محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    البرازيل تمدد محادثاتها بشأن قضايا خلافية في قمة المناخ    المنتخبات السعودية ترفع رصيدها إلى 22 ميدالية في دورة ألعاب التضامن الإسلامي    تحذير فلسطيني من تهجير قسري في قلنديا ينتهك القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف    تراجع أسعار الذهب 0.1 %    عقد شراكة بين فرع الهلال الأحمر السعودي وبيت الثقافة بمنطقة نجران    المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء في جميع مناطق المملكة    ورشة استراتيجية مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة 2026–2030    كمبوديا وتايلاند تتبادلان الاتهامات بالتسبب بمواجهات حدودية جديدة    محافظ القطيف يرعى انطلاق فعالية «منتجون» للأسر المنتجة    الرياض تحتفي بانطلاق البطولة العربية للجولف للرجال والرواد    كريستيانو رونالدو: المونديال القادم هو الأخير لي    رئيس برشلونة ينفي تقارير عودة ميسي    100 ألف وظيفة تستحدثها بوابة الاستثمار في المدن    صندوق الفعاليات الاستثماري يعزز قطاعات الرياضة والثقافة والسياحة والترفيه في المملكة    المرور يستعرض أحدث التقنيات في إدارة الحركة المرورية بمؤتمر ومعرض الحج    «أفواج جازان» تقبض على مخالفَيْن لنظام أمن الحدود    ستة معايير سعودية تقود عملية تطوير مؤسسات التعليم العالي عربيًا    ذاكرة الحرمين    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    الصادرات السعودية في معرض جاكرتا    وزير الخارجية يستعرض مع نظرائه الأمريكي والهندي والألماني المستجدات    في دور ال 32 لكأس العالم للناشئين.. مواجهات صعبة للمنتخبات العربية    في الميركاتو الشتوي المقبل.. الأهلي يخطط لضم الألماني«ساني»    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    وسط جدل سياسي واسع.. الرئيس الإسرائيلي يرفض العفو عن نتنياهو    أوروبا وكندا تدعوان لتنفيذ اتفاق غزة    الوكالة الذرية تفقد القدرة على التحقق من مخزون اليورانيوم الحساس    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء اليوم    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    تجربة الأسلحة النووية مرة أخرى    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    نوّه بدعم القيادة لتمكين الاستثمارات.. أمير الشرقية يدشن أكبر مصنع لأغشية تحلية المياه    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    نفذتها "أشرقت" بمؤتمر الحج.. وكيل وزارة الحج يدشن مبادرة تمكين العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    القيادة تعزي الرئيس التركي    فيصل بن فرحان ووزيرة خارجية كندا يستعرضان العلاقات وسبل تعزيزها    تعزيز التعاون الإعلامي بين كدانة وهيئة الصحفيين بمكة    فرحة الإنجاز التي لا تخبو    أمير جازان يشهد انطلاق أعمال ورشة الخطة التنفيذية لمنظومة الصحة 2026    "تنظيم الإعلام" تقدم مبادرة "التصريح الإعلامي المبكر" ضمن مشاركتها في مؤتمر ومعرض الحج    وزيرا الثقافة والتعليم يدشنان أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    جلسة حوارية حول "الاتصال الثقافي بين السعودية والصين" في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود    خادم الحرمين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء بجميع أنحاء المملكة