تحدثت في مقال سابق عن آلية عمل العقل الواعي واللاواعي (الباطن) وعن التكامل بينهما في تكوين الشخصية العامة للفرد، وهنا سأتحدث عن خصائص العقل اللاواعي. فالحياة اليومية والنشاطات المتنوعة والمعلومات الواصلة لدماغ الإنسان هي التي تؤثر في العقل الباطن ولكنه تأثير غير منظم ولا مبرمج ولا مخطط للأسف، أي أنه تأثير عشوائي؛ لأنه يخضع للظروف المحيطة بالشخص، فما كان منها إيجابيا كان التأثير إيجابيا، وما كان منها سلبيا كان التأثير مثله. وهناك أنماط من التأثير في العقل الباطن تتصف بالرتابة والتراكم مثل التربية والتعليم ومجموعة القيم والأفكار السائدة في المجتمع ووسائل الإعلام المتنوعة وهو يستغرق وقتا طويلا في أغلب الأحيان، ويؤثر في ذلك عدة عوامل منها البيئة التي تشمل البيئة الطبيعية والاجتماعية، فالبيئة الاجتماعية على سبيل المثال هي من أعظم المؤثرات ابتداء من الأبوين والأسرة ووسائل الإعلام والأصدقاء وما يفرزه هذا المجتمع من ثقافة وأدب، لذا نجد إبداع الشخص وإنتاجه معبرا عن بيئته شاء أم رفض. ابن خفاجة والمتنبي لهما شعر يصف الماء، ولكنهما مختلفون في البيئة فاختلف الوصف بين هذا وذاك، يقول المتنبي: لولاك لم أترك البحيرة والغور دافئ وماؤها شبم والموج مثل الفحول مزبدة تهدر فيها وما بها نظم والطير فوق السحاب تحسبها فرسان بلق تخونها اللجم كأنها والرياح تضربها جيشا وغى هازم ومنهزم كأنها في نهارها قمر حف به من جناحها ظلم فيما يقول ابن خفاجة: لله نهر سال في بطحاء أشهى ورودا من لمى الحسناء متعطف مثل السوار كأنه والزهر يكنفه مجر سماء وغدت تحف به الغصون كأنها هدب يخف بمقلة الزرقاء المتنبي يصف ماء البحيرة دون أن يتخلص مما هو مخزون في عقله الباطن من البيئة التي نشأ فيها وهي بيئة الحرب والكر والفر والقتال، في الموج في اندفاعه وهديره بفحول الإبل تثور بها رغباتها، ويتخيل طير الماء وقد اعتلى الزبد الأبيض فرسانا يمتطون صهوات أفراس بيض، ويصور الرياح وما تثيره من أمواج كأن جيشين يقتتلان. أما إذا نظرت إلى تشبيهات ابن خفاجة فستدرك كم تعكس طبيعة الحياة الأندلسية الناعمة وما في بيئته من قصور وجمال ونساء وحدائق غناء. العامل الثاني هو الانتماء فعندما يعلم شخص أنه ينتمي لقوم كرماء فتجده تلقائيا يتأثر توجهه نحو الكرم حتى ولو لم ينشأ في قومه ولكن سماعه لصفات يمتاز ويشتهر بها قومه يجعله يتكيف معها من حيث لا يشعر، ولذلك تجد أن المسلم لا يأكل لحم الخنزير بالرغم من أنه قد لا يكون متدينا. والشخصية هي أحد العوامل المؤثرة سواء كانت دينية أم سياسية أم علمية وليس من الضروري أن يكون التأثير مباشرة عن طريق الرؤية والسماع بل قد يكون عن طريق الأخبار والصور والكتابة فتجد الشخص المتأثر يحاول أن يقلده في كل أفعاله وأقواله معتبرا أنه القدوة والأسوة، ولم تكن إنجازات العظماء في التاريخ إلا عن طريق التأثير في العقل الباطن لآلاف الناس. يضاف إلى ذلك عامل العواطف الحادة فعندما تمر بالإنسان أحداث مهمة تؤثر بقوة في عواطفه كفقد عزيز أو موقف إنساني مؤثر فهذا يؤثر في سلوكياته المستقبلية إلى حد كبير. هذا هو التأثير غير المبرمج ولا المخطط الذي يؤثر في عقولنا. د. حاتم سعيد الغامدي استشاري نفسي