تضاعف حجم الاستثمار الدوائي في السوق المحلي    رؤية 2030.. خطى ثابتة وطموح متجدد    الأطفال الأكثر سعادة في العالم.. سر التربية الدنماركية    غزة.. حصار ونزوح    ماجد الجمعان : النصر سيحقق «نخبة آسيا» الموسم المقبل    الفتح يتغلب على الشباب بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    مي الرشيد تقود تحولاً في الرياضة العربية    تشكيل الأهلي المتوقع أمام كاوساكي في نهائي دوري أبطال أسيا    لولوة الحمود : المملكة تعيش نهضة تشكيلية برؤية أصيلة ملتزمة    الإعلام السعودي يضبط البوصلة    عبدالله اليابس.. رحّالة العِلم    تراجع الديمقراطية في أمريكا يهدد صورتها الدولية    عبدالعزيز بن سعود يدشن عددًا من المشروعات التابعة لوزارة الداخلية بمنطقة القصيم    الوحدة يقلب الطاولة على الأخدود بثنائية في دوري روشن للمحترفين    الصيام المتقطع علاج أم موضة    تأثير تناول الأطعمة فائقة المعالجة    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام تسعير طرحه لصكوك بقيمة 1.25 مليار دولار    القبض على 5 إثيوبيين في جازان لتهريبهم 306 كجم "قات"    مجاهد الحكمي يتخرج بدرجة البكالوريوس في الصحة العامة    صافرة قطرية تضبط نهائي النخبة الآسيوية    وصول أولى رحلات ضيوف الرحمن الحجاج القادمين من تايلند    أمانة الشرقية تفعل اليوم العالمي للتراث بالظهران    نائب أمير المنطقة الشرقية يدشّن قاعة الشيخ عبداللطيف بن حمد الجبر -رحمه الله- بالمكتبة المركزية بجامعة الملك فيصل    تسع سنوات من التحول والإنجازات    مركز الملك سلمان للإغاثة يُوقِّع برنامج تعاون مشترك مع مستشفى جريت أورموند ستريت للأطفال ببريطانيا    سكرتير الأديان في بوينس آيرس: المملكة نموذج عالمي في التسامح والاعتدال    تكريم 26 فائزاً في حفل جائزة المحتوى المحلي بنسختها الثالثة تحت شعار "نحتفي بإسهامك"    ارتفاع معدلات اضطراب التوحد في الأحساء    المملكة تدعو الهند وباكستان لتجنب التصعيد    بتوجيه من أمير منطقة مكة المكرمة.. سعود بن مشعل يستعرض خطط الجهات المشاركة في الحج    شارك في اجتماع "الصناعي الخليجي".. الخريف يبحث في الكويت تعزيز الشراكة الاقتصادية    أمير الشرقية يثمن جهود الموارد في إطلاق 6 فرص تنموية    انخفاض وفيات حوادث الطرق 57 %    يوسف إلى القفص الذهبي    "الرؤية".. يوم ثالث يحتفي به الوطن    إطلاق 22 كائنًا فطريًا مهددًا بالانقراض في متنزه البيضاء    أمير تبوك: خدمة الحجاج والزائرين شرف عظيم ومسؤولية كبيرة    خلال جلسات الاستماع أمام محكمة العدل الدولية.. إندونيسيا وروسيا تفضحان الاحتلال.. وأمريكا تشكك في الأونروا    عدوان لا يتوقف وسلاح لا يُسلم.. لبنان بين فكّي إسرائيل و»حزب الله»    845 مليون ريال إيرادات تذاكر السينما في السعودية خلال عام    الحميري ينثر إبداعه في سماء الشرقية    مدير الجوازات يستقبل أولى رحلات المستفيدين من «طريق مكة»    حراسة القلب    الجبير ووزير خارجية البيرو يبحثان تعزيز العلاقات    بريطانيا تنضم للهجمات على الحوثيين لحماية الملاحة البحرية    جمعية الزهايمر تستقبل خبيرة أممية لبحث جودة الحياة لكبار السن    العلا تستقبل 286 ألف سائح خلال عام    جامعة الملك سعود تسجل براءة اختراع طبية عالمية    مؤتمر عالمي لأمراض الدم ينطلق في القطيف    اعتماد برنامج طب الأمراض المعدية للكبار بتجمع القصيم الصحي    أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    واشنطن تبرر الحصار الإسرائيلي وتغض الطرف عن انهيار غزة    أمير منطقة جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    "مبادرة طريق مكة" تنطلق رحلتها الأولى من كراتشي    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما استطعتم من قوة.. و(الحضارة) هي القوة

(المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف) هكذا دشن الوحي العلاقة بين القوة والإيمان، ليؤسس خيرية القوة إذا كانت في يد المؤمن، وفضيلتها إذا تمكن منها المجتمع المسلم. والسعي لامتلاك القوة بمعناها العام طبعاً هو سير في الطريق القويم نحو اكتساب الخيريّة، وإقامة العبودية، وتشييد قواعد التمكين، وتأسيس مجتمع القيم، ونشر الفضيلة في أصقاع الأرض.
