دعا سمو ولي العهد، حفظه الله، بالتمسك بمنهج الاعتدال في التفكير وأن الاعتدال الذي هو نقيض الغلو والتطرف مطلب شرعي وضروري لمواجهة ما تعيشه الأمة من اضطرابات وأنه ليس كلمة أو شعارا بل هو منهج شامل. ولعل الغلو والتطرف ظاهرة دخيلة قدمت إلينا من الخارج مطرودة بعد أن ضاقت بفتاواهم أوطانهم الأصلية، وشاء الله أن يكون الوطن هو الملاذ الآمن لهؤلاء الذين أرادوا أن يفرضوا قناعاتهم على البلاد والعباد فبدأوا في نشر أفكارهم ومعتقداتهم وتلقاهم البعض في الداخل من طلبة العلم وأدعيائه، وممن وجدت هذه الآراء والمعتقدات هوى في أنفسهم ومصلحة شخصية تحقق طموحاتهم المريضة فاستخدموا شباب الأمة لتحقيق مخططاتهم. فبدأت بذور الغلو والتطرف تعلن عن نفسها على شكل كاسيت ومطويات وكتيبات غزوا بها عقول الشباب، تحمل التهديد والوعيد لكل مخالف لفكرهم. يكفرون ويبدعون ويزندقون ويخرجون من الملة لأدنى شاردة وأقل سانحة يطلقون الأحكام جزافا يدخلون الجنة من شاؤوا ويخلدون في النار من أرادوا.. فلسفوا فريضة الجهاد دون النظر لأحكامه، أخذوا بظاهر النص لم يعرفوا معنى الدليل القطعي ولا الظني ولا ترجيح المعنى المرجوح في زمن آخر يقتضي ترجيحه لمصلحة أكبر. أغلقوا عقولهم وقلوبهم عن مصدر من مصادر الشريعة وهو الاجتهاد يقول تعالى «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم». ولو أنهم قرأوا الإسلام على أصوله وعرفوا فقهه وأحكامه لوجدوا أن الغلو والتزمت أمر ترفضه الشريعة، دخل رسول الله المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: «ما هذا الحبل قالوا هذا حبل لزينب فإذا فتررت تعلقت به فقال النبي حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد». وقال عليه السلام محذرا أن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، وقال: هلك المتنطعون.. فالغلو في حد ذاته مشاقة حقيقية لهدي الإسلام وإعراض عن منهجه الذي هو في حقيقته توسط واعتدال، وقد يمنع الغلو من إقبال غير المسلمين على الدخول في الإسلام بما يتقولونه من زور وبهتان وتشويه للدين ووسطيته. نسوا أن سمة هذا الدين هي اليسر والتيسير ورفع الحرج فالعدل والوسطية هو خيار أمة محمد الحقيقي. يقول ابن تيمية في الغلو إنه مجاوزة الحد بأن يزداد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك «اقتضاء الصراط المستقيم 1/289». ويزيد سليمان بن عبدالوهاب في «تيسير العزيز الحميد 256» فيحدد ضابط الغلو بقوله تعدى ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى عنه في قوله: «ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي». إن هناك تشابها بين مذهب الخوارج وآراء المغالين في عصرنا الحاضر. يقول رسول الله: هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي.. فهؤلاء أضلوا الأمة وحولوا أنفسهم إلى دعاة فتنة وأبواق تأليب وتدخلوا في أمور الآخرين ويقيمون حكامهم وأمراءهم. يقول ابن تيمية فإذا كان على عهد رسول الله وخلفائه قد انتسب إلى الإسلام من ليس منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي بقتالهم فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الكتاب والسنة حتى يدعي السنة من ليس من أهلها بل قد يمرق منها وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله، والتفرق والاختلاف ومنها أحاديث تروى عن النبي وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل فيصدقها لموافقته ظنه وهواه وقد ذمهم الله بقوله: «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس»، وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله. وأنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين. فالغلو ظاهرة جذورها الخوارج وفروعها هؤلاء الذين ابتلي بهم الزمان والمكان خرجوا عن المنهج الوسط ومجاوزة الحد وفعل ما لم يشرعه الله ورسوله، وتفسير النصوص تفسيرا متشددا يتعارض ومقاصد الشريعة. إن التعصب للرأي هوى بذي الخويصرة وأصحابه إلى أسفل السافلين، تعصبوا فحجبت بصيرتهم عن الحق. آن الأوان لأن نقف في وجه كل متشدد نطهر منهم الزمان والمكان، نراقب تصرفاتهم وأعمالهم وأقوالهم ونمنعهم من اعتلاء المنابر ليلووا أعناق النصوص ويسخروها لمصلحتهم، يقول النووي: لا بد أن نبني هذا المجتمع بالحب والتسامح مؤمنين بثقافة الاختلاف وأدب الحوار كما كان المؤسس يفعل، رحمه الله، مع خصومه معتمدا على سماحة الدين متأسيا بنبينا الكريم. [email protected]