مدرب توتنهام : لا ارغب في تعطيل سعي أرسنال للتتويج    جامعة حائل: اختبار «التحصيلي» للتخصصات النظرية شرط للقبول السنوي للعام الجامعي 1446    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    أمطار خفيفة على منطقتي جازان وحائل    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. البنك الإسلامي للتنمية يحتفل باليوبيل الذهبي    مطار الأحساء يطلق رحلة إضافية مباشرة لدبي    اتفاقيات مع الصين لبناء آلاف الوحدات السكنية    عسير تكتسي بالأبيض    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    بيانات التضخم الأمريكي تصعد ب"الذهب"    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    بينالي البندقية يزدان بوادي الفنّ السعودي    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    إغلاق منشأة تسببت في حالات تسمم غذائي بالرياض    الأحمدي يكتب.. الهلال يجدد عقد السعادة بحضور جماهيره    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    شركة TCL توحّد على نحو استباقي شركائها العالميين من أجل تحقيق العظمة في مؤتمر الشركاء العالميين لعام 2024    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 686 مليون ريال    وفاة الأمير منصور بن بدر    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الإعلان عن تفعيل الاستثمارات المباشرة وانطلاق العمل الفعلي في صندوق "جَسور" الاستثماري    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    منتخب اليد يتوشح ذهب الألعاب الخليجية    ريال مدريد يهزم سوسيداد ويقترب من التتويج بالدوري الإسباني    جيسوس يفسر اشارته وسبب رفض استبدال بونو    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    «الدفاع الروسية» تعلن القضاء على ألف وخمسة جنود أوكرانيين في يوم واحد    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    رؤية الأجيال    "الشؤون الإسلامية" ترصد عددًا من الاختلاسات لكهرباء ومياه بعض المساجد في جدة    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    "السينما الصناعة" والفرص الضائعة    محمد بن عبدالرحمن: طموحات وعزيمة صادقة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    إغلاق فروع منشأة تجارية بالرياض بعد رصد حالات تسمم    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    «مكافحة المخدرات» تقبض على شخصين بالقصيم لترويجهما مادة الإمفيتامين المخدر    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية سعودية-سوداني..أصدارات جديدة (تغسل الدموع بالدموع والعرق بالعرق) ..فخاخ الرائحة.. الرواية التي كتبت بالأنف
نشر في مسارات يوم 22 - 09 - 2011

«فخاخ الرائحة» للكاتب السعودي يوسف المحيميد وهي رواية سعودية-سودانية لأن مكانها مشترك بين السعودية والسودان , وقد حلت الرواية في المركز الثاني في جائزة ميشالسكي السوسرية العالمية للآداب .
« في كتاباتها شيء ما, يثير الاهتمام, لكنها في اعتقادي ليست كاتبة عظيمة»
(الطيب صالح , عن الكاتبة الأمريكية توني موريسون)
« هذه أول رواية سعودية عظيمة»
(الناقد الأمريكي بنجامين ليتل , عن رواية «فخاخ الرائحة»)
* لابد أن للطيب صالح, ذى البصيرة النقدية الباصرة, رؤية معينة لكيف تكون الكتابة»عظيمة». لكن, من المؤكد, أن فكرة العظمة تتجاوز مجرد الكتابة عن موضوع مهم أو كبير أو عن مأساة تاريخية ما. عظمة «الفخاخ» تتوامض في هذه الروح الشاهقة الكبيرة التي تجيئك من داخل تجاويف النص, ومن بين ثناياه المتعرجة. عظمة فيما تنشده الرواية, وفيما تنزع إليه, وما تحوم حوله وتنفذ إليه بقوة ولهفة حاسمتين في نهاية المطاف. وعظمة, تتجلى أيضا, في هذا القدر من الشراسة التي تهجم بها هذه الرواية القصيرة المكتنزة , على الواقع الاجتماعي وتنهال عليه , بلا رحمة , فضحاً وتعرية وسخرية. وعظمة تتجلى مرة أخرى, في هذا النبل وهذه الروح «الساذجة» (بالمعنى الروحي الصوفي للسذاجة, وليس المعنى العادي) التي يتسم بها أبطالها المهمّشون والمدهوسون (توفيق وطراد وناصر), الذين يمضون, وهم يغنّون تحت وطأة مجتمعات قاهرة لا ترحم. رواية عظيمة, ربما, لأنها واحدة من تلك الروايات, التي تسعى إلى «تخليد الألم ونفيه في الوقت ذاته» , كما يقول القاص/الناقد العراقي نعيم شريف, في سياق قراءته لرواية صنع الله إبراهيم « تلك الرائحة».
