مؤتمر صحفي يكشف ملامح نسخة تحدي البقاء لأيتام المملكة    الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين تنهي استبدال كسوة الكعبة    الإبداع السعودي يتجلى في «سيلفريدجز» بلندن    «الظبي الجفول».. رمز الصحراء وملهم الشعراء    من القارات ل«المونديال».. تاريخ مواجهات السعودية والمكسيك    في الشباك    «الناتو» يتجه لإقرار أكبر زيادة في الإنفاق الدفاعي    بكين تحذّر من تصاعد توترات التجارة العالمية    مهندس الرؤية وطموحات تعانق السماء    المملكة حضور دولي ودبلوماسية مؤثرة    القطاع غير الربحي في رؤية 2030    رخصة القيادة وأهميتها    الجوعى يقتلون في غزة.. 94 شهيداً    صوت الحكمة    صيف المملكة 2025.. نهضة ثقافية في كل زاوية    الخرطوم: كينيا تسلح «الدعم السريع»    مرور العام    جبر الخواطر.. عطاءٌ خفيّ وأثرٌ لا يُنسى    دورتموند يكسب أولسان ويتصدر مجموعته بمونديال الأندية    «الشورى» يطالب بخفض تذاكر طيران كبار السن والمرابطين    فيصل بن نواف يشهد توقيع مذكرة شراكة لدعم المراكز التأهيلية بسجون الجوف    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    وزير البلديات والإسكان يتفقد مشاريع استثمارية نوعية في الشرقية    النصر ينهي العلاقة التعاقدية مع المدرب "ستيفانو بيولي"    " طويق " توقع اتفاقية مع جمعية " قدوات" لاستثمار خبرات كبار السن بالموارد البشرية    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    إجراء أول عملية جراحية بالروبوت في مستشفى الأمير سعود بن جلوي بالأحساء    الأمير سعود بن نهار يبحث مع أمين الطائف المبادرات والفعاليات المقدمة في الصيف.    رئيس جامعة أم القرى يترأس الجلسة العاشرة لمجلس الجامعة للعام الجامعي 1446ه    بنفيكا يكسب البايرن ويتأهلان لثمن نهائي مونديال الأندية    تسجيل محمية عروق بني معارض في القائمة الدولية لحماية الطبيعة    أمير الجوف يبحث تحديات المشروعات والخدمات    النفط يتراجع بعد يوم من التصعيد وإنهاء الحرب    تداول يعوض خسائر أسبوع    إعلان نتائج القبول في البورد السعودي    أقوى كاميرا تكتشف الكون    انحسار السحب يهدد المناخ    العثور على سفينة من القرن ال16    الذكاء الاصطناعي والتعليم.. أداة مساعدة أم عائق للتفكير النقدي    الجوز.. حبة واحدة تحمي قلبك    الميتوكوندريا مفتاح علاج الورم الميلانيني    استشارية: 40% من حالات تأخر الإنجاب سببها الزوج    شدد على تطوير "نافس" وحضانات الأطفال.. "الشورى" يطالب بربط البحث العلمي باحتياجات التنمية    بعد حلوله وصيفاً ل" الرابعة".. الأخضر يواجه نظيره المكسيكي في ربع نهائي الكأس الذهبية    أشاد بالتسهيلات خلال المغادرة.. القنصل العام الإيراني: ما قدمته المملكة يعكس نهجها في احترام الشعوب وخدمة الحجاج    سمو ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية    قطر توجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن الهجوم على قاعدة العديد الجوية    برامج التواصل الاجتماعي.. مفرقة للجماعات    47 أسيرة في السجون الإسرائيلية.. الاحتلال يواصل انتهاكاته