«الزكاة والضريبة» تُجري تعديلات على اللائحة التنفيذية لضريبة التصرفات العقارية    «البيئة»: 30 يومًا على انتهاء مهلة ترقيم الإبل.. العقوبات والغرامات تنتظر غير الملتزمين    على خطى «الأمريكية».. حراك طلابي في جامعات فرنسا دعماً لغزة    مسؤولون دوليون يحذرون: اجتياح رفح «مذبحة»    يايلسه غاضب بسبب موعد كلاسيكو الأهلي والهلال    موعد مباراة الاتحاد وأبها اليوم في الدوري السعودي    رسالة من فيرمينو قبل لقاء الهلال    «الأمن العام»: بدءاً من السبت.. منع المقيمين غير حاملي التصاريح من دخول العاصمة المقدسة    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    اختبار جاهزية الاستجابة لأسلحة التدمير الشامل.. في التمرين السعودي - الأمريكي المشترك    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    الذهب يتجه للانخفاض للأسبوع الثاني    أمطار متوسطة إلى غزيرة على معظم مناطق المملكة    "ريمونتادا" مثيرة تمنح الرياض التعادل مع الفتح    تزويد "شات جي بي تي" بالذاكرة    ربط ميناء جدة ب "بورتسودان"    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    شراكة بين "البحر الأحمر" ونيوم لتسهيل حركة السياح    بدء تحقيق مكافحة الإغراق ضد واردات "ستانلس ستيل"    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    "جوجل" تدعم منتجاتها بمفاتيح المرور    فصول ما فيها أحد!    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    «الاحتفال الاستفزازي»    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    شَرَف المتسترين في خطر !    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    كيفية «حلب» الحبيب !    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    للتعريف بالمعيار الوطني للتطوع المدرسي بتعليم عسير    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور عبدالرحمن الشبيلي..رائدُ التوثيق ومُؤَرِّخ الإعلام .. نَفَضَ الغُبار عن سِيَرِ الكِبار
نشر في عكاظ يوم 02 - 01 - 2024

خُذْ نَفَسًا عَمِيقًا، والزَمِ الهُدُوءَ مَا اسْتَطَعْتَ؛ فَأَنْتَ فِي حَضْرَةِ التَارِيْخِ.
ماذا لَوْ تَمَثَّلَ التَارِيْخُ في صُورَةِ رَجُلٍ؟!
حَتمًا سيكون خَفِيضَ الصَوْتِ، غَزِيرَ التَجْرِبَةِ، يَقُصُ عَلَيْكَ مِن ذَاكِرَتِهِ الوَاسِعَةِ؛ جَوَانِبَ تَوثِيقِيَّةً لِأَحدَاثٍ وَأَشخَاصٍ وَأَيَّامٍ، تَعِيشُهَا بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا.
لا أَحَدَ يُحِبُ الوَعظَ المُبَاشِرَ... فَشُعُورُكَ بِأَنَّكَ وَحِيدٌ فِي مَرمَى النَصَائِحِ؛ قد يَحدُوكَ لِتَتَمَنَّى لَو أَنَّ العَالَمَ يَنتَهِي بِكَ، قَبْلَ انتِهَاءِ حَدِيثِ النُّصحِ ذَاكَ. لِهَذَا كَانَ رَجُلُ حِكَايَتِنَا أَذكَى أَبنَاءِ جِيْلِهِ، وأقْربَهُم للأَجيَالِ التَالِيَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ نَقَلَ إِلَيْهِم خِبرَاتٍ، ودُرُوسًا، وَمَعَانِيَ، وَحِكَمًا، دُوْنَ وَعْظٍ، أَو نُصحٍ مُبَاشِرٍ، حَتَّى تَخَالَهُ يَدُسُّ الدَّوَاءَ الشَّافِي، في العَسَلِ الصَّافِي!
فَعَلَ ذَلِكَ عَبْرَ تَوْثِيْقِ تَارِيخِ سِيَرِ أَعلَامِ الإِعْلَامِ السعودي وَكِتَابَتِهَا، ثم تَجَاوَزَ ذلك لَاحِقًا إِلى تَوثِيقِ سِيَرِ شَخصِيَّاتٍ سعودية، خارِجَ حَقْلِ الإعلامِ، زَهِدَتْ في الظُهُورِ، فَكَادَت مَحَاسِنُهَا تَنْدَثِرُ، لَوْلَا أَنْ نَفَضَ صَاحِبُنَا عَنْهَا غُبَارَ النِّسْيَانِ، فَأَعَادَ لَهَا بَعضَ فَضلِهَا، مَعَ وَرَعِهَا، وَنأْيِهَا عَنِ الأَضْوَاءِ، بَاعِثًا في نُفُوسِنَا الطمَأنِينَةَ، والبُرهَانَ على أَن ما نَسْلُكُ مِن دَرْبٍ؛ سَارَ عَلَيهِ قَبلَنَا أَخيَارٌ يُؤْتَمُّ بِهِمْ، ويُمضَى على طَرِيقِهِم، وتُسْتَلهَمُ تَجَارِبُهِم، وَهوَ مِن بَينِهِم بِلَا جِدَالٍ.
تِلْكَ آثَارُنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا
فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إِلى الآثَارِ
صاحِبُنَا جَمِيلُ الخَلْقِ، حَسَنُ الخُلُقِ، أَنِيقُ المَظهَرِ، طَلِيقُ الوَجْهِ، طَيِّبُ النَّفْسِ، عَذْبُ السَجَايَا، لَيِّنُ العَرِيكَةِ، رَحْبُ الخَاطِرِ، وَاسِعُ المَعرِفَةِ، عُرِفَ بِمُؤَرِّخِ الإِعلَامِ وَالأَعلَامِ؛ أَدْرَكَ في طُفُولَتِهِ البَسِيطَةِ شَظَفَ العَيْشِ في نَجْدٍ، فأَيْقَنَ قِيمَةَ النِعَمِ في شَبَابِهِ، وَكُهُولَتِهِ.
الأبُ تلميذ الشيخ السعدي والأم الغريبة تصبح راوية لشعر الأب!