الرائحة .. مصدر الفعل الخلاّق, ونتيجته الكارثية معاً
« لا شيء أكثر استدعاءً للذكرى، ولا أكثر رسوخاً في الذاكرة من الرائحة...الاختبار الحقيقي للكُتاب, يكمن في قدرتهم على استخدام حاسة الشم» ( ديانا أوكرمان, من كتاب: التاريخ الطبيعي للحواس .( Natural History of the Senses
« إذا أردت أن تكون كاتباً مختلفاً, فاستخدم الشم والرائحة في سردك» (الكاتبة البريطانية آيسي سيدويك).
« الوردة تصنع عطرها بجهدها الخاص... ورائحة الجسد البشري..هذا العرق المالح.. هو حاجة الأنا للآخر» (عيسى الحلو, معجزة ألا يكون الإنسان وردة)
أهمية حاسة الشم
*لحاسة الشم أهمية قصوى دائمة في حياتنا. وفي الحضارات القديمة خاصة النيلية والهندية القديمة, ارتبطت بعض العقائد والعبادات بطقوس معينة تستخدم فيها الرائحة. وطبياً, هناك العلاج بالرائحة وطب الروائح (Aromatherapy), الذي يرتد إلى زمن ابن سينا (كتاب الشفاء). وأمنياً, بعض المطارات صارت تستخدم «شمّامات الكترونية» للكشف عن المواد غير المسوح بها, وتستخدم مثل هذه الشمّامات لأغراض تشخيص بعض الأمراض أيضاً. وفي بعض الدول, تبث بعض المحال التجارية الراقية, عطوراً معينة تلهب شهية الزبائن الشرائية. وفي المجال التربوي, تؤكد دراسات وتجارب عدة, أهمية استخدام الشم كوسيلة تعليمية فعاًلة تزيد من الدافعية والاستيعاب. وللكاتبة الكويتية فوزية الدريع كتاب ماتع بعنوان (الرائحة والجنس 2008).
* نادرة هي الكتابات السردية المكتوبة بالأنف. الكتابة بالأنف, صعبة , لأن الشم حاسة تنطوي على قدر وافر من الذاتية , عكس البصر والصوت, الحاستان اللتان استهلكتا في الكتابة الإبداعية. «فخاخ الرائحة», شأن روايات قلة في العالم, كالعطر لزوسكند (للكاتب عيسى الحلو قصة قصيرة هي - معجزة ألا يكون الإنسان وردة- تقوم كلها على الرائحة), تعتمد أساساً على حاسة « الشم», كإستراتيجية فنية- سردية , تمثل حقلاً كبيراً لإنتاج وتدوير المعنى السردي. براعة التوظيف للرائحة , في هذه الرواية واضحة جداً. فكل أبطال الرواية وشخوصها المركزية , خاصة (طراد وتوفيق وناصر) , تقودهم رائحة معينة غامضة هائلة نفاذة لا تقاوم, وليس لقوتها وتستدرجهم لاحقاً إلي قدرهم المأساوي ومصيرهم المحتوم, و الذي يظلل بعد ذلك, حياتهم بالكامل. توفيق تقوده رائحة الشواء «الدوّاخة» إلى فخ تجار الرقيق الذين يبيعونه لا حقاً إلى أثرياء القصور في جدة, مثلما تقوده رائحة مخدرة أخرى, إلى «قطف الثمرة التي بين رجليه», ويتم