في غزة والضفة والقدس    الإطاحة ب 4 أشخاص لترويجهم أقراصاً خاضعة للتداول الطبي    أسرة الفقيد موسى محرّق تشكر أمير المنطقة على مشاعره النبيلة وتعزيته    صور إنسانية من الماضي عن مدينة أبها    تسجيل محمية عروق بني معارض في القائمة الخضراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة    أمير تبوك يطلع على تقرير أعمال فرع وزارة التجارة بالمنطقة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    جامعة أم القرى توقّع مذكرة تفاهم مع هيئة جامعة كامبردج لتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي في تعليم اللغة الإنجليزية    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية (الأثير ل (إإيمان بقاعي ) حلقة ( 4 - 16 )
نشر في جازان نيوز يوم 27 - 03 - 2021


- محمد المنصور : الحلقة السابقة
ولم تشأْ أن تعودَ إلى البيتِ؛ بل لم تشأْ أن تخفَّ "العَجْقَةُ" المتيحةُ لها فرصةَ البقاءِ مع ذاتِها. وإذ بأمنيتِها تتحققُ عندما قطعَ الطّريقَ مجموعةُ صبايا وشبابٌ من الثُّوارِ يحملون الأعلامَ اللّبنانيةَ متجهينَ إلى مطْعَمٍ عَرَفوا بوجودِ سياسيٍّ فيه ممَّن ثاروا ضدَّهم قبلَ أكثرَ من سنةٍ رافعينَ شِعَارَ: "كلُّن يعني كلُّن" بغيةَ محاصرتِهِ فمُداهمتِهِ لطردِهِ وسطَ غضَبٍ شعبيٍّ متزايِدٍ يؤازرهم. فحوصِرَ المسؤولُ، وصفَّقَ المارَّةُ مشجعينَ ومُطلقينَ هُتافاتِ: "ثورة، ثورة، ثورة"! وسُرْعانَ ما فُتِحَتْ نوافذُ السّياراتِ وهتفَ كلُّ مَن فيها- بما فيهم هي- الهتافَ ذاتَهُ إلى أن انتشرَتِ القوى الأمنيةُ وحَمَتِ السّياسيَّ الهاربَ ماشيًا مشيةً جانبيَّةً كمشيةِ سَرَطانٍ، مخفِضًا رأسَهُ، متَّكِئًا بِتَهَيُّبٍ على صدورِ مرافِقيهِ وشبابِ الأمْنِ حتى وصلَ إلى سيارتِهِ التي رُشِقَتْ بالبيْضِ والبندورةِ ثم ما لبثَتْ أن انطلَقَتْ كصاروخٍ؛ وبعد أن تفرّقَ الثّوارُ وفتُحَتِ الطّريقُ أمامَ السّياراتِ، أخذَتْ طريقًا فرعيًّا وعادَتْ نحو "بيروتِه" هو، إلى أمكنتِهِ هو؛لم تتوقَّفْ طويلًا عند سِرِّ تصرّفها هذا، ولم تشأ أن تضيِّعَ الوقتَ في تحليلِه، وإن خطرَ ببالِها أنها إنما تفعلُ ما تفعلُ سعيًا وراءَ تذكُّرِ تفاصيلِ قصتِهِما التي مارسَتْ معها اليومَ لعبةً فاقَتْ قدْرَتَها على التَّوقُّعِ والاسْتيعابِ.
لم تكنِ "العَجْقةُ" في أمكنتِهِ كما في الحمراءِ وقبلها الأشرفيَّة. وعندما وصلَتْ إلى الكنيسَةِ التي تقابلُ المسجدَ وسطَ البلد، وكلاهما قد رُمِّمَ بعدَ انتهاءِ الحربِ في التِّسعينياتِ، تمهلَتْ، وأخذَتْ أقصى يمينِها، ثم توقفَتْ في حيِّهِ القديمِ الذي ما زالَ قسمٌ منه مَهْجورًا، ممزَّقةً جدران بيوتِه كغرابيلَ تشهدُ على جنونِ القنصِ منذ بدايِة الحرب عام 1975 حتى إعلانِ انتهائِها وفق مؤتمرِ الطّائفِ سنة 1990 على الرُّغْمِ من إزالَةِ كلِّ رُكامِ الأبنيةِ التي شاهدَتها عندما استضافَها بعد أربع سنواتٍ من انتهاءِ الحربِ- وكانَت هي نفسها سنواتِ معرفتِهما- بينما بُنِيَتْ بناياتٌ شاهقةٌ فخمةٌ بجانبِ القسْمِ المهجورِ، بانتظارِ التّواصُلِ مع أصحابِ البيوتِ القديمةِ أو ورثتهم، مَن هاجرَ أو هُجِّرَ.