(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، وإذ يشير القرآن أن على المجتمع المسلم إعداد ما استطاع من (قوة) هكذا بمعناها الشامل حين يواجه خصومه ومنافسيه، فإن المجتمعات والدول بحسب بداهة حركة التاريخ وسنن الكون تكون في وتيرة متصلة من المواجهة والتزاحم والاعتراك مع المجتمعات والدول والمنظومات الأخرى، خاصة إذا كان هذا المجتمع كما العالم الإسلامي يحمل نبوة وهداية سادت على أرض كثير من الديانات السابقة سماوية وأرضية ، وامتدت راياتها فوق أنقاض عدد من الإمبراطوريات التي تلاشت وهي تحمل منظومات دينية وفكرية وثقافية وعرقية متباينة أشد التباين مع المجتمع المسلم. فإن هذا يشير دون مواربة إلى أن (المواجهة) لا تقتصر على كونها عسكرية الطابع، بل ربما تبدو المواجهة العسكرية هي الأقل حضوراً في مسيرة التاريخ، لحساب أنواع أخرى من المواجهات، التي تتجلى في التضاد الثقافي، والمزاحمة العقائدية، والمغالبة الاقتصادية، والتصارع السياسي.
لذا نبهنا القرآن إلى حتمية سعي المجتمع المسلم إلى تشييد كل أركان (القوة)، الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والثقافية، والعمرانية. ليس لأن الاحتراب العسكري هو حتميٌ بين الشعوب، بل لأن التزاحم الحضاري والثقافي والسياسي هو الحتمية التي لا تنفك عن أي حلقة من حلقات التاريخ البشري الممتد.
لذا بات على المجتمع المسلم (بذل الوسع) في إنشاء الحضارة والقوة، والضخ المتواصل لوقود التشييد والبناء في توربينات الدفع والحركة داخل هذا المجتمع، كي يسير قدماً في طريق نشر الهداية الإلهية والعمران البشري في كل أنحاء المعمورة.
ولأن الله –عز وجل- جعل للكون سنناً منها أن ل (البناء الاقتصادي) و (القوة المالية) أعظم الأثر في تكوين (الحضارة) وامتلاك زمام (القوة)، لكون المال يُعَدّ مدخلاً رئيساً كما نرى في العالم اليوم للبناء العسكري والنفوذ السياسي والهيمنة الإعلامية والتفوق التقني وسواها من مفردات الحضارة والمدنية. تواترت نصوص الوحيين في الحث على اكتساب المال؛ لأنه الركن الشديد الذي يأوي إليه الفرد والمجتمع كلما غالبه الزمن. لذا قدّمه تعالى على بذل النفس وسماه جهاداً (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ). وأثنى الرسول -عليه الصلاة والسلام- على المال في يد المرء الصالح كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند (نعم المال الصالح للمرء الصالح). وحين شكا بعض فقراء الصحابة للرسول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في أن الأغنياء ذهبوا بالأجر (ذهب أهل الدثور بالأجور)، قال عليه الصلاة والسلام: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
فالخيرية هنا خيرية دنيوية وأخروية. بل إنه ببذل المال تسلم أحد كبار الصحابة من فيّ الرسول عليه الصلاة والسلام شهادة خيرية، وهدى، وحسن ختام، وبشرى بالجنة، حين قال عن عثمان -رضي الله عنه- في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه: (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم)، وماذا فعل عثمان في ذاك الموضع غير أن دفع المال لتجهيز جيش العسرة الذي سار إلى تبوك لملاقاة الروم.