إخصاؤه لكي يعمل في القصور. وطراد ونهار- وهما قاطعا طريق في الصحراء- تقودهما رائحة صاعقة لا تضاهى, إلى قافلة الحج المتجهة إلى مكة , ويقبض عليهما ويدفنان في الرمال حتى رأسيهما. ثم هي الرائحة المجنونة ذاتها, التي تقود إليهما, الذئب النهم في ليل الصحراء الموّاج الفسيح, فيلتهم رأس نهار كله, ويقضم أذن طراد. وهي ذاتها الرائحة النفاثة النفاذة الفوّاحة التي تقود , طراد وهو يعمل لا حقاً , سائق تاكسي, إلى الوقوع في فخ علاقة رومانسية مع فتاة, لكي يمارس معها علاقة حسية مجنونة في زقاق, ينتج عنها لاحقاً الابن غير الشرعي, الذي تعطيه دار الرعاية اسم(ناصر عبد الإله) , وهي «تلك الرائحة», ذاتها, التي تقود تلك القطة ذات المواء الأجش, لنهش عين الصغير ناصر, وهو مرمي في كرتون موز, بالقرب من مسجد قديم, في أحد أحياء الرياض. الرائحة إذاً, في تجليها المركزي, هي مصدر الفعل الخلاق في الرواية, ونتيجته الكارثية المأساوية معاً.
الصحراء.. وثيقة الفعل/الألم الكبير
« الصحراء خليفة الله في الأرض» (إبراهيم الكوني)
الصحراء.. تبرز متجلية في»الفخاخ» بوصفها ساحةً للفعل الكبير. الصحراء محور أساسي وحاسم في تشكيل الشخوص والأحداث والمآلات. الصحراء هنا .. مثل البحر عند الرومانتيكيين.. حديقة زاهية للخير والشر معاً. الصحراء فاتنة وقاسية.. ساحة للفعل الكبير, وساعة للزمن الكبير , وسِجل خالد للألم الكبير. صحراء المحيميد, تشبه صحراء عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني , ولا تشبهها في آن. صحراء صاحب «الفخاخ», مثل صحراء الكوني (صاحب : نزيف الحجر, وصحرائي الكبرى, وعشب الليل, وخريف الدرويش), تمثل فضاءً للحرية والانطلاق والعودة للأصل والتجدد الإنساني. وهي كصحراء منيف صاحب (خماسية «مدن الملح» الشهيرة), آلية لمعاينة المجتمعات, في سياقها السياسي الاجتماعي النفطي المتحول. لكنها أيضاً, وعميقاً, ساحة للفعل المصيري الكبير .. والفعل الكبير لابد فيه من مكونات التناقض. وهو كبير بنتائجه الهائلة, سلباً وإيجابا. في الصحراء, نتعرف على نبل طراد ونهار (صديقا الذئاب), وفيها يتم دفن طراد ونهار في الرمال القاسية حتى رأسيهما (ما أقسى أن يكون الإنسان مورطاً و»مزنوقاً» في مكان فسيح كالصحراء). وفيها أطلق نهار تلك الصرخة التي رجت كل كيان الكون, أطلقها وهو يرى صديقهما «سابقا»ً الذئب (سرحان), يلتهمه التهاماً. وفي الصحراء, ترك طراد ألمه الذي لا ينتهي.. أذنه التي قضمها ذات الذئب الجائع.