ولم تظلَّ داخلَ السَّيارةِ؛ بل نزلَتْ محاولةً إعادةَ اكتشافِ الماضي الذي مرّتْ عليه ستٌّ وعشرون سنةً، فأومأَتْ بعينيْها النَّابضتينِ بالإلفَةِ مُحييّةً مكانَهُ الذي لم يكنْ يومًا تجاهَهُ لامباليًا، بل كانَ مُتَحَيِّزًا له، مُنجذِبًا إليه، يحميه ويحتمي به، يعانقُهُ في وعيِهِ وفي لا وعيِهِ، وكأنَّه يصِرُّ على تحقيقِ كاملِ شروطِ الميتافيزيقيا.
وخيلَ إليها أنَّه ينتظرُها هنا، وأنه هُرِعَ إليها- بمجردِ أن رآها- مرحِّبًا بها، مغلِّفًا ابتسامَتَهُ بكل مزايا جوهرِ الدِّفءِ؛ مادًّا لها ذراعَهُ- كما كان يفعلُ من قبلُ- كي تستندَ إليها، ليعودَ فيفتحَ أبوابَ ما بقي مُغلَقًا من مقصوراتِه اللّانهائيَّةِ الامتدادِ، مذكِّرًا إياها بما قد تكونُ الأيامُ فكَّكَتْ كثافةَ زمانِهِ وفتَّتَتْه أو كادَتْ، فشعرَتْ بشيءٍ الحُبورِ يتسلَّلُ إلى قلبِها.
وتنفسَتْ بعمقٍ، وتذكرتْ- وهي في حضرةِ مُتْحَفِ ذكرياتِه- أنَّ كل أمكنتِهِ كانتْ مرتبطةً بأسماءِ جيران وأقاربَ وأطفالٍ وشبابٍ تثيرُ لديه ضحكاتٍ متواصلةً طفوليَّةً حينًا، أو وجعًا يصل إلى حدِّ انهمارِ دموعِهِ حينًا آخرَ، كما انهمرَتْ على صديقِهِ (طارق) الذي قُنِّصَ أثناء الحربِ الأهليةِ بينما كانا يسيرانِ في حيِّهما معًا، فما سمعَ صوتَ الرَّصاصة، ولا صوتَ أنينِه، ولا رأى دماءً على الرّصيفِ، بل تابعَ طريقَهُ وحدَهُ إلى أن اكتشفَ ما حدثَ.
وما بقيَ له منه إلا تلك السَّاعة التي يصفُها بأنها "الأرخصُ ثمنًا في العالمِ، والأغلى ثمنًا على قلبه!"وهي ساعةٌ ظلَّ يضعُها في مِعْصَمِه سنينَ طويلةً، فلا يسمحُ لأحدٍ- حتى هي- بأن يلمِسَها، إذ سٌرعانَ ما يسحَبُ يدَهُ إلى الخلْفِ، ويحضُنُها براحةِ يدِه الثّانيةِ كما تحضُنُ أمٌّ طفلَها المعرَّضَ لخطرٍ داهِمٍ! وتذكرُ الآنَ، قبلَ انهيارِهِ باكيًا، أنَّ صوتَه بدأ بالتَّهَدُّجِ بعد أن أخبرَها ما حدثَ مع (طارق). وقتَها لم تستطعْ أن تقيِّمَ شعورَهُ تجاهَها، إذ لم يُلَمِّحْ في سنواتِ معرفتِهما الخمسِ الأولى إلى أكثرَ من أنَّه مُعجَبٌ بذكائِها وبقدرتِها الفنِّيةِ على تحويل أي نصٍّ، حتى لو كانَ فاشلًا في صيغتِهِ الأصليَّةِ أو يشمُلُ في بُنْيتِهِ عُقَدًا أو حوادثَ غير منطقيَّةٍ، إلى مسرحيةٍ نابضَةٍ بالحياةِ، وأنَّه يتوقعُ لها مستقبلًا جيِّدًا إن ثابرَتْ.