وهذا ما يفسر لِمَ كان ستة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم خير الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس، وأعلمهم بمعاني القرآن ومقاصد الشريعة، كيف كان هؤلاء من أكبر تجّار عصرهم وأكثرهم غِنًى وثروة.
وإذا ما عدنا لواقعنا اليوم، نرى شواهد كثيرة لدولٍ كبرى تخلّت عن المواجهة السياسية والعسكرية لأمد محدود مع الدول العظمى، إلى حين أن يكتمل تشييد اقتصادها الذي سيشكل القاعدة الصلبة للمواجهة العسكرية، والنفوذ السياسي، والهيمنة الإعلامية. كما تفعل الصين اليوم التي ومع أنها تحظى بأعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم تعيش ما يشبه العزلة والابتعاد الواعي عن المواجهة السياسية مع دول المعسكر الغربي، على الرغم من أنها تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، وهذا ما يفسر السلوك الصيني الدائم في عدم استخدام حق الفيتو (لا مع ولا ضد)، والرغبة في الحياد المؤقت؛ لأن هناك بحسابات بناء الحضارة ما هو أهم من استعجال المواجهة والبحث عن الهيمنة والنفوذ قبل اكتمال شروطها وأدواتها.
وفي ذات الوقت نرى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تهيمن على كثير من مكامن القرار السياسي والعسكري والثقافي في العالم، وترتهن إرادة الشعوب، وتصدِّر منظومتها الثقافية قسراً لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية لكل دول العالم، حتى سُمّيت (شرطي العالم)، هي تتكئ على قوة اقتصادية هائلة، جعلتها على الرغم من أن تعداد سكانها لا يزيد عن 5% من سكان العالم تتفرد وحدها بمداخيل مرتفعة، جعلت دخلها القومي يتجاوز 25% من دخل العالم أجمع! ومنظومتها الاقتصادية القوية جعلتها تستهلك وحدها أكثر من 30% من البترول المنتج عالمياً!
والقوة ليست بمعناها المادي فقط، بل هي أيضاً قوة وعيٍ وسياسةٍ وتقديرٍ وتبصّر. فرسولنا -عليه الصلاة والسلام- الذي واجه المشركين بقوة السلاح يوم فتح مكة، عندما اكتملت شروط القوة وحانت ساعة التقدير. هو ذاته الذي صالح المشركين يوم الحديبية (بقوة السياسة والتقدير وحسابات المصلحة)، حتى ظنها عمر -رضي الله عنه- (دنيّة في الدين).
وهو ذاته الذي وضع لنا نبراساً لقيمة الوعي بتأثير (الرأي العام) في مسار المجتمع المسلم، حين قال لعائشة -رضي الله عنها- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله)، وورد في صحيح الجامع (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم). وهو الذي أكد ذلك برفضه دعوة عمر رضي الله عنه لقتل رأس النفاق عبد الله بن أبي، وبرر ذلك بقوله (دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).. وهو ذاته الذي ما كان يزيد على دعوة أصحابه الذين يعذّبون في مكة للصبر (صبراً آل ياسر؛ إن موعدكم الجنة)، لإدراكه لطبيعة المرحلة، وتوازنات القوى، ولأنه لم يُؤمر بقتال. وحين اشتد الأمر عليهم، دعا بعضهم للهجرة إلى الحبشة؛ لأن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فهو على معرفة عليه الصلاة والسلام بالوضع السياسي في المحيط، لذا غلّب مصلحة الابتعاد عن مشهد الحدث، عند ملك عادل، بدل المواجهة التي لم تحِن ساعتها بعد.
