الحضارة الاسلامية حضارة سمحة معتدلة تقبل بطبيعتها الانفتاح على ما ينفع الانسان من تطور في مجال العلوم الطبيعية والكونية، فلا تعارض بين العقل والدين، بل الدين والعلم كلاهما مؤيد للآخر، وما جاء في القرآن والسنة الصحيحة من الثوابت يقبل بناء المتغيرات عليه، فلا تعارض بين الثوابت المتصلة بالفطرة الممنوحة من الخالق، وبين المتغيرات التي هي محض اجتهاد عقل بشري يتطور من حين إلى آخر ويتجدد مع الأجيال. فالمسلم الذي يعيش عصره ويطور وسائله في عالم يعج بألوان الصراع الحضاري، لن يعارض الأصالة التي هي هويته وكيانه، بل بهما يبدع ويؤثر في موكب التاريخ. فالاقتصار على ما تقدمه الأصالة وحدها، يعني الجمود والاكتفاء بالحلول المستوردة من الماضي، كما أن الاقتصار على ملاحقة سعي الآخرين واستهلاك التجارب والحلول المستوردة تبعية وضياع، فالاقتصار على أحد الجانبين لن يؤسس لحضارة مبدعة مستقلة فضلا عن أن تكون رائدة قائدة. إن استئناف السعي في بناء حضارة في القرن الحادي والعشرين يقتضي أن ننطلق من فكر واع أصيل طموح منفتح صبور؛ يعي جذوره الحضارية، ويعي التحديات التي يواجهها، والواقع الذي يعيشه، وما يستدعيه المستقبل الواعد، فيحرص أفراده في ظل هذا التنافس ألا يفقدوا هداية الوحي، وألا يغفلوا عن الاهتمام بأسباب القوة والتقدم المستنيرة بالعقل. إن هذا عمل لا يصنعه فرد، لأنه لا بد أن يكون شاملا للجوانب كلها سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، وهذه مهمة المؤسسات العلمية والفكرية والإعلامية والحكام؛ والمهتمين بقضية مستقبل الأمة، ودورها الحضاري في التاريخ. لقد واجه جيل هذه الأمة الأول حضارتين انفتحتا على الدولة الإسلامية وقدّمتا من التصورات والمشكلات والضغوط ما يكفي لهز قواعد الدولة الإسلامية الناشئة من أساسها، لكن عبقرية ذلك الجيل وإيمانه بمبادئه، ووعيه بدور الأصالة في تكييف المعاصرة، وضمان السيطرة عليها كان له أكبر فضل في تحقيق ذلك الجيل الانتصارَ الحضاري، حتى نجحوا في الإفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها، فاستوعبوا المفيد في كلتا الحضارتين وأصبحتا جزءا من الحضارة الإسلامية. وما فعلته الحضارة الإسلامية في موقفها من الروم والفرس فعلته أوروبا في أخذها من الحضارة الإسلامية حين قطعت الجذور الإسلامية لما اقتبسته. وهذه اليابان بعد أن دمرت في الحرب العالمية الثانية فطنت إلى أهمية هذا الأساس في بناء أمتها، فاهتمت بالتعليم وتطويره، ووفّرت لأبنائه كل إمكانات البناء، حتى عادت في أقل من ربع قرن لتشارك في قيادة العالم، بعد أن دمرت تدميرا شبه كامل بالأسلحة الذرّية. فلماذا لا يقوم الزعماء والنخب في هذه الأمة بدورهم المنتظر الذي ينطلق من وعي شامل بديننا وأصالتنا، وطموح جامح مؤسسي يفتح الآفاق للإبداع والمبدعين لاستعادة دور قيادة الانسانية وعزة الأمة ومجدها. إن العالم المتحضر يجب أن يقوده الخُلّص الذين يشكلون مؤسسات تستغل كل معطيات العقل الحديث، وتتمتع بقيادة حضارية تأخذ بكل الإمكانات الاجتماعية التي تمكنها من أداء دورها. إن الطبقات التي يمكن أن تقود العلم والفكر والأخلاق يجب أن يكون الاستثمار الحقيقي فيها فلا بد من تطوير التعليم من خلال المعلم والمنهج التفاعلي التنافسي الذي يسابق الزمن ليكون قوة وقدرة مؤهلة بالعلم والمعرفة ومحصنة بالإيمان. إن أعباء ومسؤولياتِ تغيير المستقبل، والتطلع إلى الأعلى، تُلقي بثقلها على كواهل الزعماء والنخب المهتمين بصناعة جيل قائد مبدع، وبقدر ما يكون شعور الطليعة بضخامة الأعباء مرهقا، وبقدر ما تواجهه النخب بتصورات سليمة وبعقليات متفتحة، تتمكن هذه النخبة من تجاوز المشكلات الحضارية، ومن دفع الأمة في مجالات الرقي والصعود، وستظل الأمة والجماعة بخير طالما أن هذه الطليعة مدركةٌ لحركة التطور، عارفة بطبيعة عصرها، وما يتطلب المستقبل، وعند تقاعس هذه الزعامات والنخب أو الانغلاق على نفسها، أو التحول للشقاق بين أفرادها، فإنها تكون قد انحرفت عن طريق الريادة والقيادة الراشدة للإنسانية.