ولعلَّها فكَّرَتْ- من وجهةِ نظَرٍ شخصيّةٍ بحْتَةٍ- أنَّه يعتبرُها صديقتَه أو أختَه التي يثِقُ بها، حتى لو لم يقلِّدْها وسامَ الصَّداقَةِ أو الأُخُوَّةِ اللّفْظيَّ الصَّريحَ، وإلا، لماذا يصِرُّ على اصطحابِها إلى مواقعِ كَنْزِهِ الثَّمينِ لو لم تكنْ تتبوّأُ إحدى هاتين المنزلتَيْنِ الرَّفيعتَيْنِ؟ واستنادًا إلى وجهةِ نظرِها تلكَ، أحسَّتْ أن عليها أن تساندَهُ في موقفِهِ الموجِعِ من قضيةِ (طارق)، فلفَّتْ- بعدَ تردُّدٍ طالَ- ذراعيْها حولَ رقبتِهِ تواسيه، متوقعَةً أن يسارعَ فيمسح دموعَهُ، شاكِرًا تعاطُفَها، مُبْعِدًا إياها بلطفٍ، رافِضًا ما قد يعتبرُهُ موقفَ ضَعْفٍ. لكنها فوجئَتْ بسقوطِ رأسِهِ على كتفِها وبمحاولةِ كبْتِ صَوْتِ بكائِه الذي خرجَ عن سيطرتِهِ، فتحولَ إلى نحيبٍ، وانتقلَتِ العدوى إليها، فبكَتْ لبكائِهِ رُغم محاولاتها الفاشلةِ في البقاء صُلْبةً؛ وربما مرَّت دقيقةٌ أو أكثر على هذه الحالِ قبل أن يتراجعَ إلى الخلفِ معتذِرًا فرابتًا كتفَها:
- آسف! آسف! لم يكن (طارق) شخصًا عاديًّا في حياتي!ومسحَ بكمَّيْه وجنَتَيْه المبللتين، ثم سارعَ إلى مغادرةِ المكانِ وكأنَّه يريد مغادرةَ ضربةِ الموْتِ الذي يلاحقُه ويأخذُ منه بشراسةٍ مَن يحبُّ.
ولم تعلِّق بكلمةٍ طوال الطَّريقِ، حتى إنها عجَزَتْ عن التَّفوهِ بحرفٍ عندما أنزلَها عند بابِ بيتِها مكتفيًا بتقديمِ ابتسامةٍ واهِنَةٍ عابسةٍ مختَزَلَةٍ.
ولما كانَ متفوِّقًا في منحِ مشاعرِهِ الحزينةِ كلَّ حرَّيّتها، لم يكن غريبًا أن يختفيَ بعد ذلكَ المشهَدِ أيامًا طويلةً ليجيءَ بعدَها إلى مكتبةِ جامعةِ كليةِ التّربيةِ، باحثًا عنها بين الكتبِ حيث اعتادَتْ أن تعدَّ بحثَها، وكانَ منتفخَ الجفنينِ وكأنه أمضى تلك اللَّيالي بيضاءَ أبعد ما تكونُ عن وصفِها باللَّطيفةِ؛ لكن رائحةَ صابونِهِ المعطَّرِ بعِطْرِ قشرِ البرتقالِ المنبعثَةِ من جلِدِه، وقميصَه الأزرقَ المكويَّ بعنايةٍ، وذقنَهُ الحليقةَ، وشعرَه البنّيَّ النّاعمَ اللَّامعَ المربوطَ إلى الخلفِ بعنايةٍ، وهمسَه في أذنِها خلْفَ عُنقِها أنَّه هنا، كل هذا كان كافيًا أن يطمئنَها أنَّه الآنَ بخير. فلم تشأ أن تسألَه شيئًا عن حالِهِ؛ بل اكتفَت بإزاحة الكرسيِّ الملاصِقِ لكرسيها وهمسَتْ وعيناها ترقبانِ بحذَر أمينةَ المكتبة:
- اجلسْ!
فهمس :
- تعالي نخرجْ من هنا! عندي ساعة فراغٍ أريد أن أقضيَها معكِ قبل العودةِ إلى مكتبي.
وبسرعةِ البرْقِ، جمعَتْ أوراقَها ونهضَتْ، ولم تردَّ على أمينةِ المكتبةِ التي يدعوها ب"الشَّريرة"، والتي نبَّهَتْها مقطّبةً بصوتٍ خفيضٍ وهي خارجةٌ: "أنتما تثيران ضجةً دائمًا"، إلا بابتسامةٍ واسعة.
وعلى أحدِ كراسي حديقةِ كلَّيّتِها طرحَ سؤالَه ذاتَه الذي لا يَنْتَظرُ عادةً جوابًا له:
"هل تعرفين"؟
وانتظرَت- كالعادةِ- أن يتكلَّم.
- لا يمكنُ أن تتخيلي معنى أن يصبحَ إنسانٌ ضاجٌّ بالحياةِ مجردَ جثَّةٍ.