وإذا ما اقتربنا بالعدسة أكثر لنجري مقاربة واقعية على حالنا اليوم، وكيف أن التقدير الخاطئ للظرف الدولي، وعدم الوعي بموازين القوى، والانغلاق على المحيط، والشغف بلغة الحشد والتعبئة، واللهاث وراء جمع السلاح لإعلان الجهاد على دول الكفر في ذات الوقت الذي نلهث فيه وراء الوسطاء كي يوفروا لنا الذخيرة وقطع الغيار من مصانع الكفار أنفسهم، والتعويل فقط على التقوى وتطبيق الشريعة دون أي إدراك لشروط المواجهة وميكانيزم التفوق والنصر. إن كل ذلك هو ما جعل طالبان التي احتوت القاعدة- ولم تدرك أنها لن تكون في مأمن من رد الفعل- تتقوض تحت قصف التقنية الأمريكية! وهو ما جعل المحاكم الإسلامية في الصومال لا تجد وقتاً لتتنفس الصعداء قبل أن تتدلى على مقصلة القذائف الأثيوبية! وقبل ذلك هو ما جعل الدولة السعودية الأولى التي امتدت لتخوم الدولة العثمانية وأواسط العراق تقع ضحية الامتداد غير المحسوب، لتنتهي على وقع الحضارة المصرية!
إن نصوص الوحيين وسيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- تشير دوماً إلى أن للنصر شروطاً يجب توافرها، وأن التهور والمواجهة غير المحسوبة تحت ذريعة (كفاية التقوى للنصر) لن تودي بأولئك سوى إلى طريق التلاشي والزوال.
* * * *
وإذا ما واصلنا استقراء بعض النصوص الشرعية التي تزخر بها كتب الصحاح، نقف أمام حديث للرسول عليه الصلاة والسلام يحوي بُعداً حضارياً هائلاً، ويدعو لتشييد كل المناطق الشاسعة، والضرب في الأرض، بناءً، وعملاً صالحاً، وهو الذي رواه البخاري في صحيحه (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، كي ينطلق المسلم، يحمل على عاتقه معوله، وفي جوفه دينهُ وخلقهُ، ليعمر الأرض، ويبني الحضارة، ويشيِّد أركان القوة في المجتمع.
وكذا الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قوله: (إذا قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها)، وهل ثمة أروع من هذا دفعاً للبناء والعمران، حتى ولو كان المسلم والمجتمع والكون كله يعيش آخر لحظات الختام الدنيوي، الذي لن يبقى بعده إلاّ وجه ربنا ذي الجلال والإكرام.
وكذا ما كان يوصيه الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء من بعده للمؤمنين المقاتلين (لا تهدموا بيتاً، ولا تقطعوا زرعاً)، فالحضارة والعمران مشتركات بشرية، تكون لنا من بعد أعدائنا، ونعمرها بإذن الله بالخير والإيمان. وتجلى ذلك في مواضع كثيرة، منها يوم رفض المسلمون تقويض رمز التجبّر والطغيان والعبودية الفارسية، حين فتحوا المدائن، ووقفوا بسيوفهم العارية على الديباج الذي امتد في كل جنبات قصر كسرى الأبيض، بل جعلوه مسجداً يصدح بالآذان والقرآن، يومئذ قوّضوا كل رموز التجبّر والعبودية العقائدية لغير الله، لكنهم أبقوا الحضارة الشاخصة لتواصل دوراً جديداً في نشر قيم الإسلام وتعميق الإيمان في النفوس.
ويؤكد لنا الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن الخير (المتعدي) أفضل من ذاك الذي يقتصر على الإنسان ذاته، وأن قضاء حوائج الناس ومساعدتهم في كل ما يسهل عليهم معيشتهم، ويهون عليهم كدر العيش وضغوطات الحياة وكذا الحضارة تفعل هو عبودية أيضاً، وعملٌ للصالحات، تفوق في خيريّتها العبودية الفردية، حين يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه ابن عمر: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، و لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد، -يعني مسجد المدينة شهراً (...)- ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام). وفي الحديث الذي رواه ابن عباس أن رسول الله قال: (من مشى في حاجة أخيه، وبلغ منها كان خيراً من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل بينه وبين النار ثلاثة خنادق، أبعد ما بين الخافقين). وكذا الحديث الذي رواه البخاري عن أنس أن رسول الله قال: (ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).