في بَيْتٍ طِينِيٍّ بِسُوقِ المعثم بِمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ بالقَصِيمِ؛ وُلِدَ الطِفلُ عبدالرحمن بن صالح الشُبَيْلِي، عام 1363ه، (1944م)، وَلَم يَكُن قَدْ طَالَ البِلَادَ مَا أَفَاءَ اللهُ علَيهَا من نِعَمٍ وخَيْرَاتٍ، فَمَشَى عبدالرحمن حَافِيًا مِثلَ سَائِرِ أَقْرَانِهِ حِينَذَاك، وارتَدَى ثَوبَ الخَامِ، وَلَبِسَ الزَرَابِيلَ شِتَاءً، وَدَرَسَ عَلَى ضَوءِ سِرَاجِ التَنَكِ، كَمَا بَاقِي لداتِه؛ لَكِنَّهُ كاَنَ نَبِيهًا، أَلمَعِيًّا، لَا تَجْهَدُ لاكتِشَافِ ذَكَائِهِ، ولا تَكْلَفُ لالتِقَاطِ فِطْنَتِهِ.
تَتَلمَذَ وَالِدُهُ؛ صالح، على يَدِ عَلَّامَةِ القَصِيمِ، الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، (1307- 1376ه)، (1889- 1957م)، وبَقِيَ شَدِيدَ التَعَلُّقِ بِهِ، ورَثَاهُ بِأَبيَاتٍ، مِنهَا:
مَا مَاتَ مَن كَانَتِ الذِكرَى بِضَاعَتَهُ
يَعِيشُ عِزًّا وَلا يَرْحَلْ بِخُسرَانِ
المَالُ يَفنَى وَيَفْنَى ذِكْرُ صَاحِبِهِ
وَالعِلمُ يَأْتِي جَدِيدًا بَعدَ أَزْمَانِ
كان صَالِح، تَاجِرًا يُسَافِرُ في طَلَبِ الرِزقِ فَيَغْشَى الهِندَ، ويَتَرَدَّدُ علَى العِرَاقِ؛ ثُمَّ يَقْفِلُ عَائِدًا إلى دُكَّانِهِ الأَثِيرِ بعُنَيزَةَ، يَبِيعُ التُمُورَ وَالحُبُوبَ، وَيُسَامِرُ الأَصحَابَ؛ حَتَّى تَحَوَّلَ مَتجَره إَلَى مَجْلِسٍ عَامِرٍ، بِسَبَبِ حَلَاوَةِ حَدِيثِ الشبيلي، وَحُسنِ مُعَامَلَتِهِ، إذ يَقْصِدُهُ النَّاسُ، وَيَتَحَلّقُونَ حَوْلَهُ، كما يَتَحَلّقُونَ حَولَ التلفزيون، في بِدَايَاتِهِ.
الدُكَّانُ عَلَامَةٌ فَارِقَةٌ لَيْسَ في ذِهْنِ ابْنِهِ عبدالرحمن فَحَسب، وإِنّما في ذِهْنِ رِفَاقِ الشَّيخ صالح أيضًا، كَمَا ذَكَرَ صَدِيْقُهُ إبراهيم الجُطَيْلِي، في قَصِيدَةٍ، مِنهَا قَوْلُهُ:
أَيْنَ الشُبَيلِي وَتَمرٌ فِي مَشَارِفِهِ
والبَيْعُ يَأْتِي بِأَجْوَالٍ لَطِيفَاتِ
لَازَمَ عبدالرحمن أَبَاهُ؛ فَانْغَمَسَ في أَجوَاءِ الأَدَبِ، وكَسَاهُ أَدَبُ الأَجْوَاءِ؛ وَانْسَكَبَت خِصَالُ الأَبِ الحَمِيدَةُ في سُلُوكِ الابنِ، فَشَرِبَ المُعَامَلةَ الحُسْنَى، والسَّمَاحَةَ في البَيعِ والشِّرَاءِ والتَّعَامُلِ، فانطَبَعَ بِالسّمَاحَةِ وانطَبَعَت بِهِ، ولَعَلَّهُ اكتَسَبَ أُوْلَى مَهَارَاتِ الحِوَارِ، من حِوَارَاتِ الدُكَّانِ فَأَتقَنَهَا، وأَتَخَيَّلُ ذَلِكَ المَجلِسَ يُشبِهُ أُستُديو (مؤتمر صحفي)، حيثُ حِوَارَاتُ عبدالرحمن الشبيلي التلفزيونية اللَّاحِقَةُ، كما يَلتَئِمُ ثُلَّةٌ من الفُضَلاءِ حَولَ بَعضِهم، في الدُكَّانِ الكَبِيرِ، لا بِمَسَاحَتِهِ، وإنّما بِسَعَةِ صُدُورِ الشُبَيْلِيِين.
أمَا وَقَدْ التَقَطَ صاحِبُنَا مِنَ الأَبِ، المُمَالَحَةَ وحُسْنَ المُجَالَسَةِ وآَدَابَ الحِوَارِ، والشَّاعِرِيَّة. فَمِنَ أَيْنَ أَتَى بِإِتْقَانِ الرِوَايَةِ، وَظَرَافَةِ الاقْتِبَاسِ، وَالجَلَدِ عَلَى التَعَلُّمِ؟!
مِنَ الوَالِدَةِ فاَطِمَة، التِي جَاءَت إِلى عُنَيْزَةَ مِن تُركِيَا، إلَّا أَنَّهَا استَطَاعَت الاندِمَاجَ مَع مُجْتَمَعِ عُنَيزَةَ؛ فَأَجَادَتِ اللَهْجَةَ، وَتَشَرَّبَتِ العَادَةَ، وَعَرَفَت أَنسَاب الأُسَرِ، بَل أَتْقَنَت إعدَادَ أَطْبَاقِ المَطبَخِ، وعَرَفَت أَنوَاعَ التُمُورِ، وطُرَقَ فَرزِهَا، وَكَنزِهَا، وَتَخزِينِهَا!