رذاذ الكلمات.. دموع الطلح والرمل والشلفح
* تنفرد «فخاخ الرائحة» برائحة كلماتها الخاصة. المحيميد يسك لغة فائحة الجمال, ومفردات رذاذية دُعاشية خاصة تنهل من معين ما يمكن وصفه بالواقعية-الصحراوية- الرومانسية-الجديدة ,» لم تكن قطرات العرق الطافحة في فروتي رأسيهما, وعلى عنقيهما, بسبب خوفهما من الموت عطشاً, وهما مدفونان في شراسة الرمل, بل كان يشعران أن لحظة الانتقام قد حلت.. شجيرات الشلفح التي بدأت تزحف نحوهما دونما اكتراث, وحتى الرياح لم تحفظ رائحتهما داخل جيوبها الكثيرة, بل إنها أمعنت في سوق رائحتهما الآدمية صوب كل سباع البر.. ها هو الذئب سرحان يهبط من تلة الهامل المشرفة على درب الشلفح.. الذئب جاء. همس نهار برعب واضح وبصوت متقطع, على بعد خطوات قليلة وهو يمشي كأعمى تقوده الرائحة. ولحظة أن رآهما , أو رأى رأسيهما النابتين من الرمل, انسحب بجذعه قليلاً عن الأرض كما لو كان سيختبئ عن الطريدة.. زعق نهار وهو يحاول أن يحرر وجهه من شراسة الذئب. زعق حتى ارتبك الرمل, وبكى الطلح البعيد, وأغمض الشلفح وهو ينكمش على أغصانه بحياء, وحاول الرمل أن يخفف قبضته على جسديهما, لكن الوقت لم يعد كافياً ليتحررا من جوع ذئب البراري» (ص, 122-123). هي إذا, رائحة الكلمات التي تأتي من « توظيف اللغة في أعلى طاقاتها» , كما قال الكاتب نفسه, متأملاً ملامح جماليات اللغة في رواياته.
أصوات خلفية
« دائماً كنت أتساءل كيف أكتب هذه الأحداث؟.. إنني أكتب بشهوة غريبة... كمن يغسل العزلة بالكتابة» (يوسف المحيميد, جريدة الرياض, 2004).
* تفيد الرواية أيضاً من تعقد مفهوم (الصوت Voice) في السرد الحديث. استخدم الكاتب ضمير المخاطب (أنت) في السرد, و استخدام هذا الضمير, ليس واسعاً في السرد, وهو عموماً يكثر في سرود وقصائد ما بعد الحداثة. أبطال المحيميد يبتعدون ببطء عن (أنواتهم) ويشطرون ذواتهم برفق, عن طريق مخاطبتها بضمير المخاطب, متيحين بذلك للكاتب, مياهاً محايدة يبحر فيها بحرية.. وغرفة خاصة للأقنعة والأزياء والطواقي الملونة المتعددة. عبّر الروائي الصومالي الكبير نور الدين فرح, الذي سبق له العيش في السودان والتدريس في جامعة الخرطوم, عن إعجابه بهذه الرواية (قال عنها أنها رواية لا تقاوم). وفرح من الكتاب القلائل الذين يجيدون السرد بضمير المخاطب, خاصة في روايته (خرائط Maps ) بيد أن, سكان «فخاخ الرائحة» يتحدثون إلينا أيضاً, وكثيراً بضميري المتكلم والغائب. تعدد أصوات الحكي هذا, يعكس تعدداً في الهويّّات (طراد وتوفيق وناصر). ويتجلى ذلك رمزياً, فيما يسميه الناقد المغربي خالد الدهبية «بعنف التسمية» حيث تم تغيير اسم توفيق حينما سلبت حريته, وناصر منح اسماً بناءً على حساب وثائقي افتراضي. التسلط اللغوي- متمثلاًً في عنف التسمية- يأتي هنا كمؤشر للتسلط الاجتماعي وامتداد له في الوقت ذاته. لكننا, حين يأتي السرد بضمير المخاطب, نكاد نلمح صوت الكاتب, ونتحسس موقفه وعواطفه الإنسانية الجرّافة تجاه شخوصه المسهوكين حتى التلاشي. هنا لقطة من هذه التعددية الصوتية المشتبكة مع التعددية الهوياتية في النص.. نسمع طراد يقول لابنه الافتراضي-الحقيقي ناصر: «الفرق بيننا يا ناصر اللقيط الملقوط ، أنك فقدت عينك بسبب الأذن ، وأنا فقدت أذني بسبب عيني ، عيني التي دمعت في ليل صحراوي ساكن ، فطارت أذني على أثر تلك الدمعة !!