في روايته الرمزية الشهيرة «مزرعة الحيوان» نلاحظ الشخصية الخيالية للحصان «بوكسر» القوي المتفاني والذي يستجيب لكل عقبة وأزمة بأسلوب «سأعمل بجهد أكبر»، ويظل ملتزما وفيا لفلسفته هذه حتى في أحلك الظروف، إلى أن يرسل في النهاية لساحة ذبح الحيوانات الهزيلة بعد أن يصبح مرهقا خائر القوى، والقصة تمثل شخصية مأساوية نلمحها حولنا كثيرا، فعلى الرغم من نواياه الحسنة فإن جهوده كانت في الواقع تزيد من المشكلات في المزرعة، مما يجعلنا نتساءل، هل نشبه شخصية ذلك الحصان في بعض جوانب حياتنا؟ وهل نستجيب لكل تحد بالتوجه العقلي المؤيد للعمل الشاق كحل وحيد لإعطاء النتائج؟ وهل نحن مقتنعون بأن هناك مرحلة يصبح فيها المزيد من العمل معيقا للمزيد من النتائج؟. التفوق في العمل مهم، لكن بذل الجهد الأكبر لا يعني نتائج أفضل بالضرورة، بل لا بد أن نبدأ بتأمل مفهوم «الأقل الأفضل»، وقد يكون اعتياد هذه الفكرة غريبا لأننا تربينا في الماضي على أن الجهد الشاق هو السبيل الوحيد للتقدم، وبالرغم مع وجود بعض الدراسات التي تشجع الارتباط بين الجهود والنتائج، إلا أن كثيرا من الأبحاث المستجدة ترسم صورة مختلفة تماما. معظمنا يعرف «مبدأ باريتو»، وهي الفكرة التي قدمها «فيلفريدو باريتو» قديما في تسعينات القرن الثامن عشر، بأن عشرين بالمائة من جهودنا تنتج ثمانين بالمائة من النتائج، وبعدها بكثير في عام 1951 قام «جوزيف موزيس جوران» أحد مؤسسي حركة إدارة الجودة في كتابه quality control handbook بالتكلم بالتفصيل عن هذه الفكرة وسمّاها «قانون الأمور القليلة الضرورية»، وأنه يمكن تحسين جودة منتج ما بشدة عبر حل جزء بسيط من المشكلات، ووجدت ملاحظته جمهورا مستعدا في اليابان، والتي كانت حينها تعاني صيتا سيئا لإنتاجها سلعا منخفضة التكلفة والجودة، وباعتمادهم للنظرية أمكن التركيز بنسبة عالية من الجهد والعناية على أمور قليلة ضرورية فقط، وأدت تلك الثورة في الجودة لارتقاء اليابان لتصبح قوة اقتصادية عالمية، وأعطى معنى جديدا كليا لجملة «صنع في اليابان». يمكن تطبيق فكرة التمييز بين «الأمور العديدة التافهة» و«الأمور القليلة الضرورية» على كل مسعى بشري، كبيرا أم صغيرا، وهناك العديد من الكتب التي تشرح كيفية تطبيق مبدأ باريتو (قاعدة 20/80) على الحياة اليومية، فلا يمكن المبالغة بتقدير أهمية كل شيء تقريبا، وحكمة الحياة هي في اكتساب فن إزالة ما هو غير ضروري، وهذا ما يتبناه وارن بافيت الذي يخبرنا في كتبه بأنه يدين بتسعين بالمائة من ثروته لعشرة بالمائة من استثماراته، فهو مقتنع بأن ما لا يفعله المرء يكون بنفس أهمية ما يفعله.