بل إن كثيراً من نصوص السنة تشير إلى أن الفعل المرتبط بالآخرين (الخير المتعدي)، هو خير عند الله من العبادة الفردية. لذا أتت الشريعة على إعظام أمرين، أولهما (خدمة الناس)، وثانيهما (الأخلاق) بصفتهما مرتبطتين بنمط العلاقات الإنسانية مع الآخرين، لذا قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه أبو هريرة: (إنما بُعِثت لأتمّم مكارم الأخلاق).
بل وأعظم رسول الله من شأن الأخلاق وحسن التعامل مع الناس، وسمّى منتهكها (مفلساً) حتى وإن كان كثير صلاة وصيام، حيث قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة وأورده مسلم في صحيحه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه. ثم طُرح في النار).
إن تشييد العمران، وإقامة الحضارة في المجتمع المسلم، لحماية الهوية، وتملك مكامن القوة والنفوذ، وتصدير الثقافة، وقضاء حوائج الإنسان، وإشباع نزعاته المادية والجسدية بالمباح والمشروع، والحد من الفقر والبطالة، وإيجاد حلول لمشاكل المجتمع الطبية والاجتماعية والبيئية والتعليمية، وإقامة العدل والشورى، وحسن الأخلاق، وسوى ذلك، كلها ألوانٌ في لوحة الحضارة الإنسانية الخيّرة، وهي إذا حسنت النية سبيلٌ لتعميق العبودية، وتديين المجتمع لله رب العالمين.
دعوة للخير.. (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي)
عندما نتتبع النصوص القرآنية التي تشير لحضارات الأمم السابقة، بدا لنا جلياً أن كثيراً من النصوص تشير بجلاء إلى أن (القوة) و (الحضارة) هي خير وفضل يمنّ الله به على من يشاء من عباده. وأن هذا الخير الذي منّ الله به على بعض الأمم السابقة يتطلب مزيداً من الشكر والعبودية والإيمان. فمن تكبّر واغترّ وعصى، فهو في كفر وزيغ وضلال، ومآله إلى جهنم وبئس المصير.
لنستعرض هنا بعضاً من الآيات التي وردت في ذكر الأمم السابقة.
(وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)
وفيها منة وتذكير بالفضل الذي أعطاه لقوم عاد
(وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)
أعطاهم كل مكامن القوة والتفوق، الاستخلاف في الأرض، وقوة الجسد.
بعد ذلك جاءهم نبي الله هود ليدعوهم إلى الله الواحد القهار.
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)
وذكّرهم بفضل الله عليهم ونعمته بأن جعلهم خلفاء وزادهم في الأرض بسطة.
لكنهم أبوا إلاّ الاستكبار والزيغ والكفر بما عند الله، واتهام رسوله بالسفاهة والكذب.
(إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)
ويشير القرآن كذلك.
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)
بل وتحدوا رسول الله أن يأتيهم بوعيد الله وعقابه.
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
فبعد كل هذا الزيغ والكفر والاستكبار وتحدي عقاب الله، عاقبهم ربنا -عز وجل-: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ)
وانظر إلى قوله تعالى للأمم السابقة؛ إذ يشير إلى أن القوة والتمكين هي فضل وخير يستدعي الشكر:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)
لكنهم إذا جحدوا ولم يشكروا ويؤمنوا فلن تُغني عنهم قوتهم وتمكينهم من شيء:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ).
بل إن الله –عزوجل- علمنا أن القوة المادية قد تكون طريقاً للنجاة، وأن بذل الأسباب حتى لأنبيائه هي من سنن الكون التي قدّرها الله في اللوح المحفوظ.. لذا حين جحد قوم نوح برسالات ربهم. أمره الله أن يصنع الفلك على عينه، على الرغم من أنه قادر سبحانه على تجاوز هذا الإطار المادي للنجاة. وقضى نوح عليه السلام عشرات السنين بحسب المرويات وهو يصنع الفلك استعداداً ليوم النجاة.