يوم غدٍ الخميس    وزير الصحة السعودي: الاستطاعة الصحية شرط الحصول على تأشيرة الحج    تحسين متوسط العمر في ضوء رؤية 2030    المفتي يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء غداً    «محمية الإمام» تطلق تجربة المنطاد    دراسة: فيروس شائع يحفز سرطان الجلد مباشرة    بدء التسجيل لجائزة سلامة المرضى    أمير نجران يستعرض تقرير "التجارة"    أمير المدينة يتفقد محافظة المهد    علاج جيني واحد يخفض الكوليسترول    أقراص تطيل العمر 150 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية (الأثير ل (إإيمان بقاعي ) حلقة ( 4 - 16 )
نشر في جازان نيوز يوم 27 - 03 - 2021


- محمد المنصور : الحلقة السابقة
ولم تشأْ أن تعودَ إلى البيتِ؛ بل لم تشأْ أن تخفَّ "العَجْقَةُ" المتيحةُ لها فرصةَ البقاءِ مع ذاتِها. وإذ بأمنيتِها تتحققُ عندما قطعَ الطّريقَ مجموعةُ صبايا وشبابٌ من الثُّوارِ يحملون الأعلامَ اللّبنانيةَ متجهينَ إلى مطْعَمٍ عَرَفوا بوجودِ سياسيٍّ فيه ممَّن ثاروا ضدَّهم قبلَ أكثرَ من سنةٍ رافعينَ شِعَارَ: "كلُّن يعني كلُّن" بغيةَ محاصرتِهِ فمُداهمتِهِ لطردِهِ وسطَ غضَبٍ شعبيٍّ متزايِدٍ يؤازرهم. فحوصِرَ المسؤولُ، وصفَّقَ المارَّةُ مشجعينَ ومُطلقينَ هُتافاتِ: "ثورة، ثورة، ثورة"! وسُرْعانَ ما فُتِحَتْ نوافذُ السّياراتِ وهتفَ كلُّ مَن فيها- بما فيهم هي- الهتافَ ذاتَهُ إلى أن انتشرَتِ القوى الأمنيةُ وحَمَتِ السّياسيَّ الهاربَ ماشيًا مشيةً جانبيَّةً كمشيةِ سَرَطانٍ، مخفِضًا رأسَهُ، متَّكِئًا بِتَهَيُّبٍ على صدورِ مرافِقيهِ وشبابِ الأمْنِ حتى وصلَ إلى سيارتِهِ التي رُشِقَتْ بالبيْضِ والبندورةِ ثم ما لبثَتْ أن انطلَقَتْ كصاروخٍ؛ وبعد أن تفرّقَ الثّوارُ وفتُحَتِ الطّريقُ أمامَ السّياراتِ، أخذَتْ طريقًا فرعيًّا وعادَتْ نحو "بيروتِه" هو، إلى أمكنتِهِ هو؛لم تتوقَّفْ طويلًا عند سِرِّ تصرّفها هذا، ولم تشأ أن تضيِّعَ الوقتَ في تحليلِه، وإن خطرَ ببالِها أنها إنما تفعلُ ما تفعلُ سعيًا وراءَ تذكُّرِ تفاصيلِ قصتِهِما التي مارسَتْ معها اليومَ لعبةً فاقَتْ قدْرَتَها على التَّوقُّعِ والاسْتيعابِ.
لم تكنِ "العَجْقةُ" في أمكنتِهِ كما في الحمراءِ وقبلها الأشرفيَّة. وعندما وصلَتْ إلى الكنيسَةِ التي تقابلُ المسجدَ وسطَ البلد، وكلاهما قد رُمِّمَ بعدَ انتهاءِ الحربِ في التِّسعينياتِ، تمهلَتْ، وأخذَتْ أقصى يمينِها، ثم توقفَتْ في حيِّهِ القديمِ الذي ما زالَ قسمٌ منه مَهْجورًا، ممزَّقةً جدران بيوتِه كغرابيلَ تشهدُ على جنونِ القنصِ منذ بدايِة الحرب عام 1975 حتى إعلانِ انتهائِها وفق مؤتمرِ الطّائفِ سنة 1990 على الرُّغْمِ من إزالَةِ كلِّ رُكامِ الأبنيةِ التي شاهدَتها عندما استضافَها بعد أربع سنواتٍ من انتهاءِ الحربِ- وكانَت هي نفسها سنواتِ معرفتِهما- بينما بُنِيَتْ بناياتٌ شاهقةٌ فخمةٌ بجانبِ القسْمِ المهجورِ، بانتظارِ التّواصُلِ مع أصحابِ البيوتِ القديمةِ أو ورثتهم، مَن هاجرَ أو هُجِّرَ.
ولم تظلَّ داخلَ السَّيارةِ؛ بل نزلَتْ محاولةً إعادةَ اكتشافِ الماضي الذي مرّتْ عليه ستٌّ وعشرون سنةً، فأومأَتْ بعينيْها النَّابضتينِ بالإلفَةِ مُحييّةً مكانَهُ الذي لم يكنْ يومًا تجاهَهُ لامباليًا، بل كانَ مُتَحَيِّزًا له، مُنجذِبًا إليه، يحميه ويحتمي به، يعانقُهُ في وعيِهِ وفي لا وعيِهِ، وكأنَّه يصِرُّ على تحقيقِ كاملِ شروطِ الميتافيزيقيا.
