تدين وتستنكر مواصلة قوات الاحتلال ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية بحق شعب فلسطين بلا رادع    إطلاق جائزة الفريق التطوعي بالقصيم    ربط رقمي بين الصندوق الصناعي و«تنفيذ»    ريادتنا التقنية    ملتقى عربي يناقش مكافحة الجرائم المالية    أمير الشرقية يتفقد خدمات المستفيدين بالإمارة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تكريم الكفاءات المتميزة بتعليم المدينة    20 مليار دولار طلبات الاكتتاب.. إتمام تغطية الصك الدولي بقيمة 5 مليارات دولار    بداية من الموسم الرياضي الجديد 2024-2025 .."حراس المرمى" في دوري "يلو" سعوديون    «الانضباط» ترفض رسمياً شكوى الاتحاد على لاعبي الهلال سعود ومالكوم    ضمن رؤية المملكة 2030 .. الهلال الأحمر يستعد لخدمة ضيوف الرحمن    المدافع الإيطالي المخضرم ليوناردو بونوتشي يعلن اعتزاله    رونالدو يتسلم جائزة هداف دوري روشن    مايو زعيم التوعية الصحية عالميا    6 أنشطة ابتكارية عالمية لسعوديين    وزير الداخلية يلتقي القيادات الأمنية في منطقة جازان    ضبط مواطن بتبوك لترويجه مادتي الحشيش والامفيتامين المخدرتين    جامعة الفيصل.. نموذج في التعليم الجامعي    «بينالي الدرعية» للفن المعاصر.. تختم النسخة الثانية    «الأمر بالمعروف» تسخِّر الذكاء الاصطناعي لخدمة الحجاج    اللجنة الوزارية تثمن اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين    أمير حائل يرعى حفل خريجي التدريب التقني والمهني    الشورى يقر إنشاء مطارات منخفضة التكلفة حول مدينة الرياض    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينهي معاناة سبعيني من تضيُّق الصمام الأورطي بدون جراحة    استئصال ناجح لورم بالكلية اليسرى في مستشفى المواساة بالرياض    وفد اللجنة الوزارية العربية الإسلامية يعقد جلسة مباحثات مع وزير الخارجية الإسباني    أمير المدينة يكرم الطلاب الحاصلين على جوائز محلية وعالمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النص تحت ضغط أسئلته الكبرى
نشر في عكاظ يوم 22 - 08 - 2015

لم أعرف الروائي السوداني حمور زيادة إلا حين صارت روايته «شوق الدرويش» على القائمة المصغرة للبوكر، وهنا قررت أن أقرأها، ولقد اندهشت حقّا، ولعلني منذ روايات الطيب صالح لم تصبني تلك الدهشة وذلك الانغماس في نص سردي. 500 صفحة مكتوبة بمهارة شاعر وخبرة سارد متمرس على القراءة وروح مؤرخ، في الأثناء وأنت تقرأ تحضرك روح السودانيين الساحرة في لغتهم التي يأخذونها من حياتهم ومن طبائع الناس. تحضر فيها أمور ندر أن تتجانس عند راو عربي وهي النفس الشعري العميق، والمعلومات التاريخية المتسمة بميسم ذاتي، مع هوى صوفي ينثال ناعما رضيا، مع قدرة على التدرج في معمارية السرد تدرجا لا يطغى فيه التاريخي على الواقعي ولا السردي على الشعري، ولا الأسطوري على الفلكلوري، بل تتنامى الرواية وتتصاعد نحو نوع من البوليفونية التكاملية المنسجمة التي يصبح فيها النص، لا مجرد شجرة، بل غابة متعقّدة، مضفورة وصعبة وشديدة المتعة.
يطلق الراوي في بداية عمله بطله بخيت منديل من السجن، فالبطل له مهمة وعليه أن ينهيها، خيط سردي ذو طابع تحرري شديد الثراء وله في النفس ظلال في روايات مماثلة، خيط سردي واعد بنص سردي يعبر بقوة عن النفس المعذبة وعن ما يحدث في السجون، خيط آخر يفتحه الراوي وهو قصة الراهبة اليونانية المغدورة ثيودورا، وما رافق حكايتها من أسر العبودية، ثم القتل المادي، وهي قصة تفتح على المحلي بكل قوته وخصوصيته وهو أفق يعد بنص مغرق في المحلية، في بلد يتسع لأديان متعددة واثنيات كثيرة، وعادات يجعلها القارئ العربي خيطا آخر يسوقنا إليه هذا الراوي وهو التاريخ القريب للسودان، حين اجتاح أنصار المهدي مدن السودان وسيطروا على كل شيء . خطوط ثلاثة تتقاطع في الكتاب وتتعالق مع بعضها لتشكل نوعا من التراجيديا الماساوية التي تقول حاضرها مستعملة الماضي القريب.