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا).
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ).
وكذا قوم ثمود، الذين ذكّرهم الله بفضله عليهم؛ إذ بوأهم الأرض واستعمرهم فيها، وأعطاهم من القوة والحضارة والتمكين ما لم يعطه لغيرهم.
(وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا، وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا).
(أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ)
(وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ)
وجاءهم نبي الله صالح يدعوهم إلى الإيمان، ويذكرهم بفضل الله عليهم وخيره ومنّه: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).
بل وأرسل لهم مع ذلك معجزة الناقة، عسى أن تكون لهم آية وبرهاناً.
(هذه ناقة الله لكم آية)
ولكنهم كعاد استكبروا وطغوا وأبوا الإيمان
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)
بل إنهم لم يكتفوا بذلك حتى عقروا آية الله وبرهانه، وتحدّوا نبيه أن يأتيهم بعقاب الله الذي يخوّفهم به: (فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
فعاقبهم ربهم.
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)
كل هذه الآيات تشير دون غرو إلى أن القوة والتمكين والحضارة فضل وخير يمنّ الله به على من يشاء من عباده، وقد تكون طريقاً للنجاة والإيمان والخير، ولكن إذا رفض أصحابها الشكر والإيمان، وأبوا إلاّ الزيغ والجحود والاستكبار، فإن عقابهم عند الله شديد.
ولا أدل من خيرية القوة وفضلها إذا كانت في يد المؤمن من دعوة نبي الله سليمان عليه السلام لربه.
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي)
وخيريتها هي التي استدعت الشكر من يوسف عليه السلام:
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).
وهي فضل من الله آتاه لآل إبراهيم عليه السلام
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً).
ليس في كل الآيات السابقة ذمّ للحضارة والقوة، بل تأكيد على خيريّتها وفضلها الذي يستدعي المنّة ويستوجب الشكر؛ إذ إن القوة والحضارة هي غالبها إطار مادي محايد، يمكن أن يُستخدم في الخير كما الشر، وقد يكون طريقاً للهدى والرشاد، وقد يكون طريقاً للاستكبار والضلال.
ولأن الحضارة تحوي قدراً كبيراً من البريق والإبهار، بشكل بدا جلياً في مجتمعاتنا اليوم ولم يعد في حاجة إلى مزيد تأكيد. فإن أنبياء الله استخدموا هذا الإبهار لهداية الناس للإسلام، كقصة نبي الله سليمان مع ملكة سبأ بلقيس:
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وما تواتر عن رسول الله في السيرة يشير بجلاء إلى ندب استخدام (الإبهار المادي) و (الترغيب الدنيوي) في الدعوة إلى الله، ولا أدلّ من ذلك من وجود باب كامل من أبواب الزكاة تحت مسمى (المؤلفة قلوبهم).. بالله عليك، بماذا يتم تأليف قلوب هؤلاء للدين بغير المال والمكانة والرفعة!! أليس هو استخدام (للقوة المادية) في الدعوة للدين والترغيب في الهداية!
كما نذكر فعل الرسول -عليه الصلاة والسلام- مع ذلك الأعرابي حديث العهد بالإسلام، الذي أعطاه وادياً من غنم، فولاّ ظهره مبهوتاً وهو يتمتم بكرم محمد.
ولماذا كان رسول الله يستهدف زعماء القبائل بالدعوة للإسلام؟! أليس بسبب أنهم بنفوذهم القبلي والمادي سيأتي من ورائهم أقوام كثر، قد لا يكون الإيمان قد استقر في قلوبهم، بل ربما لم يأتِ بهم إلاّ اتباع كبرائهم، لكن الأمل هو في أن يَصلُح إيمانهم إذا اقتربوا من هدي الإسلام ولامسوا قبس النبوة.
الحضارة تملك مخزوناً كثيفاً من الإبهار، فإما أن نكتفي ببقائنا تحت وابل قصف الحضارة وإبهارها، وإما أن (نضرب في الأرض) و (نبذل الوسع) في تحصيلها وامتلاكها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.