وخيلَ إليها أنَّه ينتظرُها هنا، وأنه هُرِعَ إليها- بمجردِ أن رآها- مرحِّبًا بها، مغلِّفًا ابتسامَتَهُ بكل مزايا جوهرِ الدِّفءِ؛ مادًّا لها ذراعَهُ- كما كان يفعلُ من قبلُ- كي تستندَ إليها، ليعودَ فيفتحَ أبوابَ ما بقي مُغلَقًا من مقصوراتِه اللّانهائيَّةِ الامتدادِ، مذكِّرًا إياها بما قد تكونُ الأيامُ فكَّكَتْ كثافةَ زمانِهِ وفتَّتَتْه أو كادَتْ، فشعرَتْ بشيءٍ الحُبورِ يتسلَّلُ إلى قلبِها.
وتنفسَتْ بعمقٍ، وتذكرتْ- وهي في حضرةِ مُتْحَفِ ذكرياتِه- أنَّ كل أمكنتِهِ كانتْ مرتبطةً بأسماءِ جيران وأقاربَ وأطفالٍ وشبابٍ تثيرُ لديه ضحكاتٍ متواصلةً طفوليَّةً حينًا، أو وجعًا يصل إلى حدِّ انهمارِ دموعِهِ حينًا آخرَ، كما انهمرَتْ على صديقِهِ (طارق) الذي قُنِّصَ أثناء الحربِ الأهليةِ بينما كانا يسيرانِ في حيِّهما معًا، فما سمعَ صوتَ الرَّصاصة، ولا صوتَ أنينِه، ولا رأى دماءً على الرّصيفِ، بل تابعَ طريقَهُ وحدَهُ إلى أن اكتشفَ ما حدثَ.
وما بقيَ له منه إلا تلك السَّاعة التي يصفُها بأنها "الأرخصُ ثمنًا في العالمِ، والأغلى ثمنًا على قلبه!"وهي ساعةٌ ظلَّ يضعُها في مِعْصَمِه سنينَ طويلةً، فلا يسمحُ لأحدٍ- حتى هي- بأن يلمِسَها، إذ سٌرعانَ ما يسحَبُ يدَهُ إلى الخلْفِ، ويحضُنُها براحةِ يدِه الثّانيةِ كما تحضُنُ أمٌّ طفلَها المعرَّضَ لخطرٍ داهِمٍ! وتذكرُ الآنَ، قبلَ انهيارِهِ باكيًا، أنَّ صوتَه بدأ بالتَّهَدُّجِ بعد أن أخبرَها ما حدثَ مع (طارق). وقتَها لم تستطعْ أن تقيِّمَ شعورَهُ تجاهَها، إذ لم يُلَمِّحْ في سنواتِ معرفتِهما الخمسِ الأولى إلى أكثرَ من أنَّه مُعجَبٌ بذكائِها وبقدرتِها الفنِّيةِ على تحويل أي نصٍّ، حتى لو كانَ فاشلًا في صيغتِهِ الأصليَّةِ أو يشمُلُ في بُنْيتِهِ عُقَدًا أو حوادثَ غير منطقيَّةٍ، إلى مسرحيةٍ نابضَةٍ بالحياةِ، وأنَّه يتوقعُ لها مستقبلًا جيِّدًا إن ثابرَتْ.