وأطرقَتْ.
كانَتْ تحسُّ أنَّهُ لن يغلِقَ موضوعَ (طارقْ) بهذه البساطةِ، وكانَت سعيدةً أنْ فعلَ، فلعلَّهُ بذلكَ يختصرُ مهلةَ زمن حزنِهِ الأكبرِ. وتابعَ بصوتٍ هادئٍ:
-لا يمكن أن تصبح كلُّ الأحلام والضَّحكات مجردَ ذكريات. الموتُ فكرة صعبة التَّقبُّل، مدهشةٌ، مظلمةٌ، وقاسيةٌ.
وغصَّ:
-كنت أعتقدُ أن موتَ أبي كان أصعبَ ما يمكنُ أن يصيبَ طفلًا، وكنتُ أبحثُ عنه جاهدًا في وجوهِ آباءِ جيراني وزملائي وأقاربي؛ ولكن... كان موتُ (طارقَ) أصعبَ بكثير. أتعرفين لماذا؟ أبي لم أعرفْه؛ بينما (طارق) عرفْتُه، عشْتُ معه، قرأنا معًا الرِّوايات التي كنا نتشاركُ في دفعِ ثمنِها. أحببتُ شخصيةَ (جو) في (سيدات صغيرات) التي رافقْتنا شهورًا، فكنا نتحدث عنهنَّ وكأنهنَّ جزءٌ من بناتِ جيرانِنا أو قريباتِنا، بينما أَحَبَّ هو (بث)، وبكى وقتَ ماتَتْ بالسِّلِّ، وتوقفَ عن الطَّعامِ أيامًا. ؛واتسعَتْ ابتسامتُهُ رغم أن دموعَهُ ترقرقتْ في عينيه، وشدَّ كتفيها بذراعِهِ نحوَه ممازِحًا:
- نعم، يا عزيزتي، نحن، الصّبيان- كما تحبينَ أن تصفينا- عاطفيونَ إلى درجةٍ لا تتوقعْنها!
وأكملَ بصوتٍ خفيضٍ:
- عاطفيونَ إلى درجةِ نحبُّ فيها بطلاتِ الرّواياتِ، فنفرح لفرحِهنَّ، ونأسى لأوجاعِهِنَّ.
وابتسمَتْ من دون أن تعلّقَ ولو بإشارةٍ إلى أنَّ هذه الرّواية بالذّاتِ قد أثّرتْ بها أيام المراهقةِ أيّما تأثيرٍ، ومثله أحبَّت "جو"، ربما لأنها كانَتْ في صفاتٍ كثيرةٍ تشبهُها، فكثيرًا ما كتبَتْ مسرحيَّاتٍ بدائيّةً ومثّلَتْها لبناتِ الجيرانِ، وكثيرًا ما سُرِقَتْ منها ومُزِّقَتْ، فبكَتْ، ثم نسيَتْ ما تعرَّضَتْ له، فكتبَتْ مسرحياتٍ أخرى أكثرَ نضجًا وإتقانًا، وإن لم تجد لها طريقًا إلى النّشرِ. ؛ولم تشأْ أن تقطعَ عليِهِ حزنَه، فعادَ إلى (طارق):
- جمعْنا معًا أقساطَ الجامعةِ من عملٍ قمْنا به معًا. اشتغلْت معه نادلًا، جليْت معه الصُّحونَ في المطاعمِ.
خفْنا أن يرانا أساتذتُنا أو إحدى زميلاتِنا في الجامعةِ، تمامًا كما خفْنا أن يعرفَ الجيرانُ والأقاربُ هنا أننا نعملُ كنادلَيْنِ، فقلْنا لهم إِننا نعملُ في قسمِ المحاسبةِ في الجامعةِ بدوامٍ جزئيٍّ.
تسللْنا إلى بيتيْنا عند الفجرِ متعبَيْنِ منهَكَينِ لكنْ... ضاحِكَيْن. وفجأةً، انتهى كلُّ هذا وصار (طارق) جثةً لم أجرؤْ حتى على البكاءِ عليها خجَلًا من أمِّه التي كانَتْ تبحثُ في عينيَّ- فيما بعدُ- عن ابنِها.
