من رحمة اللهُ بعباده أنه حين فرض الصيام عليهم، خَصَّه بكلِّ مقيمٍ قادرٍ صحيحِ البدَن، فخفَّف على المريض والمسافر، فأذن لهما أنْ يُفطرا ويَقضيان ما أفطراه، ثم إنْ صامَ القادرُ على الصيام، فَتَعِبَ أو أُجْهِدَ بسبب الصيام، فإنَّ التَّعب المعتادَ لا يُبيح له الفطر، وليس له أنْ يَزعم أنَّه قد يَمرض بسبب هذا التَّعب، فنزولُ المرض بسبب التَّعب المعتاد، وإنْ كان وارداً، غير أنه نادرٌ، وشريعتنا غيرُ مَنوطةٍ بالنَّوادر، فلعلَّه لا يَمرض ولا يتضرَّر، بخلاف التَّعب الشديد الذي يُخافُ أنْ يُؤدِّي إلى ضررٍ في الجسم، فإنه مبيحٌ للفطر، فإذا صامَ المرءُ، فحصل له تعبٌ شديد، وخاف على نفسه ضرراً، إمّا بحدوث عِلَّةٍ، كتَلَفِ حاسَّةٍ مِن حواسِّه، أو الإضرار بمنفعة مِن منافعه، كالكبد أو الكُلْيَة، ومن باب أَوْلَى إنْ كان يُؤدِّي إلى الهلاك، فهذا يجب عليه أنْ يُبادر بالفطر، ولا يجوز له الصوم، فإنْ صام وهو يَعلمُ - بقول طبيبٍ ثقة، أو لتجربة سابقة- أن الصيام يؤدِّي إلى الهلاك أو إلى الإضرار بمنفعةٍ من منافعه، فهو آثمٌ عاصٍ، لأنه عرَّض نفسَه للضرر، ولعلَّ سائلا يسأل وماذا يفعل مَن يعيش في البلاد التي يطول النهار فيها جداً، كالسويد والنرويج وفنلندا وغيرها، هل لهم أنْ يفطروا، فالجواب أنَّ مَن أَمْكَنه أنْ يصوم، وكان غايةُ ما يَحصل له أنَّه يجد مشقَّةً في الصيام لطول النهار، فهذا يجب عليه أن يصوم، وإنْ حصلت له في الصيام مشقَّةٌ أكبر ممَّا يَجدُها غيرُه في البلاد الأخرى، وليعلمْ أنَّ شَرَفَ فريضة الصيام أهمُّ عليه وآكَدُ مِن أنْ يُفطر بدعْوَى حصول مجرَّد التَّعب، والثواب يَعظُم بعِظَم الصبر على المشقَّة، فإنْ اشتدَّ التَّعبُ بأحدهم أثناء الصيام، وخاف حصول الضَّرر أو الهلاك، فقد وجب عليه أنْ يقطع صيامه ويفطر، ويُلاحَظ أنَّه إنْ غلب على ظنِّه -بحكم ضَعْفِ بُنيَته، أو بحكم مشقَّة عَمَلِه- أنَّ صيامه يُؤدِّي إلى الهلاك، فهذا لا يصح أنْ نَشُقَّ عليه، فلا نُلزمُهُ أنْ يصوم معظم النهار، حتَّى إذا اشتدَّ به التَّعبُ في آخر النهار يُفطر، ويستمرُّ حالُه هكذا طيلة شهر رمضان! فلا بأس لو بيَّت نيَّة الفطر، فيفطر ويقضي ما فاته بعد رمضان، لكن إنْ أمكنه صيام بعض الأيام، كأيام العطل التي ليس فيها عملٌ فيجب عليه صيامها، وينبغي ملاحظة أنَّ الخوفَ المبيحَ للفطر ليس الخوف المتوهَّم، وإنما هو الخوفُ المظنون، ولا يُشترط أن يكون متيقِّناً يقيناً جازما، فغالبُ الظَّنِّ مُلحقٌ باليقين، فالمقصود هو الظَّنُّ المستنِدُ إلى قولِ طبيبٍ ثقةٍ حاذق، ولا بأس من الأخذ بقول طبيبٍ غير مسلمٍ، إذا كان أعرفَ بالطب، ولا يُشتَرَط في إباحة الفطر الاستناد على قول الطبيب، بل يَكفي الاستناد إلى العُرْف والعادة، مثل أنْ يكون قد حصلت للصائم تجربةٌ سابقة كادتْ أنْ تُوقِعَه في الهلاك، فيَجبُ عليه حينئذٍ أنْ يُفطر، فإنْ لم يُفطر، فقد عصى اللهَ، فهذا تخفيف الله على مَن كان صحيح البدن، أما المريض في هذه البلاد، فحُكمه حكم المريض في غيرها من البلاد، فلَهُ أن يُفطر إنْ شاء، وله أنْ يصوم إن شاء، والمقصود بالمرض، المرضُ الذي يَخرج بسببه المرءُ عن حدِّ الاعتدال، فيشعر بألمٍ أو تعبٍ أو حُمَّى، وليس وجعُ الاصبع الخفيف مرضاً، إلا إذا كان له أثرٌ يَضْعف بسببه البدن، أو يؤدِّي إلى حُمَّى، فمن كان مصاباً بمرض السُّكَّر أو الضغط أو غيرهما من الأمراض التي يظنُّ أنْ يُؤدِّي الصيام معها إلى أنْ يَزيدَ ضَعفا، جازَ له الفطر، وقد يُندَبُ له الفطرُ إنْ خاف أن يتأخَّر بُرْؤُه، أو أنْ يزيدَ مَرَضُه، وقد يَجب عليه الفطرُ إنْ خاف على نفسه ضرراً على كبده أو على كُلْيَته أو أيِّ منفعة من منافعه، ومِن يُسْر هذا الدِّين أنَّ ضعيف البُنْيَة، وإن كان صحيحاً، فهو مُلحَقٌ بالمريض، ومثلُه الشيخُ الكبير السِّن، فما أرحمَك يا ربّ حين فرضْتَ الصيام علينا، كنَّا نشبعُ فنشكرُك، واليوم نجوع فنصبر ونتضرَّع، فالشِّبَعُ وطُول العوافي أطْغَيا فرعون فقال: (أنا ربكم الأعلى) فخيرُ أوقات العبد وقتٌ يَشْهدُ فيه فاقَتَه، فيدعو دعاء المضطرِّ، ومَن لم يتوقَّف اضطرارُه فقد اتَّسَعَتْ أنوارُه، جعلنا الله ممن لا يزول اضطرارُه، لا في الشدَّة ولا الرَّخاء.