ليسوا بالكثيرين هم أولئك الشعراء الذين تتكوّن ما بين القارئ وبينهم علاقة ثقة غير معلنة بما يكتبونه، وبأنهم لن يخيبوا ظنه في الحصول على متعة مرتجاة ومرجأة يظل في حالة انتظار دائم لها، فتراه يقبل على كل كتاب جديد لهم وهو يعد نفسه بوليمة شعرية شهية تشبع حواسه، وتدغدغ مخيلته، وتنتشله من واقعه. أحد أولئك الشعراء هو الشاعر السوري منذر مصري، الذي لم أتعرف عليه إلا متأخراً حين ساقني الحظ للوقوع على كتابه الفاتن «الشاي ليس بطيئاً») الصادر عن شركة رياض الريس عام 2004م. الانطباع الذي تركه في نفسي حينها هو أنه شاعر مختلف ولا يشبه غيره من الشعراء الكثيرين الذين اتخذوا من قصيدة النثر قالباً يصبون فيه قصائدهم، فاختلط حابلها بنابلها وجيدها برديئها، في ظل غياب حركة نقدية فاعلة تميز الحقيقي من الزائف و «الخبيث» من «الطيب». ولعل الملمح الأبرز لقصيدته هو أنها تشبهه، وتحاكي ملامحه، فتحضر فيها تفاصيل حياته وعلاقاته والأواصر التي يقيمها مع الأشخاص والأشياء في سياقات سردية آسرة مطعمة بحس عال من السخرية المرة من كل ومن أي شيء. يضاف إلى ذلك أن لغته تبدو في غاية الخفة والبساطة، وإن كانت من ذلك النوع الخادع من البساطة، حيث تخفي وراءها عمقاً دلالياً جلياً لن تخطئه عين القارئ المدربة على التقاط موجات التوتر الشعري. وبساطة لغته لا تعني بطبيعة الحال تضاؤل مساحة الصورة الشعرية وانحسار فضائها في نصه، بل إن عكس ذلك تماماً هو المتحقق. قبل فترة وقعت على مجموعة جديدة له حملت عنوان «الصدى الذي أخطأ» وهي صادرة عن دار أثر عام 2011م، وهي كانت بمثابة المفاجأة السعيدة بالنسبة لي لأن الانطباع الغالب لدي عن هذه الدار هو أنها تعنى بشكل أساسي بالكاتب المحلي. لن يتسع المجال هنا للحديث عن المجموعة بشكل عام، ولكنني سأتوقف وسأنهي هذه المقالة بالإشارة إلى القصيدة الأخيرة في الكتاب، وهي التي تحمل عنوان «الشعر... شجرة تعترض طريق البشر»، وفيها يعبر الشاعر عن مدى هشاشة الشعر/الشجرة التي «تقف بجذعها الناحل» في طريق البشر الذي يمضي حاداً ومسنناً «كي تقدم لهم كل ما عندها/فيئها الذي لا يغطي رأساً/جذعها الذي/لا يسند ظهراً/ثمرها/الذي/لا يغني عن جوع..».