ولعلَّها فكَّرَتْ- من وجهةِ نظَرٍ شخصيّةٍ بحْتَةٍ- أنَّه يعتبرُها صديقتَه أو أختَه التي يثِقُ بها، حتى لو لم يقلِّدْها وسامَ الصَّداقَةِ أو الأُخُوَّةِ اللّفْظيَّ الصَّريحَ، وإلا، لماذا يصِرُّ على اصطحابِها إلى مواقعِ كَنْزِهِ الثَّمينِ لو لم تكنْ تتبوّأُ إحدى هاتين المنزلتَيْنِ الرَّفيعتَيْنِ؟ واستنادًا إلى وجهةِ نظرِها تلكَ، أحسَّتْ أن عليها أن تساندَهُ في موقفِهِ الموجِعِ من قضيةِ (طارق)، فلفَّتْ- بعدَ تردُّدٍ طالَ- ذراعيْها حولَ رقبتِهِ تواسيه، متوقعَةً أن يسارعَ فيمسح دموعَهُ، شاكِرًا تعاطُفَها، مُبْعِدًا إياها بلطفٍ، رافِضًا ما قد يعتبرُهُ موقفَ ضَعْفٍ. لكنها فوجئَتْ بسقوطِ رأسِهِ على كتفِها وبمحاولةِ كبْتِ صَوْتِ بكائِه الذي خرجَ عن سيطرتِهِ، فتحولَ إلى نحيبٍ، وانتقلَتِ العدوى إليها، فبكَتْ لبكائِهِ رُغم محاولاتها الفاشلةِ في البقاء صُلْبةً؛ وربما مرَّت دقيقةٌ أو أكثر على هذه الحالِ قبل أن يتراجعَ إلى الخلفِ معتذِرًا فرابتًا كتفَها:
- آسف! آسف! لم يكن (طارق) شخصًا عاديًّا في حياتي!ومسحَ بكمَّيْه وجنَتَيْه المبللتين، ثم سارعَ إلى مغادرةِ المكانِ وكأنَّه يريد مغادرةَ ضربةِ الموْتِ الذي يلاحقُه ويأخذُ منه بشراسةٍ مَن يحبُّ.
ولم تعلِّق بكلمةٍ طوال الطَّريقِ، حتى إنها عجَزَتْ عن التَّفوهِ بحرفٍ عندما أنزلَها عند بابِ بيتِها مكتفيًا بتقديمِ ابتسامةٍ واهِنَةٍ عابسةٍ مختَزَلَةٍ.
ولما كانَ متفوِّقًا في منحِ مشاعرِهِ الحزينةِ كلَّ حرَّيّتها، لم يكن غريبًا أن يختفيَ بعد ذلكَ المشهَدِ أيامًا طويلةً ليجيءَ بعدَها إلى مكتبةِ جامعةِ كليةِ التّربيةِ، باحثًا عنها بين الكتبِ حيث اعتادَتْ أن تعدَّ بحثَها، وكانَ منتفخَ الجفنينِ وكأنه أمضى تلك اللَّيالي بيضاءَ أبعد ما تكونُ عن وصفِها باللَّطيفةِ؛ لكن رائحةَ صابونِهِ المعطَّرِ بعِطْرِ قشرِ البرتقالِ المنبعثَةِ من جلِدِه، وقميصَه الأزرقَ المكويَّ بعنايةٍ، وذقنَهُ الحليقةَ، وشعرَه البنّيَّ النّاعمَ اللَّامعَ المربوطَ إلى الخلفِ بعنايةٍ، وهمسَه في أذنِها خلْفَ عُنقِها أنَّه هنا، كل هذا كان كافيًا أن يطمئنَها أنَّه الآنَ بخير. فلم تشأ أن تسألَه شيئًا عن حالِهِ؛ بل اكتفَت بإزاحة الكرسيِّ الملاصِقِ لكرسيها وهمسَتْ وعيناها ترقبانِ بحذَر أمينةَ المكتبة:
- اجلسْ!
فهمس :
- تعالي نخرجْ من هنا! عندي ساعة فراغٍ أريد أن أقضيَها معكِ قبل العودةِ إلى مكتبي.
وبسرعةِ البرْقِ، جمعَتْ أوراقَها ونهضَتْ، ولم تردَّ على أمينةِ المكتبةِ التي يدعوها ب"الشَّريرة"، والتي نبَّهَتْها مقطّبةً بصوتٍ خفيضٍ وهي خارجةٌ: "أنتما تثيران ضجةً دائمًا"، إلا بابتسامةٍ واسعة.
وعلى أحدِ كراسي حديقةِ كلَّيّتِها طرحَ سؤالَه ذاتَه الذي لا يَنْتَظرُ عادةً جوابًا له:
"هل تعرفين"؟
وانتظرَت- كالعادةِ- أن يتكلَّم.
- لا يمكنُ أن تتخيلي معنى أن يصبحَ إنسانٌ ضاجٌّ بالحياةِ مجردَ جثَّةٍ.
وأطرقَتْ.