ويَحكِي الشبيلي في سِيرَتِهِ الذَاتِيةِ، أَنَّ والِدَتَهُ حَفِظَت رِثَاءَ زَوجِهَا لِقَرِينَتِهِ الأُولى (حصَّة) المُتَوَفَاة عَام 1337ه/‏1919، وهِي مَرثِيَةٌ بِالشِّعْرِ الشَّعْبِيِّ، اسمُهَا؛ (السحيمية)، يَقولُ فِيهَا:
«مِنْ عَاشْ بَالدِنْيَا صَفَى لَهْ مَشَارِبْ
وَقْتٍ قَصِيْرٍ؛ ثُمْ الامْرَارْ شَارِبْ
ومَنْ عَاتَبَ الدِنْيَا فْلَا زَالْ عَاتِبْ
مِنْ عَاتَبْ الْدِنْيَا فْلَا زَالْ زَعْلَانْ»
ويقول قبل خِتَامها:
«يَالْلَهْ مِنْ عِنْدَكْ خَلْفْ كِلْ فَايِتْ
وعِنْدَكْ بَعَدْ رِزْقِيْ وَجَمْعَ الشِتَايِتْ
وانْ تَجْعَلَنْ دَايِمْ عَنَ الشَّرْ بَايِتْ
وانَّكْ تَعَاوِنِيْ عَلَى مَا تِقَفَّانْ»
ومع أنّ زواجَ فاطمة بصالح؛ كَانَ في عَامِ 1345ه/‏1926م، إلّا أَنَّ القَصِيدَةَ كَانَت تُثِيرُ غَيرَتَهَا، فَيَعِدُهَا الوَالِدُ ضَاحِكًا بِمَرثِيَّةٍ مثلها إِن سَبَقَتْهُ، كما نَقَلَ عبدالرحمن.
من جامعة الإمام إلى مكتب وزير الإعلام!
حَفَّتْهُ صُنُوفُ الآدَابِ، فَأَكمَلَت ذَائِقَتَهُ، وَدَرَسَ في مَدَارِسِ عُنَيزَةَ، ثُمَّ تَوَجَهَ إِلى الرِيَاضِ، لِيَحْصُلَ عَلَى ليسانس اللغة العربية، من جامعة الإمام محمد بن سعود في عَامِ 1963م، وكَانَت الخُطوَةُ التَالِيَةُ عَادَةً تَعيِينَهُ بِأَحَدِ المَعَاهِدِ مُدَرِّسًا لِلعربية، لَكِنَّ القَارِئَ المُثَقَّفَ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ، دَائِمُ التَرَدُدِ على المَكتَبَةِ العَامَّةِ؛ ومكتبةِ المعهدِ العِلمِيِّ، كَان يُدرِكُ أَنَّ الزَمَنَ حَولَهُ يَتَغَيَّرُ، فَرَغِبَ في أَن يَكُونَ جُزءًا مِن هَذَا التَغْيِيرِ، وهو مَا دَعَاهُ لِلسَفَرِ إلى جِدَّةَ لِمُقَابَلَةِ أَوَلِ وَزِيرٍ لِلإِعلامِ، المُعَيّنِ حَدِيثًا، الشيخ جميل الحجيلان؛ الذي كَانَ يَطلُبُ إِعلَامِيينَ للعَمَلِ فِي إِذَاعَةِ جِدّةَ، من خِرِيجِي كليةِ اللغةِ العَرَبِيَةِ.
طَلَبَ الشَّابُ المُهَذَّبُ مُقَابَلَةَ الوَزِيرِ، فاستَقبَلَهُ الحجيلان بِمَكتَبِهِ كَمَا يَفعَلُ مَع الجَمِيعِ؛ والشبيلي ليسَ كَغَيرِهِ؛ بِوَجهٍ صَبُوحٍ، واَبتِسَامَةٍ مُشرِقَةٍ، وَصَوتٍ هَادِئٍ؛ أَعرَبَ عن رَغبَتِهِ في العَمَلِ بوِزَارَةِ الإِعلَامِ. يقولُ الحجيلان، إنَّهُ وَجَّهَ لَهُ سُؤَالًا مُبَاشِرًا عَنِ السَبَبِ الرَئِيسِ لِتِلكَ الرَغبَةِ الوَاضِحَةِ. فكَانَ رَدُّ الشبيلي: أَنَّ الإِعلامَ هُوَ المَجَالُ الَذِي يَتَسِعُ لِكُلِّ المَجَالَاتِ، فَفِيهِ السِيَاسَةُ وَالاِقْتِصَادُ وَالاِجْتِمَاعُ وَالأَدَبُ، وَكُل مَا يَتَمَنَّاهُ إِنسَانٌ يَهْتَمُ بِالثَقَافَةِ. وَصَدَق!
وَكَأَنَّ أَبَا طَلَالٍ، قَبِلَ أَن يَبدَأَ مِشوَارَهُ، وَضَعَ لَنَا المَعَايِيرَ المِثَالِيَّةَ لِلعَمَلِ بِالإِعلَامِ، فالإعلامُ لَيْسَ حَقْلَ شُهْرَةٍ وتَمَظهُرٍ؛ بَل حقل الثَقَافَةِ والمَسؤُولِيَةِ المُجتَمَعِيَةِ. لَمْ يَكُن الشّاب عبدالرحمن الشبيلي مُثَقَّفًا فَحَسْبُ، وإنَّما كان أيضًا صَاحِبَ بَصِيرَةٍ نَافِذَةٍ.
وَجَدَ الشبيلي نَفسَهُ يَسلُكُ طَرِيقَ الإِعلَامِ عَبرَ إذاعة جِدّة. وَيَقُصُ فِي مُذَكِّرَاتِهِ؛ ما أُجرِيَ لَهُ بِدايَةً مِن اختِبَارِ صَوتٍ، فَكَانَ الرَأيُ أَنَّ صَوتَهُ حَادٌّ بَعضَ الشَيءِ، فَتَدَرَّبَ عَلَى تَجَاوُزِ ذَلِكَ.
أَثبَتَت الأَيَامُ بَعدَ ذَلِكَ؛ أَنَّ الشبيلي كَانَ مُجْتَهِدًا مُنَظَّمًا صَبُورًا دؤوبًا على المَعرِفَةِ؛ تَوَّاقًا لِخَوضِ التَجَارِبِ وَجَنْيِ ثِمَارِهَا، فَصَارَ مَكسَبًا لِلإِعلَامِ السُعُودِيِّ، سِرَاجًا سَيُضِيءُ الطَرِيقَ سَنَوَاتٍ طِوَالًا بَعدَهُ.
