تعجبني أحياناً ظاهرة نشر صور الحياة اليومية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لأنها ببساطة تقرّبني من الأشخاص الذين أتشارك معهم ذات الاهتمامات، لكنها تزعجني جداً في حال قامت بتعطيلي والوقوف في وجه دقائقي التي أزعم أنها ثمينة، كما حدث مثلاً قبل أيام في يوم تخريب (الدايت) الأسبوعي، حين كنتُ أقف في أحد الطوابير الطويلة لمحل الآيسكريم المفضّل لديّ، وحيث أزعجتني جداً الفتاة التي كانت تقف أمامي مباشرة وهي تقوم بتصوير مقاطع مختلفة لكل مراحل اعداد طلبها، من اختيارها للطعم إلى الإضافات الأخرى من الفواكه والمكسرات والبسكويت وحتى يد العامل ووجهه وابتسامته وكذلك نظرة (خلّصينا يابنت) التي بدت على ملامحه، كما أنها اضطرت لإعادة التصوير مرتين لتوضيح لون المانكير ربما وكلمة (واااو) التي كانت تردّدها، وذلك دون اكتراث للبشر الذين مازالوا ينتظرون انتهاء هذا الفيلم (البايخ) قبل ارساله «على إنستغرام». لا ننسى طبعاً أنه لم يظهر في المقطع من الفتاة سوى أصابعها مشيرة كعادة معظم الفتيات بعلامة النصر التي لا معنى لها في ظرف كهذا. على فكرة يقولون ان هذه الحركة اشتهرت بعد أن لوّح بها رئيس الوزراء البريطاني، «وينستون تشرشل»، أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبالرغم أن «الانستغرام» كسر الحواجز بين أفراد المجتمع ووثّق العادات والمناسبات والممارسات اليومية وجعل من التطبيق ساحة للتفاعل والانسجام والنقد وحتى الشتائم، إلا أنه أيضاً قام ببناء حواجز عالية بين أفراد العائلة الواحدة بسبب الوقت الذي نمضيه في الانصراف عنهم بالتصفح والتعليق والاستعراض. صحيح أنني مؤمنة بأن السعادات الصغيرة كشرب كوب قهوة مع من نحب أهم بكثير من سعادة كبيرة منقطعة، لكنني مازلت لا أفهم معنى (علامة النصر ) التي يمكن أن ترافق الحصول على كوب آيسكريم عادي لفتاة وحيدة وعادية؟!. إلّا أنني متأكدة جداً بأن تلك الفتاة لم تكن تقصد إيذاء مشاعر أحد من الذين يشاهدونها والذين لا قدرة لهم مثلا على الخروج من المنزل مثلها، ولكن ربما كان هناك شيء ما بداخلها يأمرها بالتباهي على حساب طابور طويل يقف خلفها بانتظار دوره، ويأمرها أيضاً بالتغاضي عن صوت التململ والأفأفة الذي كنت أصدره في محاولة لتنبيهها بأنها استنفذت وقتًا طويلاً في التصوير والاستعراض وبأنه ارحمينا و(خلّصينا يابنت)، ترى كل الموضوع مجرّد آيسكريم زبادي ياجماعة، وليس اختراعاً أو تحفة أثرية أو تمثالاً اغريقياً أو مومياء فرعونية تستحق كل هذا الاهتمام بشرح الخطوات والمذاق والنكهة المفضلة. يبدو أننا سنحوّل يوماً الاهتمام بتوثيق اللحظات التاريخية والمتاحف العالمية المليئة بالحياة إلى توثيق لحظات تشبه تمثالاً مثلّجاً أو( آيسكريمياً) نتسارع بتصويره قبل أن يذوب ويتلاشى.