أما أنت فقد طارت عينك بسبب حاسة السمع اللعينة ، فلولا أن أمك « صالحة « كما أسموها لم تغو أباك « عبد الإله « كما اقترحوا هذا الاسم, وانصاع لصوتها العسلي الناعم, ثم ضاجعها مرارا حتى كنت أنت البذرة ، قبل أن تجد نفسك في تلك الليلة, مرمياً في كرتون موز قرب مسجد ابن الزبير, فقدت على إثرها عينك اليمنى, بسبب ربما كلب أو قطة ضالة وجائعة في ليل المدينة فنهشت عينك دون أن تملك غير الصراخ والبكاء ، تماما كما كنت أنا, لم أملك في ليل الصحراء الموحشة غير البكاء, وقد طارت أذني اليسرى بسبب دمعة !! آه يا « طراد « لو حبست هذه الدمعة وحافظت على أذنك في مكانها؟ «!!(ص,42). ونسمعه مرة أخرى يخاطبه في يوم عيد ميلاده: « أي عيد؟ أي ميلاد أيها السيد النبيل, أيها الناصر, وهل ثمة احتفال بيوم تشردك وضلالك؟ هل تحتفل بيوم مولدك في كرتون موز ملقى في ناصية الشارع؟» (ص, 82).
*استخدام ضمير المخاطب(أنت) في هذه الرواية , منح الكاتب فضاءً سردياً واسعاً لتناول تشابكات الأنا والآخر, من حيث المفهوم ومن حيث العلاقات معاً , وهي من القضايا التي تشغل الكاتب كثيراً. يقول الكاتب في ورقة قدمها في الجزائر عن الأنا والآخر في الخطاب السردي: «هكذا تبدو مسألة الأنا والآخر متشعبة ومتعددة إلى درجة يصعب التحكم في قيادها داخل النص، هكذا أحلم أن تتحرَّر الأنا في الخطاب السردي من صورتها الجاهزة، وأن نكتشف الآخر أيضاً بعد أن نتخلَّص من رؤانا السابقة، هكذا أنتظر أن تظهر «أنا» جديدة ومغايرة للسائد والمألوف في الخطاب السردي العربي».
شظايا الأزمنة
« أزعم أن يوسف المحيميد, واحد من هذا العدد القليل (من الروائيين) الذي حقق نجاحاً في تهشيم الزمن, واللعب على مفارقاته الغريبة» ( الشاعر اليمني, عبد العزيز المقالح).
* وتظهر براعة المحيميد, أيضاً في هذه القدرة الحاذقة على التعامل مع عنصر(الزمن). زمن المحيميد, زمن جوال ودوّار, وليس مجبولاً على الاستقرار. يرتبط فيه الماضي والحاضر بميثاق غليظ. تكون في صالة انتظار حافلات سفر في الرياض, فينقلك فجأة إلى زمن توفيق في وسط السودان, ثم إلى قلب الصحراء حيث الفتى الجبار «طراد» يجول ويصول .. يقطع الطريق ويصادق أشجار الشلفح والثعابين والذئاب.. ثم تجد نفسك فجأة ,في زمن ما قريب في الوزارة التي كان يعمل فيها طراد أو في موقف سيارات الأجرة جوار البطحاء في الرياض.. ثم في قصر مشيد في الرياض .. ومرة أخرى في سوق «الرقيق» في شندي(زمن الرواية الواقعي التاريخي), حيث يباع الصبي «حسن», قبل أن يُهرّب إلى الجزيرة العربية ويُعطى الاسم «توفيق» , ثم تنقلنا الكاميرا مرة أخرى, إلى الحصاحيصا , وإلى قرية «أم هباب» بالسودان. تقطع الرواية أميالاً زمنية هائلة , ما بين بدايتها في صالة الحافلات في الرياض, وما بين خروج طراد من المحطة, بعد أن قرر عدم السفر من «الجحيم» , وهو يتأمل ليل الرياض قبيل الفجر, متجهاً إلى بيت صديقه توفيق. يندرج هذا الأسلوب في إطار ما يعرف « بالواقعية-السينمائية-الجديدة», ويفيد من تقنيات السينما المعروفة, مثلما يفيد من اهتمام الكاتب بفن الصورة, ودراسته للتصوير الفوتوغرافي في انجلترا (تحديداً أفاد من فكرة أن تقنية الكاميرا ليست كافية, ولابد من «رؤية» المصور, أي أن المصور نفسه تقنية رؤيوية- روحية قائمة بذاتها).