وَمَا زَالَ يَسْهَرُ مِن جِدِّهِ
وَيُتْبِعُهُ الَحَزمَ حَتَّى استَرَاحَا
من الإذاعة إلى التلفزيون... يَتَجَدَدُ الشَغَفُ
لم يَلبَث أَبو طَلالٍ سِوَى سِتَّةِ أَشهُرٍ فِي إِذَاعَةِ جِدّة، لِيَنتَقِلَ إلى الرياضِ مُشَارِكًا في تَأسِيسِ إِذَاعَتِهَا، ولَهُ في الرِيَاضِ مَآَرِبُ أُخرَى، إِذ أَكمَلَ مَسِيرَةَ التِحَاقِهِ فِي قِسمِ الجُغرَافيَا بِكُلِيَّةِ الآَدَابِ في جَامِعَةِ الرياضِ (المَلِكِ سُعُود لاحِقًا)، لَيَحصُلَ على البكالوريوس الثَانِي، في عام 1965م. وعلى ثَرَاءِ الإِذَاعَةِ وتَجرُبَتِهَا إَلَّا أَنَّ إِمكَانَاتِ الشبيلي الوَاسِعَةَ، عَجَّلَت بِرَحِيلِهِ نَحوَ التلفزيون، الذي رَأَى جميل الحجيلان؛ أَنَّهُ أَكثَرَ مُنَاسَبَةً لِقُدُرَاتِ الشبيلي ومَوَاهِبِه، الذي صَارَ بِالكَفَاءَةِ وَالشَغَفِ أَوَّلَ مُدِير بَرَامِج في التلفزيون السعودي؛ المولودِ صَيفَ عام 1965م.
كيف حَوَّلَ حاجز اللغة الإنجليزية سُلَّمًا؟!
وجد الشبيلي نفسَهُ مُسَاعِدًا لِمُدِيرِ الإِدَارَةِ في التلفزيون، سليمان الصالح؛ الذِي أَدَّى بِدَايَةً دَورَ المُنَسِّقِ بينَ مَكتَبِ الوَزِيرِ؛ وَمَسؤُولِينَ أَمِيركِيينَ، مِن فَرِيقِ تَأهِيلٍ من الوِلايات المُتَحِدَةِ، تَعَاقَدَت مَعَهُ وَزَارَةُ الإِعلامِ للمُسَاعَدَةِ على تَأسِيسِ التلفزيون وإِطلَاقِهِ، وتَوَلَّى الصالح دَورَهُ لِأَنَّهُ يُجِيدُ اللغةَ الإنجليزيةَ، ولَم يَكُن الشبيلي يُتقِنُهَا حِينَذَاك. استَقَالَ الصالح بَعدَ عَامٍ، فَأُسنِدَت للشبيلي إِدَارَةُ تلفزيون الرياض كُلُّهَا؛ لَكِنَّ الشبيلي لَم يَنسَ مَسألة الإنجليزية.
يُعَرِّجُ الحجيلان كُلَّ مَسَاءٍ عَلى مَبنَى التلفزيون لِيَطمَئِنَّ عَلَى المَولُودِ الجَدِيدِ؛ فَيَجِدُهُ دَائِمًا بِأَيدٍ أَمِينَةٍ؛ إِذ لَم يَبرَح عبدالرحمن الشبيلي مَبنَى التلفزيون يَومًا قَبلَ الثَانِيَةَ عَشْرَةَ مَسَاءً لِفَرطِ تَعَلُقِهِ الشَدِيدِ بِمِهنَتِهِ، وَانْغِمَاسِهِ فِي كُلِّ مَرَاحِلِ العَمَلِ التلفزيوني، مِن غُرفَةِ التَحَكُمِ إلى غُرفَةِ الإِعدَادِ والإِنتَاجِ، حَامِلًا عَلَى عَاتِقِهِ وُصُولَ البَثِ إلى المُشَاهِدِ السعودي فِي أَبهَى صُورَةٍ مُمكِنَةٍ.
شَبَابٌ نَهَاهُ الحِلمُ أَنْ يَتْبَعَ الهَوَى
وَعَزمٌ كَفَاهُ الحَزمُ أَنْ يُتَتَبَّعَا
كانَ نِصف قِوَامِ العَامِلِينَ بالتلفزيون السعودي في بداياته من الشباب السعودي، يَتَقَدَمُهُم الشبيلي؛ الذي كَانَ دَورُهُ مُرَكَّبًا، مُرْبِكًا، صَعْبًا، عَصِيبًا مُضطَلِعًا بِمُوَاءمَةِ بَرَامِج التلفزيون لِتُنَاسِبَ خَصَائِصَ المُجتَمَعِ السعودي آنَذَاك، مُتَحَرِزًا من المَحَاذِيرِ الاجتِمَاعِيَةِ. يقول الشبيلي في سِيرَتِه: (مَشَينَاهَا): إن بِدَايَةَ بَثِّ التلفزيون وُصِفَ بِأَنَّهُ تَجرِيبِيٌّ؛ لتَطمِينِ المُتَحَفِظِينَ على التلفزيون؛ وَرُبَمَا إِيهَامِهِم بِوُجُودِ خَط رَجعَةٍ.
اكتَشَفَ عبدالرحمن إِثرَ احتِكَاكِهِ بِالأَمِيركِيِينَ في التلفزيون، وَبِمُزَامَلَتِهِ سليمان الصالح، حَاجِزًا يُعِيقُ تَطَوُرَهُ؛ هُوَ اللغة الإنجليزية، فَعَزَمَ عَلَى تَجَاوزِهِ؛ إِذ لَمْ يَترُك بَابًا لِلتَطَوُّرِ إِلَّا أَدْمَنَ قَرْعَهُ حَتَّى فُتِحَ لَهُ، فَوَلَجَ إِلَيهِ.
بَعدَ عَامَينِ مِن افتِتَاحِ التلفزيون، واجتِيَازِ مَرحَلَةِ التَأسِيسِ بِنَجَاحٍ، قَررَ الشبيلي السَفَرَ لِدِرَاسَةِ اللغةِ أَولًا؛ ثُمَّ إكمَالِ دِرَاسَةِ الإِعلَامِ، دِرَاسَةً عُليَا.
كَافَأَ الشيخ الحجيلان، الشبيلي بِبَعثِهِ لِلدِرَاسَةِ بالولايات المتحدة الأميركية.
دِرَاسَاتٍ عُليَا.. والتَخَصُّصُ الإعلامُ
لَم يَكُن فِرَاقُ التلفزيون لِوَهلَةٍ هَيِّنًا، يقول الحجيلان: إِنَّ عبدالرحمن الشبيلي يَعشَقُ التلفزيون لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُطِيقُ أَن يَترُكَهُ؛ وَأَنَّهُ (أَي الحجيلان) بَذَلَ مَجهُودًا كَبِيرًا لِإِقنَاعِهِ أَنَّ السَفَرَ لَن يُبعِدَهُ عَن التلفزيون؛ الذي سَيَنتَظِرُهُ لِحِينِ عَودَتِهِ في ثَوبٍ جَدِيدٍ مُتَطَوِّرٍ، وَإِذ يَشعُرُ فِي قَرَارَةِ نَفسِهِ أَنَّ هَذَا مَا يَنقُصُهُ وَيَتُوقُ لِلتَطَوُرِ والتَعَلُمِ؛ فَعَلَيهِ أَلّا يَحزَنَ عَلَى فِرَاقٍ مُؤَقَتٍ لمَعشُوقِهِ الأَوَّل.
