لا تحسبوه ممات شخصٍ واحد ... فقلت لصاحبي: جميلٌ أن يصحبَ الشابُّ رجلاً من جيلٍ سبقه فيتحادثوا ويتناقشوا فتتلاقح الأفكار وتنتقل الخبرات من السابق للاحق. قال : ومن تجالس أنت ؟ قلت : لقد صحبت كثيرينَ لأتعلم منهم وأستفيد من خبرتهم في الحياة ؛ وهذه الفترة أجالسُ (حمد العبدالله). رد : حمد ، حمد !! ( ما غيره !! ) قلت: نعم. ثم تسأل: أنت لست رجل أعمال لتستفيد منه تجارياً؛ هل تجالسه لتستفيد من خبرته في التنكيت و"الاضحاك" ! قلت له : وهل ادخال السعادة على القلوب ورسم البسمة على الشفاه أمرٌ هين ؟! ثم سرح بي الخيال لأيام الطفولة الأولى عندما كان ذاك الأربعيني يأتي لبيتنا لزيارة أمي لطيفة، أو عندما أذهب معها إلى أختها منيرة "أم حمد"، حينها لا تسأل عن أمي الوقورة عندما تضحك حتى "تتشقق من الضحك" من نكات وتعليقات ابن اختها، رحمهم الله جميعاً. وأتذكر أيضاً في أيام الطفولة والمراهقة والشباب كيف كان حمد اذا جاء في منزل والدي محمد - رفع الله قدره في الدارين وأعانني على بره - تسبق الطرفة دخوله الى بيت خاله حتى أنني مرة قلت لأحد الأقارب : نحتاج لأخذ راحة بين الشوطين، فبسبب الضحك المستمر صرنا كأننا نجري حول مضمار. وشكلت هذه الطرائف والمواقف المضحكة مخزوناً لي استخدمته لجلب الضحك والسعادة لنفسي وغيري في أوقات الشدة التي مررت بها. وبعد قليلٍ من كلامي مع صاحبي جاء حمد ؛ وكالعادة يدخل المكان بحضور مسرحي طاغ موجهاً صواريخ أرض جو من المزاح والتعليقات من أمام المدخل حتى قبل أن يبدأ المصافحة، فقال لي صاحبي : جاء مستشارك !! نعم ؛ لم يعلم صاحبي ماذا وجدت في حمد ؛ لن أتكلم عن "حمد" البشوش المرح، أو عن رجل الأعمال الناجح، ولا عن الباذل الكريم الخيّر ، فهذه مواقف يعرفها الكثيرون و"محاسنُ قد أثنى (عليه) بها الورى" لكن يا صاحبي سأحدثك عن أمر لا تعلمه وقد لا تتوقعه. إنني منذ تجاوزت - بفضل الله - الظروف التي مرت بي لسنوات وكثيرون يتكلمون معي عن المستقبل والعمل والتجارة والزواج و..و .. إلخ، وكلٌ يقترح - مشكوراً - ما يراه مناسباً ؛ لكنّ حمد لديه موضوع آخر ؛ لا أذكر انه كلمني أحد عنه بعد خروجي إلا هو . كان يتحدث - بحماس - عن الدعوة للإسلام ؛ لم تكن مرة أو مرتين أو ثلاثاً التي حدثني فيها عن هذا الموضوع ؛ وكان يردد : إنه تقع على عاتقنا مسؤولية تبليغ الدين لغير المسلمين، وتعليم المسلمين الجدد أمور دينهم، وكان يرى أنه يجب علي أن أصرف وقتي لهذا الأمر ، ولم يكن الموضوع مجرد "أحاديث سمر" بل كان يتحدث بطريقة عملية واقترح علي المكان الذي يرى انه من الجيد ان أكون فيه. وقد طلب مني - في آخر جلسة لي معه في منزله - المرور عليه صباحاً في المكتب لكي يتأكد من بعض الاجراءات المتعلقة بهذا الموضوع فقلت له : لنجعلها بعد رمضان بإذن الله. لكن الحمد لله على كل حال ؛ الشاهد هو حرصه الشديد على هذا الموضوع بشكل لا تراه عند كثيرين ؛ وقد لا يتوقع ذلك منه كثيرون؛ وقد قال لي : اجعل موضوع العمل والمواضيع الأخرى تابعة لهذا الهدف؛ وليكن هو الأمر الأساس في حياتك ووقتك، وليس شيئاً يقضى في وقت الفراغ. وكان يقول : عندنا في العائلة وخارجها مشايخ ومحامون