ديموغرافيا مدينة «الفخاخ»
* إلي جانب حاسة الشم, يفيد الكاتب كثيراً من الأدوات المُعِينة على شحذ الذاكرة , خلال محاولته رسم شخوص «الفخاخ» , فطراد والعم توفيق وناصر عبد الإله يواصلون معنا العيش والبقاء بعد قراءة الرواية بزمن طويل. ها نحن نتذكر هدوء وحكمة توفيق..صمته الخلاق .. السر الكبير الذي يحتفظ به داخل صناديق دخيلته المغلقة بإحكام.. عمله في القصور «خادما وسائقا وبستانياً».. مداعبته للبدوي «أبو لوزة» الذي كان يعمل حارساً للقصر , ليكتشف لاحقاً أنه هو ذاته (طراد).. نتذكر فترته مع خيرية بنت العطار..تلك الفاتنة السحّارة التي ضاجعت أو ضاجعها القمر. نتذكر حاله وهو ? تماما كبطل «تلك الرائحة» الخارج من السجن والذي يقرر العودة ثانية إلى السجن, بدلاً من البقاء خارجه ? يقرر توفيق العودة إلى القصر , حتى بعد صدور القرار الملكي بتحرير جميع العبيد- ولكنه يُرَد على أعقابه, فيمسي (مثل طير يفتح له باب القفص, فلا يطير). هنا بعد فلسفي عميق لمفهوم الحرية , يقارب ما يقوله عنها الفيلسوف الدنماركي كيركقارد, من أنها في الواقع قد تكون»عقاباً» ( punishment, not a reward a). ونتذكر المسكين طراد .. أذنه المقطوعة.. ألمه السرمدي الكبير.. فروسيته وعشقه للصحراء (وقت أن كان طراد وحيداً في الصحراء , صادقته الكائنات كلها. الرمل استحال له فراشاً. الكثيب والتل والنفود عرفته جيداً, كما فتحت له الدحول صدورها واحتوته.. عرفته الفياض والخبارى. ظللته أشجارالطلح والعوشر والسدر, ص 94).. نتخيل أمه, تيكم الخَرِفة «خزنة», والسر المدفون في بئر هذيانها النبيل.. نسترجع أخاه سيفاً , ذاك الذي اختطفته ذات ليل, «جنيّة» نهاية في الجمال.. نتذكر معاناته وصبره الشامخ على سخافات وصفاقات الموظفين في مبنى الوزارة.. ابنه الذي يراه ماثلاًً أمام عينيه, ثم لا يستطيع أن يقول له الحقيقة (نظر نحوه طراد لحظة أدبر يعلق حقيبة الكتف.. لم يصوّت له, ولم يتبعه, بل ظل يتأمله حتى ذاب في زحام الطوابير المتتابعة نحو الحافلة, ص 128). نذكر مصارعته المتكافئة لصديقه نهار ذات ليل, ووفاءه الأكيد له. ونتذكر بألم عارم, الطفل .. ناصر عبد الإله.. عينه الواحدة.. معاناته في دار الحضانة.. وخروجه باكياً بعد ذلك, من قصور ذوي النفوذ والسلطة والمال الذين تبنوه..ونتذكر بحسرةِ راسخة, ذكاءه, مَلاحته, وحبه للحياة وقدراته الهائلة المهدرة.