تَزَوَّجَ الشبيلي في 20 أغسطس عام 1967م، بِالسَيِّدَة، زكية بنت عبدالله أبالخيل، وذَهَبَا مَعًا لِأَمِيركَا؛ لِيَحصُلَ على ماجستير الإعلام مِن جَامِعَةِ كنساس، عام 1388ه/‏ 1968م، ثُمَّ الدُكتُورَاه فِي التَخَصُّصِ ذَاتِهِ مِن جَامِعَةِ أُوهايو، عام 1391ه/‏ 1971م، وَعَادَ بَعدَ أَربَعِ سَنَوَاتٍ، رِفقَةَ ابنِهِ طلال وَابنَتِهِ رشا، لِيَجِدَ الشيخ إبراهيم العنقري، وَزِيرًا للإعلام، والتلفزيون فِي انتِظَارِهِ.
لقاءات الكبار.. سِجِلُّ التاريخِ وبَصَمَاتُ الإِدَارَة
فَورَ عَودَتِهِ عُيِّنَ الشبيلي مُدِيرًا عَامًّا للتلفزيون، في عام 1971م، لِيَبدَأَ مَرحَلَةً جَدِيدَةً، مُتَسَلِّحًا بِالعِلمِ الذي زَيَّنَ خِبرَتَهُ، فَأُوكِلَ لَهُ تَطوِيرُ التلفزيون السعودي.
ظَهَرَت عَقَبَةٌ جَدِيدَةٌ، إِذ تَمَّ التَعَاقُدُ مَعَ الحكومة الفرنسية لإِحدَاثِ هَذَا التَطوِيرِ في التلفزيون، وَلَمَّا صَارَ الشبيلي عَاشِقًا لِلتَحَدِّيَاتِ، انبَرَى يَدرُسُ اللغة الفرنسية فَأَجَادَهَا، وَتَعَلَّقَ بِفَرَنسَا؛ وَسَكَنَتْهُ ضَوَاحِيهَا، حَتَّى آَخِرَ أَيَّامِهِ.
ارتَبَطَ الشبيلي بِذَاكِرَةِ السعوديين، لِمُشَارَكَتِهِ في صِنَاعَةِ التَّارِيخِ، فَكَانَ أَحَدَ أَهَمِّ الوُجُوهِ التِي أَطَلَّت عَلَى الشَّاشَةِ مُجْرِيًا حَوَارَاتٍ مَع كِبَارِ رِجَالِ الدَولَةِ؛ عَبرَ بَرنَامَج (مؤتمر صحفي)، الذي استَضَافَ الملك فهد بن عبدالعزيز، عندما كَانَ النَائبَ الثَّانِيَ لرئيسَ مَجلِسِ الوزراء، وزيرَ الدَاخِلِيَةِ (1972م)، والأَمير نايف بن عبدالعزيز، يومَ كَانَ نائِبَ وَزيرَ الدَاخِلِيَةِ (1972م)، والمَلِك سلمان، حِينَ كَانَ أَميرَ الرياضِ (1973م)، ووزراء عِدَّة، مثل جميل الحجيلان، وعبدالعزيز الخويطر، وعبدالوهاب عبدالواسع، وغيرهم. وكان عِنوَانُ اللقاءات ثِقَةَ المَسؤُولِينَ بِدَمَاثَةِ الشبيلي، ومِهَنِيَتِهِ.
أَمَّا بَرنَامِجَ (شريط الذكريات)، فهو مَصدَرٌ مُهِمٌ لِكُلِّ بَاحِثٍ جَادٍّ في تَارِيخِ السعودية؛ فَفِيهِ كُنُوزٌ لَم تُسَطِّرْهَا الكُتُبُ بَعدُ، وفِيهِ مَزِيَّةٌ أَنَّ مَن يَسرُدِ الأَحدَاثَ خِلَالَهُ، صُنَّاعُ التَارِيخِ أَنفُسُهُم، فيُحَدِّثُكَ الأمير مساعد بن عبدالرحمن، والأمير عبدالله الفيصل، والأمير سعود بن هذلول، والشيخ عبدالله خميس، والشيخ تركي بن ماضي، وأحمد باعِشن، والشيخ حمد الجاسر، وعلي الفهد السكران، والجَدُّ تركي العطيشان، وغيرهم؛ عن أَحدَاثٍ شَارَكُوا فِي صِنَاعَتِهَا خلالَ عَهدِ التَأسِيسِ.
تَرَكَ الشبيلي بَصمَةً في الإِدَارَةِ تُوَازِي بَصمَتَهُ الفِكرِيَّة، وَلَهُ لَمَسَاتٌ بَاقِيَةٌ، وآثَارٌ مُبَارَكَةٌ لا تَذرُوهَا رِيَاحٌ، إِذ يَفخَرُ تَلامِيذُهُ بِأَنَّهُ أَول مَن أَضَافَ الدُعَاءَ المَنقُولَ مِن الحَرَمِ بَعدَ الأَذَانِ، وَهُوَ تَقلِيدٌ انتَقَلَ إِلَى مُعظَمِ التلفزيونات العربية. كَمَا كَانَ استِشرَافِيًّا في رُؤَاهُ، التي يَنشَطُ لتَسوِيقِ الإِعلامِ عَبرَهَا، في كُلِيَّاتِ الجَامِعَةِ، ودَوَائِرِ الحُكُومَةِ، ليَجلبَ النَّفعَ لِلنَّاسِ.