وتنفسَ بسرعةٍ، ثمَّ فكَّ ذراعَه عن كتفيْها:
-لم أجرؤْ حتى على ضمِّها خوفًا عليها من أن تنفجرَ حُزْنًا.
أيُّ شيطانٍ رجيم هذا الذي سرقَ مني (طارق)؟ لا يتضاءَل الوجعُ بمرورِ الوقتِ، بلْ يتفاقَمُ، يتفاقَمُ!
أتعرفين؟ لقد انفتحَتْ هُوَّةٌ تحتَ قدميَّ وقْتَ وجدْتُه على الرَّصيفِ، فهويْتُ بعدها إلى مكانٍ عميقٍ، مُظْلمٍ، بلا قاعٍ، يأبى عليَّ أن أنامَ، يوقظني، ينهَشُ قدميَّ من خلالِ صورةِ كلبٍ كبيرٍ أسودَ لا أعرفُ من أينَ جاءَ.
لا، لم أنسَ (طارق) لأتذكرَهُ الآن؛ فهو يعيشُ معي، ولكن لا يبادلُني الحديثَ ولا تكبُرُ أحلامُهُ كلَّ يومٍ كما تكبُرُ أحلامي. لقد توقفَتْ أحلامُه بفعلِ رصاصةٍ! تصوري، توقفَت أحلامُه التي كانت لا تسعُها سماءٌ.
وسكتَ لثوانٍ، ثم قالَ:
- لطالما اعتبرْتُ "أندرسن" قاسيًا عندما تحدثَ للأطفالِ عن تحوُّلِ نبتةِ الكَتَّانِ إلى قُماشةٍ عتيقةٍ ماتَتْ بمجردِ رميِها في النَّارِ، أو عندما تحدَّثَ عن ذوَبانِ جنديِّ الرّصاصِ الصَّغير مع الرَّاقصةِ، حتى لو حاولَ تخفيف وجعِ هذه المأساةِ عندما وجدَتِ (البنتُ الصَّغيرة بائعة الثِّقاب) في الموتِ "مكانًا فيه الجوُّ أكثر صفاءً من النَّهار"!
وصمت للحظةٍ، ثم تساءَلَ ساخِرًا:
- أكثرَ صفاءً؟
ونظرَ إلى وجهِها بعينينِ تحملان الكثيرَ من الحزنِ والصَّدمَة، وكأنه يتلقَّى خبرَ موتِ (طارق) للتَّو، فهرَّبَتْ عينيْها من وجعِهِ وأطرقَتْ بصمتٍ، وهي تؤكِّدُ لنفسِها قبلَ أن تؤكِّدَ له أنَّه لا بدَّ وأنْ يكونَ أكثرَ صفاءً، وإلا فكيفَ يجمعُ إلى صدرِهِ أولئكَ الأنقياءَ الذينَ لايُنسَوْنَ كصديقِهِ وكأبيها الذي تشتاقُهُ الآنَ أكثرَ من أيِّ وقْتٍ مضى.
وخيِّل إليها أنها- إنْ زادَ جملةً أخرى عنه- ستُخْفي وجهَها براحتيْها وتنتحبُ من جديدٍ كما فعلَتْ قبل أيَّامٍ عليهما معًا؛ لكنه لم يفعلْ. فقط تنهدَ مُنْهيًا كلَّ ما كان عندَه من كلماتٍ يبدو أنه لم يقلْها لأحدٍ سواها، مكررًا اعتذارَه:- لا أعرف لماذا أخذتُك إلى أمكنتي وأقحمتُكِ في ذكرياتي.
أطرقَتْ مبتسمةً، فتنشقَ هواءً بملء رئتيْهِ، ثمَّ أطبقَ شفتيه على عبارتِهِ الأخيرة من غير أن يزيد حرفًا واحدًا عليها.
ولم تشأ أن تقول له إنها- رغم وجعِه الذي انتقلَ إليها- كانت قد بدأَتْ تتخلص من قلقِها تجاهَهُ، فهو- إضافة إلى ذكائِه الذي بدا بالنِّسبة إليها تعويذةً سحريَّةً جذَّابةً- مخلصٌ إلى أبعدِ حدودِ الإخلاصِ؛ ما يعني أنها لن تحظى بصديقٍ أفضلَ ما حييت، هي التي كان من الصَّعبِ عليها أن تجدَ شخصًا قريبًا يحملُ صفاتٍ غير عاديةٍ مثله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.