.. الإغواء كما أفهمه هو قاع فقد الإرادة الحرة أمام تأثيرٍ يستعبدك، كما لم يُسْتَعبَد عبدٌ بشري. الإغواءُ هو فقد ملكةُ العقل التي تحرك مولدَ الإدارة في قارب ذاتك، فيتلاعب بك بحرُ الإغواء حتى يرميك حثالةَ أعشابٍ على شاطئ لا تعرف موقعه. دعوني أروي لكم قصة، قد ترونها طريفة، قد ترونها من نوع الملهاة السوداء، قد ترونها عظة، قد ترونها امتحاناً للنفس البشرية أمام إصرار الإغواء وقوة سحقه للقرار المستقل، ربما قرأتها عن موعظة في جريدةٍ نسيتها، أو في كتابٍ نسيته، أو في لغةٍ نسيتها.. ولكن القصة محفورة في عظم الذاكرة حتى آخر طبقة: بعد تطهّر أحد الأشخاص، وعزمه على التوبة عن كل الآثام ومغرياتها، خرج يمشي عائدا لداره، مطمئنا بإيمانٍ عارم، وسكينة غالبة، وعزم يدفعه نقاءً وصفاء.. بينا هو يسير صادف أحد ندمائه القدماء يعاقر خمراً أمام حانة، وأغواه بأن يعود لطبعه وينادمه، ولكنه رفع رأسه إلى السماء وقال: "ربي غطِّ عينَي".. فتجاهله، ثم أكمل الدرب. وبينا هو يكمل المسير شاهد صاحبا يرافقه في ممارسات القمار التي كان مولعاً بها، وأغواه المقامرُ الرفيقُ القديمُ بأن يشاركه في لعبة قمار مضمونة سيربح منها الكثير. إلا أنّ الرجلَ المتطهِّر رفع رأسَه للسماء وقال "ربي غطّ عينَي". فتجاهله، وأكمل الدرب. ثم وهو يمضي في الطريق تلبس له الشيطان بامرأة حسناء متكسرة الأعطاف مغوية الحركات، وواصلت كل حيل الإغراء التي تملكها أنثى.. قال لها: ما اسمك أيتها الحسناء المغوية؟ قالت اسمي: "السُلْطة"، وسأجعلك الأسعد والأقوى.. وهنا فقد مقاومته، وخارت قوى العزيمة داخله، ورفع رأسَه للسماء وقال: "ربي، غط أنت عينيك!". تلك الحكاية، تلك الطرفة إن رأيتموها كذلك، تصوّر الإغواءَ ومدى صعوبة مقاومته.. خصوصاً عند إغواء السُلطة. وبرأيي أن أقوى الشهوات سطوة وتشبثا لمن تجرفه لنطاقها. الإغواءُ لا يقف أمام شهوة السلطة والجسد، بل يتعداه ويتمدد كثعبان بعشرات الرؤوس إلى الظلم، والخيانة، والفخر الأعمى، والجشع الأسود. لا يظهر الإغواءُ دائماً بصورته الإبليسية التي تتشكل بأقوى جواذب الاشتهاء، كما في قصة الرجل الذي تطهّر ثم دنسه الإغواء.. كما لا يظهر فقط كما تصوّره لوحات رسامي العصور الوسيطة من أساطير منقولة بمخلوق بجسدٍ من نصف حيوان ونصف إنسان بقرنين، وذيل متفرع كالشوكة. بل إنه قد يظهر في شكل رجل عالم مهذب ورفيع الخلق، كما يبدو فإذا هو يبيع الإغواء بحرفنة البائعين المقتدرين.. فيغويك ببطولات وفتوحات ومبادئ وأفكار فإذا هي الجحيم الأحمر. قد يكون مروجا لطيف المظهر يبيع الحلوى الجذابة التغليف لتلاميذ المدارس فإذا هي سم حياة الإدمان المنقوع. هو الشخص المبتسم الواسع الحيلة، الداهية، صاحب أقوى التبريرات، وأزهى الوعود، وهو يغريك بتمرير عقدٍ مخالف، أو تزوير حقائق، أو تدليس للسطو على المال العام، إنه الشخص الذي يتلبس مسوحَ الوعد السعيد وهو يُدَلْدل فوق رأسك كميات تلهب شهوة الجيوب كرشوة تغنيك كما سيقول لك.. للأبد. كما أنها لحظات الانتشاء في استغلال الناس عبر كل الحيل، وعبر كل الواجهات البراقة.. وهي ليست إلا خواءً ورمادا.. الإغواء هو الذي يجعلك تنسى أن الناسَ لهم مثلك شعور ولهم إحساس، ثم تتمادى لأن الإغواءَ يأخذ بيدك للُجَّةِ رويدا رويدا.. ولما تنتبه عند فوات الأوان، سترى أنه أغوى الناس في المقابل لهدم المعبدَ عليك وعليهم. إن الله سبحانه وتعالى لا يرسل شيئا قويا متعاظم الجذب، كعقار مخدر للعقل الواعي، ثم لا يضع له قوة في داخلك تقاومه بالمقابل.. بل إن إبليس على جبروت إغوائه لا يقوى اللهَ في روعة وعوده.. فقط أن تكتشف نورَ الله داخلك. ولكن تأكد أن لإبليس زبانية مهمتهم إطفاء نورك الداخلي، كلما شعّت داخلك أنوارُه. فاخْتَلِ بنفسك عندما ترى أنك مفرطُ القوةِ على الأرض، مفرطُ السلطة على الناس، مفرطُ الثراء من خيرات الدنيا، مفرط الانغماس وراء وجودٍ وحيدٍ هو وجودك أنت فقط.. اختَلِ بنفسك بعيداً عن كل مضلليك ومهلليك ومنتفعيك. وفي الوحدة المتأملة اكتشف ما في داخلك.. وعندما ترى تلك الشعلة تتطاول للضياء.. فافسح لها، وعندها ستجد نورَ الله. وسترفع عينيك فوق للسماء، وستقول: "ربي غطّ عيني!".