ومن أَوْلَوِيَّاتِهِ المَحسُوبَة، نَقلَاً عن د. غازي القصيبي، الحَدِيثُ عَن البَثِّ المُبَاشِرِ، والدَعوَةُ إِلَى إِنشَاءِ صُحُفٍ إِقلِيمِيَّةٍ قَوِيَّةٍ تَتَبَنَّى مَصَالِحَ المَنطِقَةِ، وَتَذُودُ عَنْهَا أَمَامَ الهَجَمَاتِ. ولِأَجلِ تَسوِيغِ مَشرُوعِيَّةِ النَصِيحَةِ الأَخِيرَةِ؛ قَالَ القصيبي في كِتَابِهِ (صَوتٌ مِنَ الخَلِيجِ)، قَبلَ أَن يَنصَحَ بِالاِطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الشبيلي: «هُنَاكَ رَجُلٌ في المملكة العربية السعودية اسمُهُ الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي، رَفَعَ صَوتَهُ قَبلَ أَكثَرَ مِن عِشرِينَ سَنَة (في 1972)، مُعلِنًا قُدُومَ عَصرِ الأَقمَارِ الصِنَاعِيَّةِ، وَكَانَ قَدَرِي أَن أَكُونَ مِن ضِمنِ الذِينَ استَمَعُوا إِلَيهِ»، ويَحكِي أَنَّهُم تَشَاغَلُوا عَن نَصِيحَتِهِ، قَبلَ أَن يَرَوهَا رَأيَ العَينِ بَعدَ سَنَوَاتٍ، وخَتَمَ القصيبي قائِلاً، عن الشبيلي: «يَا قَوم! صَدِّقُوا هَذَا الرَجُلَ عِندَمَا يُحَدِّثُكُم عَن الإِعلام».
الأكاديميُّ المُكتَمِل... مَحَلُّ الثِّقَةِ
عَامَ 1977م، انتَقَلَ الشبيلي مِن وزارة الإعلامِ، إِلى وِزَارَةِ التَعلِيمِ العَالِي، حَدِيثَة العَهدِ آَنَذَاك؛ وَبَدَأَ مَسِيرَةً أُخرَى بِتَدرِيسِ الإعلامِ بِجامِعَةِ الرياض (المَلِكِ سُعُود)، والعَمَلِ وَكِيلًا لِوزَارَةِ التَعليمِ العَالِي؛ ثُمَّ أَمِينًا عَامًّا لِمَجلِسِ الجَامِعَاتِ الأَعلَى، 17 عَامًا، نتاجُها مِئَاتُ الطُلّابِ، والعَدِيدُ مِن المَشرُوعَاتِ العِلمِيَةِ، ثُمَّ صَدَرَ الأَمرُ السَامِي بِتَعيِينِهِ عُضوًا في أَوَّلِ تَكوِينٍ لِمَجلِسِ الشُورَى الجَدِيدِ؛ عام 1993م، وَجُدِّدَت عُضوِيَتُهُ ثَلاثَ دَورَاتٍ، خَدَمَ فِيهَا الشُؤُونَ الإعلامِيَّةَ وَالثَّقَافِيَّةَ وَالتَعلِمِيَّةَ، وعِندَمَا غَادَرَ المَجلِسَ، وَثَّقَ مَعَ سَبعَةٍ آخَرِينَ مِن زُمَلَائِهِ الشُورِيِينَ، تِلكَ التَجرِبَة في كِتَابٍ مَنشُورٍ.
تَوثِيقُ الإعلامِ وتَخلِيدُ الأَعلَامِ
لأَبِي طلالَ تَجَارُبُ في الصِحَافَةِ؛ أَهَمُهَا رِئَاسَتُهُ مَجلِسَ إِدَارَةِ مُؤَسَّسَةِ الجَزِيرَةِ الصِحَافِيَةِ، وعُضوِيَتَهُ في أَوَّلِ مَجلِسِ أُمَنَاءٍ مَعرُوفٍ في دُورِ الصحافة العربية؛ وذَلِكَ في الشَّرِكَةِ السعوديةِ لِلأَبحَاثِ والنَّشْرِ، التي تُصدِرُ جَرِيدَةَ (الشرق الأوسط)، ومَطبُوعَاتٍ أُخرَى.
أَمَّا اتِجَاههُ للتَوثِيقِ والتَأْرِيخِ وَكِتَابَةِ سِيَرِ الأَعلَامِ، فَلَمْ يَدُرْ فِي ذِهنِ الشبيلي قبل عَامِ 1992م، أَن يَتَجِهَ لِلتَألِيفِ؛ وَكَانَ أَوَّلُ كُتُبِهِ، سِيرَةَ وَالِدِهِ، وَقُصِرَ على تَدَاوُلِ العَائِلَةِ فقط، ثُمَّ كَانَ الثاني، كِتَابَ تَوثِيق مَسِيرَة الوزير، السفير، ذَائِع الصِيت، أَبي سليمان، محمد الحمد الشبيلي، الذي مَدَحَهُ المَلك سلمان بن عبدالعزيز، قائِلًا: «إِنَّهُ مِنَ المُرُوءَةِ والمَكَارِمِ، وَحُبِّهِ لِلدَولَةِ، وَحِرصِهِ عَلَى الوَاجِبِ، وَخِدمَةِ المُوَاطِنِ، فِي دَرَجَةٍ لَا يُبَارَى وَلَا يُجَارَى». رُبَمَا شَعَرَ د. عبدالرحمن أَنَّ سِيرَةَ الرَاحِلِ الكَبِيرِ، لَم تُوَثَّق كَمَا يَجِبُ، فَقَرَّرَ تَوثِيقَهَا بِنَفسِهِ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ.
إِدرَاكُهُ قِيمَةَ التَوثِيقِ، جَعَلَهُ يَعكِفُ على تَدوِينِ تاريخ الإعلام السعودي، (الصحافة، والإِذاعة، والتلفزيون) مُوَثِّقًا، لَافِتًا النَّظرَ إلى إِنجَازَاتِ الشَّخصِيَّاتِ الفَارِقَةِ في الدَولَةِ السُعُودِيَةِ الثَالِثَةِ، فَتَفَرَّغَ لِلتَألِيفِ فِي مَجَالِ السِّيَرِ والتَرَاجُمِ، حَتَّى أَصبَحَ بِلا مُدَافَعَةٍ مُؤَرِخَ الإِعلامِ السعودِيِّ، وَتَدَفَّقَ إِنتَاجُهُ في هَذَا الشَأنِ فَزَادَ عَلَى خَمسِينَ كِتَابًا، تَتَسَابَقُ فِي مَا بَينَهَا جَودَةً، وإِتقَانًا.