معرفة مدهشة بالسودان.. مع بعض الهنّات !
* كسوداني, أدهشتني معرفة الكاتب الكبيرة بالسودان والثقافة والقبائل السودانية, لدرجة أغنيات الحقيبة (كرومة وسرور وخليل فرح) وأغنية الكاشف (حبيبي أكتب لي وأنا أكتب ليك, بي الحاصل بي والحاصل بيك) , التي أورد منها مقاطع كاملة في الرواية. المحيميد , وهو عاشق للطيب صالح, ولد ونشأ في أحياء الرياض القديمة كالشميسي وعليشة وأم سليم , وهي كلها قربية من حي «غبيرة» الشعبي العريق, العاج بالسودانيين.. كأنك في «السوق الشعبي أم درمان». ولا بد أن الكاتب, إلى جانب القراءة الواسعة, قد استقى كثيراً من معلوماته المدهشة عن السودان من أصدقائه في «غبيرة».
لكن ثمة هنّات خفيفة يجدر بنا الإشارة إليها: كلمة (جلاّبة) تنطوي على ظلال عنصرية في السودان, ظل الناس يستخدمونها في أقاليم وأطراف البلاد المختلفة, تجاه أهل الشمال النيلي والوسط باعتبارهم الفئة التي استأثرت بالثروة والسلطة في السودان منذ استقلاله, وهي تسبب نوعاً من الحساسية لسكان ومثقفي الشمال النيلي والوسط. والكلمة, التي اكتسبت لاحقاً, معنى سياسياً وصارت ترمز لهيمنة مركز السلطة على الأطراف وسوء إدارة الدولة للتنوع الإثني والديني والاجتماعي, لا تعني بالضرورة (تاجر رقيق) التي أرادها الكاتب , وكان ينبغي استخدام كلمة (تجار رقيق), بدلاً عن كلمة (جلاّبة), لأن الجلاّبي ليس بالضرورة تاجر رقيق, كما وليس بالضرورة أن يكون الأخير جلاّبياً, ونسبة لحساسية الكلمة في السودان والجدل الذي تثيره (نقول ذلك دون أن نحجر على الرواية حقها, في الملاحة في المياه «المحرمة» !!). ويرى الحاج وراق, أن أول من استخدم مصطلح «الجلابة», كمفهوم «سياسي- طبقي-اثني», كان هو عبد الخالق محجوب (وهو نفسه «شايقي»- ومن زعماء ومثقفي الشمال النيلي والوسط) وكان ذلك «للدلالة على فئة التجار من قبائل الشمال النيلي التي تستثمر في الأقاليم المهمّشة ولكنها لا تعيد توظيف أرباحها الناجمة عن التبادل غير المتكافئ في هذه الأقاليم, مما يعيقها عن التنمية ويشكل استغلالاً لها». وانتقد وراق الاستخدام «الجزافي» لمفهوم الجلاّبة الشائع الآن في السجال السياسي السوداني. واسهم الزعيم الراحل جون قرنق في تعميق الحوار السياسي حول المفهوم خاصة بعد الورقة التي قدمها في كمبالا( 1993). وللكاتب السياسي زين العابدين صالح, إسهاماً مهماً في تحليل مفهوم «الجلابة», من خلال تحليله للخطاب الفكري-السياسي للحركة الشعبية (2000).
وثمة هنّة أخرى, هي أن عرب الكبابيش يعيشون في شمال كردفان, وليس في بادية البطانة- كما جاء في الرواية- والتي يسكنها عرب الشكرية, وكليهما يملك ضرباً من أجود أنواع الجمال في العالم, ويمتازون بفخرهم بقيم الفروسية والشجاعة والكرم والإيثار. عبد الماجد عبد الرحمن - الراي العام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.