كانَتْ تحسُّ أنَّهُ لن يغلِقَ موضوعَ (طارقْ) بهذه البساطةِ، وكانَت سعيدةً أنْ فعلَ، فلعلَّهُ بذلكَ يختصرُ مهلةَ زمن حزنِهِ الأكبرِ. وتابعَ بصوتٍ هادئٍ:
-لا يمكن أن تصبح كلُّ الأحلام والضَّحكات مجردَ ذكريات. الموتُ فكرة صعبة التَّقبُّل، مدهشةٌ، مظلمةٌ، وقاسيةٌ.
وغصَّ:
-كنت أعتقدُ أن موتَ أبي كان أصعبَ ما يمكنُ أن يصيبَ طفلًا، وكنتُ أبحثُ عنه جاهدًا في وجوهِ آباءِ جيراني وزملائي وأقاربي؛ ولكن... كان موتُ (طارقَ) أصعبَ بكثير. أتعرفين لماذا؟ أبي لم أعرفْه؛ بينما (طارق) عرفْتُه، عشْتُ معه، قرأنا معًا الرِّوايات التي كنا نتشاركُ في دفعِ ثمنِها. أحببتُ شخصيةَ (جو) في (سيدات صغيرات) التي رافقْتنا شهورًا، فكنا نتحدث عنهنَّ وكأنهنَّ جزءٌ من بناتِ جيرانِنا أو قريباتِنا، بينما أَحَبَّ هو (بث)، وبكى وقتَ ماتَتْ بالسِّلِّ، وتوقفَ عن الطَّعامِ أيامًا. ؛واتسعَتْ ابتسامتُهُ رغم أن دموعَهُ ترقرقتْ في عينيه، وشدَّ كتفيها بذراعِهِ نحوَه ممازِحًا:
- نعم، يا عزيزتي، نحن، الصّبيان- كما تحبينَ أن تصفينا- عاطفيونَ إلى درجةٍ لا تتوقعْنها!
وأكملَ بصوتٍ خفيضٍ:
- عاطفيونَ إلى درجةِ نحبُّ فيها بطلاتِ الرّواياتِ، فنفرح لفرحِهنَّ، ونأسى لأوجاعِهِنَّ.
وابتسمَتْ من دون أن تعلّقَ ولو بإشارةٍ إلى أنَّ هذه الرّواية بالذّاتِ قد أثّرتْ بها أيام المراهقةِ أيّما تأثيرٍ، ومثله أحبَّت "جو"، ربما لأنها كانَتْ في صفاتٍ كثيرةٍ تشبهُها، فكثيرًا ما كتبَتْ مسرحيَّاتٍ بدائيّةً ومثّلَتْها لبناتِ الجيرانِ، وكثيرًا ما سُرِقَتْ منها ومُزِّقَتْ، فبكَتْ، ثم نسيَتْ ما تعرَّضَتْ له، فكتبَتْ مسرحياتٍ أخرى أكثرَ نضجًا وإتقانًا، وإن لم تجد لها طريقًا إلى النّشرِ. ؛ولم تشأْ أن تقطعَ عليِهِ حزنَه، فعادَ إلى (طارق):
- جمعْنا معًا أقساطَ الجامعةِ من عملٍ قمْنا به معًا. اشتغلْت معه نادلًا، جليْت معه الصُّحونَ في المطاعمِ.
خفْنا أن يرانا أساتذتُنا أو إحدى زميلاتِنا في الجامعةِ، تمامًا كما خفْنا أن يعرفَ الجيرانُ والأقاربُ هنا أننا نعملُ كنادلَيْنِ، فقلْنا لهم إِننا نعملُ في قسمِ المحاسبةِ في الجامعةِ بدوامٍ جزئيٍّ.
تسللْنا إلى بيتيْنا عند الفجرِ متعبَيْنِ منهَكَينِ لكنْ... ضاحِكَيْن. وفجأةً، انتهى كلُّ هذا وصار (طارق) جثةً لم أجرؤْ حتى على البكاءِ عليها خجَلًا من أمِّه التي كانَتْ تبحثُ في عينيَّ- فيما بعدُ- عن ابنِها.
وتنفسَ بسرعةٍ، ثمَّ فكَّ ذراعَه عن كتفيْها:
-لم أجرؤْ حتى على ضمِّها خوفًا عليها من أن تنفجرَ حُزْنًا.