يَقولُ الشبيلي، إِنَّ شَغَفَهُ بِتَوثِيقِ السِيَرِ مَرَّ بِمَرَاحِلَ، إِذ أَرَادَ تَحوِيلَ لِقَاءَاتِ السَبعِينَاتِ التلفزيونيةِ إِلَى كُتُبٍ، فَأَضَافَ إِليهَا قِرَاءَاتٍ وَصُوَرًا وَهَوَامِش، وَأَفَادَ مِن تَجرُبَةِ تَوثِيق سِيرَةِ وَالِدِهِ؛ وَالسَفِير محمد الحمد الشبيلي، ثُمَّ لَاحَظَ لَاحِقًا إِبَّانَ عَمَلِهِ عَلَى تَوثِيقِ الإعلامِ السعوديِّ، ثَغرَةً يَجِبُ سَدُهَا بِكِتَابَةِ سِيَرِ رِجَالاتِ الثَّقَافَةِ وَالإعلامِ، فَانبَرَى لِلمَهَمَّةِ المُهِمَّةِ، وكتب في الصُحُفِ؛ مَقَالَاتٍ عَن كُلِّ شَخصِيَّةٍ على حِدَةٍ، إِلَى أَن نُشِرَت مُجَّزَأَةً في جَرِيدَةِ (الجزيرة)، ثُمَّ مُجَمَّعَةً في كِتَابِ (إعلام وأعلام)، بَعدَهَا تَجرُبَةُ جَرِيدَةِ (عكاظ)، وَثَّقَ فِيهَا لِشَخصِيَّاتٍ تَتَفَادَى الضَوءَ وَتَعزِفُ عَن الظُهُورِ؛ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهَا وَنَشَرَهَا في صُحُف أُخرَى، وَجَمَعَهَا في كِتَابِ (أَعلامٌ بِلا إِعلام)، الذي أصدَرَه في جُزءينِ.
نَالَ الشبيلي على جُهُودِهِ المُمَيَزَةِ، جَائِزَة الأمير (الملك) سلمان لخدمة التاريخ الشفهي وتوثيقه في عام 2003م، وجَائِزَة الأمير (الملك) سلمان التقديرية لبحوث الجزيرة العربية في عام 2014م، وَحَصَلَ على وِسَام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في عام 2017م، ووِسَامِ الملك سلمان عام 2019م.
مَشَينَاهَا.. نَشَرَ سِيرَتَهُ قُبَيلَ الرَّحِيلِ
مَرحَلَةُ التَألِيفِ فِي حَيَاةِ الشبيلي مُهِمَةٌ لِلغَايَةِ، بتأريخِ وتَوثِيقِ سِيَرِ العَدِيدِ مِن أَعلَامِ السعوديةِ بِنَزَاهَةٍ ورَشَاقَةٍ ومَوضُوعِيَّةٍ، أَمَا كِتَابُهُ الأَخِيرُ فَنَشَرَهُ قُبَيلَ رَحِيلِهِ بِشُهُورٍ، وهوَ سِيرَتُهُ الذَّاتِيَّةُ، وعُنوَانها: (مَشَينَاهَا... حِكَايَاتُ ذَاتٍ)، مُقتَبِسًا مِن قَولِ أَبِي العَلاءِ المَعَرِيِّ:
مَشَينَاهَا خُطًى كُتِبَت عَلَينَا
وَمَن كُتِبَت عَلَيهِ خُطًى مَشَاهَا
وَمَن كَانَت مَنِيَتُهُ بِأَرضٍ
فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرضٍ سِوَاهَا
في يونيو 2019م، تَعَرَّضَ الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، لحَادِثِ سُقُوطٍ إِثرَ انهِيَارِ شُرفَةِ شَقَتِهِ بباريس، فَأُدخِلَ المَشفَى بِحَالٍ حَرِجَةٍ، ثُمَّ نُقِلَ بِطائِرَةِ إِخلاءٍ طِبِّيٍّ إلى الرِيَاضِ، وبِهَا أَسلَمَ رُوحَهُ لِبَارِئِهَا، آخِرَ شَهرِ يونيو، فَعَمَّ حُزنٌ قَاتِمٌ عَلَى مَن عَرَفَهُ ومَن لَم يَعرِفهُ، بِمَا شَاعَ مِن كَرِيمِ خِصَالِهِ، وطِيبِ سَجَايَاهُ، رَحِمَهُ اللهُ رَحمَةً وَاسِعَةً.
وانتَهَت رِحلَةُ رَجُلٍ رَاقٍ، وأَدِيبٍ بَارِزٍ، ومُوَاطِنٍ صَالِحٍ، حَيثُمَا حَل تَبَارَكَ المَحَل، وأَخصَبَ المِحَل، رَجُلٍ بَذَلَ عُمرَهُ للإعلامِ والأَعلامِ، والتَوثِيقِ بِالتَفكِيرِ والتَحبِيرِ، فَكَيفَ يُوفِيهِ مِدَادٌ يَسِير؟!
الموقع الإلكتروني
وَفَّق الله أُسرة الدكتور الشبيلي المباركة، إلى العِنايةِ بتراثه، ومن معالم هذا الاهتمام، إطلاق موقع عبدالرحمن الشبيلي على الإنترنت بعد وفاته، رحمه الله، www.alshobaily.com ويَضُم الموقع ثبتاً بسيرته، ومؤلفاته، والكتب التي أسهم مع غيره في إعدادها، وما كتبَ من مقالات ودراسات، مع إتاحة نسخٍ إلكترونية مجانية لبعض كُتبه، وما كُتب عنه من كُتب، ومقالات، وتغريدات، وصور للراحل في مراحل مختلفة من حياته، وصور مكتبته، وإهداءات الكتب التي أهداها له كُتَّابها. وتقوم على الموقع بحماس ودَأب ونشاط ابنته الأميرة شادن بنت عبدالرحمن الشبيلي وفقها الله.
أبناء الشبيلي
ذكرنا أَنَّ عبدالرحمن الشبيلي تَزَوَّجَ زكية بنت عبدالله بن منصور أبا الخيل، رحمهما الله (انتقلت إلى بارئها بعد عام من رحيل زوجها)، وهي شقيقة الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل، وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق، ولهما من الأولاد، ثلاثة، هم:
طلال: انتقل إلى جوار ربه، في حياة والديه، بعد معاناة مع المرض، رحمه الله، وله من الأبناء؛ عبدالرحمن، ونورة، وشادن، وشهلاء.
رشا: ولها من الأبناء؛ فيصل، ونايفة، وصيتة، أبناء رائد بن عبدالرحمن البراهيم.
شادن: ولها ابن؛ هو صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن وليد بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز.