من البداية يرمي حمور زيادة التاريخ في الخلفية، فهو يسرد تاريخ السودان القريب، ويكشف الكثير من أسرار ثورة السودان، يتحدث عن سقوط المدن بين يدي أنصار الله، لا يهتم الراوي بالحدث في حد ذاته بل يركز عمله بقوة وتصميم على آثار الثورة على المكان والزمان، ومثل الرسامين نرى في خلفيات الفصول القتامة والسواد، ونرى التعقّد، وينجح الراوي في صناعة فضاء قاهر مخيف مؤثر، مقنع بكل ما سيحدث من أحداث لاحقة. الحدث التاريخي مهم في شوق الدراويش، لكنه لا يشبه مثيله في أي رواية مماثلة، يظل في الخلفية، ولا يتحول إلى هدف رئيسي، ولا تتحول الرواية إلى سرد تاريخي، بل يتحول التاريخ إلى قوة حارقة واعية تخترق الواقع البسيط إلى العمق، حيث يتبدى واقع آخر أكثر صدقا، حزين ومأساوي، وحيث يمكن بصفاء رؤية الشخصيات وهي تدير في النص تاريخها الخاص.
يهتم الراوي بالحاضر، الآن وهنا، وليس بالماضي، هي معادلة صعبة التحقّق، لكنها أصبحت ممكنة مع هذا النص الروائي الاستثنائي بكل المقاييس، ولعل نقطة قوته الأساسية قدرته على الخروج بما هو تاريخي من التاريخ والتوثيق إلى عامل كشف ومرآة للواقع، مما جعلنا نرى الحاضر باعتبارة غصنا في الشجرة وليس الشجرة ذاتها. وسرده للتاريخي مبسط مخترق بالواقعي والآني مسوق دائما في جمل تعنى بالمصائر، وتنداح لتوسع فكرة أو لتكشف غموضا، مما يوسع معرفتنا كقراء للنص بالسودان ثقافة وتاريخا وتراثا. ولعل هذا الملمح في رواية شوق الدراويش هو أحد مكامن الجدة والندرة والمقروئية التي تستحقّ وحدها مقالا لتوضيح تلك الخصوصية في التعامل مع التاريخ سرديا.
ووسط تاريخ يقبع مثل قناع في خلفية هذا النص نرى الواقع مغروسا في تربة الآلام، فالرواية تعب من الآلام عبا، وهي عبارة على مسرح كبير للألم الذي يتحرك في كل الاتجاهات. نعم هناك في قلب الرواية قصة حب تتفرع مثل شجرتي القيضيت والصيريت في كل الاتجاهات، لكنه حب حزين، مستحيل، مأساته من مأساة بلاده. وهي قصة بخيت منديل وثيودورا المرأة التي تم أسرها وقتلها، والتي يرغب البطل أن ينتقم لها من قاتليها، قصة طريفة محبوكة تشبه قصصا كثيرة رأيناها في السرد العربي الذي يسطح كل ما هو عميق ويرمي بسيف التفاهة كل جواهره الكبرى، أما حمور فإنه يملأ نصه برائحة الحب وينقلنا نقلات رائعة في العلاقة ويروح النفس بفقرات متقنة من شعر النفس الصافية وحين يكون هناك ألم فإنه لا يحوله إلى ذلك الألم الذي يتطلب الشفقة ولا يستدر الدمع، بل يرتقي بالنص إلى نوع من السرد الذي يستكنه النفس ويدفع في الخسران فضة البقاء وذهب النداءات الروحية الخالدة. والقصة هنا، مخترقة أيضا بالديني، ومخترقة بسؤال الهوية، ومخترقة بالسياسي ومخترقة بكل ما يحير الفرد السوداني في كينونته الثقيلة. وهذا الاختراق هو ما جعل النص يكتب تحت ضغط أسئلته الكبرى الحارقة، فؤوسه تعمل في كل الاتجاهات، لا لتهدم، بل لتعري الحقائق، وتكشط الحجر والتراب عن الجوهر، وتقرأ الواقع قراءة تثوير، لا قراءة تبرير.
ينوع حمور شخصياته، وهي كثيرة، ومتنوعة، بعضها يستمر من البداية إلى النهاية وبعضها تناط به أدوار مرحلية صغيرة فيقوم بها ويغيب، وهذا التنوع يدار باقتدار وحسن توزيع وبضروب من الحضور طريفة، ومن أهم الشخصيات إضافة إلى المذكورين سابقا يحضر «الحسن الجريفاوي» وهو شخصية مختلفة عن بقية الشخصيات تنفتح معه الرواية على صراع دام داخل النفس مداره الإيمان، ويربطه بالخلفية التاريخية رابط عميق، فيبدو مثل جسر بين الماضي والحاضر، في خطابه يستدعي حمور الميراث القولي لأتباع المهدي الأنقياء، في البداية حين كان الأمر أمر عقيدة، لا أمر سياسة، ويعرض حمور في وضوح انتقال بطله من الهدوء الإيماني المطلق بضرورة الثورة على الجور والتتريك والكفر وتبديل دين الله وإذلال عباده والجهاد في سبيله، الانتقال من كل ذلك إلى الشك واهتزاز الثوابت والصراع العنيف الذي يعصف باليقينيات كلها، وهنا حمور واضح الفكرة، بين الرأي، دقيق، يراوح بين عالمي الشخصية، في البداية حيث الحلم بعالم الفتوحات ونشر نور الله في الأرض تحقيقا لوعد المهدي مع ما يرافق ذلك من ترك الزوجة فاطمة وترك الدنيا والسعي إلى مرضاة الله والجهاد في سبيله وبين خروجه منسلا من جيش المهدي وأنصار الله. «يخوض الجريفاوي رحلة عنيفة تضعضع الثوابت، وتزيل الغشاوات، وتنأى به من رحاب اليقين المطلق إلى هجير الشك والسؤال» كما يقول الباحث إيهاب الملاح.