أيُّ شيطانٍ رجيم هذا الذي سرقَ مني (طارق)؟ لا يتضاءَل الوجعُ بمرورِ الوقتِ، بلْ يتفاقَمُ، يتفاقَمُ!
أتعرفين؟ لقد انفتحَتْ هُوَّةٌ تحتَ قدميَّ وقْتَ وجدْتُه على الرَّصيفِ، فهويْتُ بعدها إلى مكانٍ عميقٍ، مُظْلمٍ، بلا قاعٍ، يأبى عليَّ أن أنامَ، يوقظني، ينهَشُ قدميَّ من خلالِ صورةِ كلبٍ كبيرٍ أسودَ لا أعرفُ من أينَ جاءَ.
لا، لم أنسَ (طارق) لأتذكرَهُ الآن؛ فهو يعيشُ معي، ولكن لا يبادلُني الحديثَ ولا تكبُرُ أحلامُهُ كلَّ يومٍ كما تكبُرُ أحلامي. لقد توقفَتْ أحلامُه بفعلِ رصاصةٍ! تصوري، توقفَت أحلامُه التي كانت لا تسعُها سماءٌ.
وسكتَ لثوانٍ، ثم قالَ:
- لطالما اعتبرْتُ "أندرسن" قاسيًا عندما تحدثَ للأطفالِ عن تحوُّلِ نبتةِ الكَتَّانِ إلى قُماشةٍ عتيقةٍ ماتَتْ بمجردِ رميِها في النَّارِ، أو عندما تحدَّثَ عن ذوَبانِ جنديِّ الرّصاصِ الصَّغير مع الرَّاقصةِ، حتى لو حاولَ تخفيف وجعِ هذه المأساةِ عندما وجدَتِ (البنتُ الصَّغيرة بائعة الثِّقاب) في الموتِ "مكانًا فيه الجوُّ أكثر صفاءً من النَّهار"!
وصمت للحظةٍ، ثم تساءَلَ ساخِرًا:
- أكثرَ صفاءً؟
ونظرَ إلى وجهِها بعينينِ تحملان الكثيرَ من الحزنِ والصَّدمَة، وكأنه يتلقَّى خبرَ موتِ (طارق) للتَّو، فهرَّبَتْ عينيْها من وجعِهِ وأطرقَتْ بصمتٍ، وهي تؤكِّدُ لنفسِها قبلَ أن تؤكِّدَ له أنَّه لا بدَّ وأنْ يكونَ أكثرَ صفاءً، وإلا فكيفَ يجمعُ إلى صدرِهِ أولئكَ الأنقياءَ الذينَ لايُنسَوْنَ كصديقِهِ وكأبيها الذي تشتاقُهُ الآنَ أكثرَ من أيِّ وقْتٍ مضى.
وخيِّل إليها أنها- إنْ زادَ جملةً أخرى عنه- ستُخْفي وجهَها براحتيْها وتنتحبُ من جديدٍ كما فعلَتْ قبل أيَّامٍ عليهما معًا؛ لكنه لم يفعلْ. فقط تنهدَ مُنْهيًا كلَّ ما كان عندَه من كلماتٍ يبدو أنه لم يقلْها لأحدٍ سواها، مكررًا اعتذارَه:- لا أعرف لماذا أخذتُك إلى أمكنتي وأقحمتُكِ في ذكرياتي.
أطرقَتْ مبتسمةً، فتنشقَ هواءً بملء رئتيْهِ، ثمَّ أطبقَ شفتيه على عبارتِهِ الأخيرة من غير أن يزيد حرفًا واحدًا عليها.
ولم تشأ أن تقول له إنها- رغم وجعِه الذي انتقلَ إليها- كانت قد بدأَتْ تتخلص من قلقِها تجاهَهُ، فهو- إضافة إلى ذكائِه الذي بدا بالنِّسبة إليها تعويذةً سحريَّةً جذَّابةً- مخلصٌ إلى أبعدِ حدودِ الإخلاصِ؛ ما يعني أنها لن تحظى بصديقٍ أفضلَ ما حييت، هي التي كان من الصَّعبِ عليها أن تجدَ شخصًا قريبًا يحملُ صفاتٍ غير عاديةٍ مثله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.