وقد رَزقَ الله الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، أَن امتَدَ نُبلُهُ، وطِيبَ خِصَالِهِ، وحَمِيدَ فِعَالِه، ليَنَالَ أُسرَتهُ كلها، من الأبناء، والأحفاد، والأسباط... ذلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيم.
قِصّة (غُصَّة) تَركِ الإِعلام!
قَدَّمَ الدكتور الشبيلي بَعدَ عَودَتِهِ مَن البِعثَةِ، ثَلاثَةَ بَرَامِجَ بُثَّت على التلفزيون السعودي، كَما رَوى في كتابه: (قِصَّة التلفزيون في المملكة العربية السعودية)، وهي؛ أولًا: (حوار مفتوح)، وبدأ في عام 1391ه (1971م)، واستمرَ عَامًا ونصف العام تقريباً. ثانيًا: (مؤتمر صحفي)، واستمر سنة حتى انتهى الداعي له في عام 1396ه (1976م). وثالثًا: (شريط الذكريات)، وبَدَأَ تَقدِيمُهُ في عام 1397ه (1977م)، وهو برنَامِجٌ تَوثِيقِيٌّ، وَضَعَ لَهُ الشبيلي قَائِمَةً بِمائَةِ شَخصِيَّةِ، لاستِضَافَتهَا، واستَضَافَ مِن القَائِمَةِ نَحوَ 20 شَخصِيَّةً، فبَدَأَ عَرضُ أَوَّل حلقتين مع (الأمير مساعد بن عبدالرحمن)، ثم عُرِضِت حَلَقَةٌ مع (الأمير فهد بن محمد بن عبدالرحمن)، وأُوقِفَ العَرضُ بَعدَهَا، فَلَم تُعرَضْ أَيّ حَلَقَةٍ بَعدَ ذَلِكَ، إِلى يَومِنا هذا. يقول الدكتور عبدالرحمن الشبيلي: «شَكَلَت تَدَاعِيَاتُ هَذِهِ المَسأَلَةُ، الّتِي اختَلَفَت تَفسِيرَاتُها، بِالإِضَافَةِ إِلى الوِشَايَةِ، والظُرُوفِ الإِدَارِيَّةِ، شَعرَةً أَدَّت إِلى انتِقَالِي إِلى وِزَارَةِ التَعلِيمِ العَالِي، مَعَ استِمرَارِ التَدرِيسِ في قِسمِ الإِعلامِ بِجَامِعَةِ الملك سعود». كَانَ الانتِقَالُ في ذَاتِ عَامِ إِيقَافِ بَرنَامجِ (شريط الذكريات) 1977م، بَعدَ أَن قَضَى في الإِعلامِ 14 عامًا، منها سَنَوَاتُ البِعثَةِ الأَربَع، عَاصَرَ خِلالَهَا فَترَتَي وِزَارَةَ جميل الحجيلان، وإبراهيم العنقري، وَعَامَينِ مِن وِزَارَةِ الدكتور محمد عبده يماني للإعلام.
لَكِّنَ الشبيلي، لَم يَبُح يَومًا، بِأَكثَرَ مِمّا ذَكَرَ أَعلاه، فَلَم يَذكُر اسمًا، وَلَا أَورَدَ تَفصِيلًا، بَل إِنّهُ لَم يَتَحَدَّث قَبلَ عَام 2014ه، الذِي نُشِرَ فيهِ كِتابُ (قصة التلفزيون)، بشيءٍ عن المَوضُوعِ إطلَاقًا، مَا يَعكِسُ نُبلَ سُلُوكِهِ، وَسُمُوَ خُلُقِهِ.
حديث الشرايين والرحيل المر
إِنَّ هناك كتابًا مختلفًا عن بقية ما كَتَبَ الدكتور الشبيلي، من كُتُبٍ تجاوزَ عددها خمسة وخمسين كِتابًا، وهو كتاب: (حديث الشرايين)؛ الذي وَثَّقَ فيه رحلةَ ستةَ عشرَ عامًا من مرضِ ابنهِ طلال، ومُعَانَاتُهُ الصَّعبَة في مُوَاجَهَةِ الآَلامِ، والتَنَقُل بين المُستشفيات حَتَّى وَفَاتُهُ، التِي كَانَت أَصعَبَ مَا مَرَّ بِهِ الوَالِدُ عبدالرحمن في حياتهِ كُلِّها، وطَبَعَت عَلَيهِ مَسحَةَ حُزنٍ لَم تُفَارِقهُ أبدًا. إِنَّ أَثَرَ الحُزنِ الذي مَلأَ فُؤادَ أَبي طَلال على رَحِيلِ طَلال، كَانَ غَائِرًا، وَرُبَمَا زَادَ من أَثَرِهِ، حِرصُ الوَالِدِ، على إِخفَاءِ هَذَا الحُزنِ، وَعَدَمُ بَوحِهِ بِهِ لِأَحَدٍ مِن النَّاسِ، ضِمنَ أَدَبِهِ، رحمه الله، وحِرصِهِ على أَلّا يُؤذِيَ أَحَدًا، بِمشَاعِر، يعتبرها خَاصَةً بِهِ، ولا يَنبَغِي أَن يُزعِجَ غَيرهُ بِها!
يُمكِنُنَا أن نلحَظَ مدى تَأَثُره بوفاةِ بِكرِهِ، وولَدِهِ الوَحِيد، في قَصِيدَةٍ كَتَبَهَا بمناسبةِ مَولِدِ سِبطِهِ (ابن ابنته) بدر، الذي لَم يُمهِل القَدَرُ خَالَهُ طَلال لِيَرَاه.
وبدأ القصيدة، بقوله:
يا بَدرُ، جِئتَ وفِي فُؤَادِي لَوعَةٌ
كنتُ اصطليها أَزمنًا وشهورا
ولقد أَضَأْتَ على ظَلامِي شُعلَةً
سَطَعَت فَحَوَّلَت الهُمُومَ سُرُورَا
يَا بدرُ أَنتَ على الحَيَاةِ بَصِيرَتِي
قَد جِئتَ تُكمِلُ ضَوءَهَا وَالنُورَ
أَتمَمتَ أَحفَادِي، فَأَنتُم عُترَتِي
وَبِكُلِّ أَولادِي امتَلَأتُ حُبُورَا
ثم خَتَمَها بِبَيتِ القَصِيدِ، قائلاً:
كَم كُنتُ أَرجُو أَن يَرَاكَ حَقِيقَةً
فَطَلالُ أَولَى مَنْ يَرَاكَ حُضُورَا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.