عبر هذه الشخصية يتمكن الكاتب من العبور من مجرد تسريد العالم وتوصيفه إلى كتابته كفعل مواجهة واجتراح وتثوير، يصبح السؤال معول كشف، لا طريقة للمداراة والمداهنة، نكتشف مع البطل أن العالم لم يصر أفضل، وأن العدل لم يسد، وأن النور لم يشرق، وأن ما حدث ليس غير ولوغ في الدم، لا غير. ونتساءل مع البطل أسئلة محيرة، تدور حول الموت والحقّ والحلم الضائع ووهم الجنة الذي قاد إلى جحيم قاس من المظالم والشرور. وننساق في قالب سردي متوتر يدار باقتدار لعالم الثورة في بعده البسيط الذي يمور بما هو خير في البداية منتهيا بخيبات متتالية. وهنا، لا يتدخل الراوي ليصدر أحكاما، بل ينفث في شخصياته تلك الغشاوة الإنسانية الحييّة الناعمة، ويرفعها إلى مصاف الفاعلين، يجعل لهم رؤى وخلفيات، يعمق حضورهم باعتبارهم تمثيلات فردية لما يحدث في العالم الروائي، ولا نبالغ إن قلنا إنه راوٍ محب لشخصياته عطوف عليهم، يصفهم فلا يدع في النفس قلقا، ويروي لهم، فيمتعنا بكلامهم، ويدعنا نتشرب صفاءه أو كدره، وهو في ذلك كله، لا مقل فنستزيد، ولا موف فنطالب بالكف. وإنما صانع لكونه، وموزع لشخوصه بمقادير بدت لنا شديدة الإحكام.
يكسر حمور خطية السرد باختراقات نصية متنوعة، لا يترك شيئا له علاقة بنصه إلا ويوظفه توظيفا يدخله في البنية ولا يبقيه ناتئا بارزا، يعي بوضوح أنه مهدد بالرتابة، وبالتأريخ، وبالتشويق، ويتصرف سرديا بمقتضى ذلك، وهنا يلوح لنا أمر مهم جدا وهو قدرة الروائي على تصريف ثقافته كلها من أجل بناء نصه، وقدرته على امتصاص خصائص الثقافة السودانية في جميع أبعادها، إن ثقافة أنجبت الطيب صالح لن تتوقف بعده أبدا. والحق أن هذه الاختراقات بديعة حارة محورية، ومفصلية لأنها تخرج بالكتاب من كونه مجرد حكاية بليغة ليصبح مصدر معرفة تمتح من المقدّس والصوفي والشفوي، في ما يشبه المناجاة والافتتان. وربما بسبب هذا النسيج النصي المتنوع المتداخل تمكن الكاتب من طرح أكثر الأسئلة جرأة في نص سردي. لماذا كل شيء في حياتنا ملتبس؟ لماذا تؤول ثوراتنا إلى الفشل؟ لماذا يقترن الإسلام السياسي بالعنف والقتل؟ لماذا يطحننا تاريخنا الحديث طحنا، فلا نتقدم إلا إلى مزيد من الوضاعة والشر؟.
«شوق الدرويش» قفزة سردية في السرد العربي ما في ذلك شك، وهو تحفة أخرى يضيفها الرواة الذين ينسلون كجياد الضوء من السودان، كتبت الحكاية فيه، باعتبارها ضرورة، لا غاية، وطرحت فيها أسئلة زمانها عبر تاريخها القريب الذي لم يكتب بعد. فحوت من المتعة أقصاها، ومن التاريخ ما يمكن اعتباره رواية غير رسمية لما حدث. والنص يناقش بديهيات كثيرة، ويشكك في حقائق عديدة، ويثور طبقات راكدة في الوعي، ويقدم نظرات مختلفة عن الآخر، وعن الإسلام السياسي، وعن حقيقة وجودنا في الكون، وهو نص استباقي رغم تدثره بعباءة التاريخ، يتكهن، ويرى، ويحدس، ويشهد على انقلاب قيم، وولادة قيم جديدة. وحمور في كل ذلك صاحب محنة وصاحب طريقة مثل الدراويش القدامى، أشواقه تشمل الكون السردي فيبدو شاعريا عميقا غائما غامض الدلالة مغريا بمحاولة الكشف، يتحكّم في إيقاعه، فيجعله متوترا حين يريد، ويجعله صافيا عميقا هادئا حين يريد، في ضروب من التمكن ندر أن نجدها عند روائي عربي، والكتاب محاولة جدية وجريئة لفهم ما يحدث الآن وهنا في العالم العربي بعد الثورات..
جلمة في 8 أوت 2015 ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.