وتجار وناجحون ومبدعون ومخترعون ومبادرون.. لكن كم عندنا من نذر حياته لدعوة غير المسلمين ممن لم يسمع عن الإسلام من قبل أو سمع عنه مشوهاً، هذا حرص على الدين وغيرةٌ عليه لم أجدها يا صاحبي عند كثيرين ووجدتها عند "حمد". وشئٌ آخر في "حمد" فمن عادة كثيرين ممن هو أسن منك كثيراً ألا يقبل منك بسهولة رأياً يخالفه، بل قد يضيق ذرعاً بمجرد المخالفة ؛ لكن حمد لديه فلسفة أخرى. كان مرة يتكلم في أمر ثم توقف ونظر إليّ وقال - وأنقلها بلفظه - : ((شوف .. ما يصلح كذا اتكلم وأنت ساكت ؛ أبغاك اذا قلت كلام ما توافقني عليه انك تقول stop ، لا .. أنا أختلف معاك يا حمد، لأنني يا يوسف ما اعلم كل شيء وفيه أشياء بقولها غلط وبيكون الصح معاك. فلازم اذا اختلفنا نتحاور وكل يعرض وجهة نظره والا وش فايدة الجلسة ؟)) يقول هذا لشخص أصغر من أصغر أبنائه ؛ ولم يكن هذا مجرد كلام، بل فعلاً كنا نختلف وأعرض عليه وجهة النظر المخالفة تارة نتفق، وتارة ينزل عن رأيه، وتارة نصل الى حل وسط ، ومرة كان يتكلم عن موضوع ثم أخرج كتاباً، وقال : "خذ هذا الكتاب واقرأه". فقلت له : سأشتريه من المكتبة. فقال : أعلم انه بعشرين ريالاً، لكنك أنت ابني وكتابي هو كتابك. فقلت له : لا أقصد هذا، وإنما السبب أنني عندما اقرأ كتباً ابدأ بوضع خطوط تحت ما أراه مهماً وكذا.. فقال : أحسن وأحسن، من أجل أن أقرأ مرة أخرى الأشياء التي تراها مهمة. تناقشنا مرة عن قضيةٍ ما ؛ وعندما أتيته في زيارتي الأخيرة أتيت له بكتاب مترجم عن الموضوع فتحمس جداً؛ وفي أثناء الجلسة تحدثت له عن أحد ملوك الفرس ووصاياه لملوك الفرس من بعده، واستعادني الكلام خلال الجلسة مرتين فقلت له : عندي رسالة هذا الملك كاملة في ملف pdf فقال ارسلها لي، وعندما اتصلت عليه قبل وفاته بأيام قال لي: "جزاك الله خير وش هالزين. أنا مستمتع جداً بهاالكتب هذي وقاعد اقراها". كل هذا وغيره وجدته في عمي حمد العبدالله ؛ وقد لا أستطيع أن أكتب كل المواقف ؛ فلست أديباً، بل ولا كاتباً لكن بعض ما حلّ في قلبي من محبته وما هذه المحبة العظيمة التي ظهرت من البعيد قبل القريب لك يا "حمد" إلا دليل على مكانتك في قلوبهم ؛ " فالناس كلهمُ لفقدك واجدٌ // في كل بيت رنةٌ وزفيرُ " يا حمد : إنك كنت حريصاً على الدعوة للإسلام، فاسأل الله أن يرزقك الفردوس الأعلى. إنك كنت تحرص على إسعاد الآخرين، فأسأل الله ان تبشر بروح وريحان ورب راض غير غضبان. إنك كنت تساعد المحتاجين وتنظر المعسرين فأسال الله أن يتجاوز عنك ويغفر ذنبك ويعلي منزلتك. إنك كنت تحذر من الرشوة والخيانة والمال الحرام فأسأل الله ان يحرّم وجهك على النار . إنك كنت حريصاً على الشباب فاسأل الله ان يحفظ ذريتك ويوفقهم ويبارك لهم. إنك كنت قد ملأت القلوب محبة فأسأل الله أن تكون ممن أحبهم ورضي عنهم. ومضة : الى كل ابن وبنت ؛ جاء في الأثر : " يتبع الرجل يوم القيامة من الحسنات أمثال الجبال فيقول : أنّى هذا ؟ فيقال : باستغفار ولدك لك " .. فوالله إن الاستغفار والدعاء من أعظم البر ؛ وأفضل ما ينفع الميت.
هذه الكلمات كتبها يوسف اليعقوب الزامل.. ونقلت منه لإحياء الذكرى الحسنة لحمد رحمك الله يا أبا عبدالله.