الدكتور احمد فؤاد باشا هو نائب رئيس جامعة القاهرة لشئون المجتمع والبيئة، وكان قبل هذا المنصب عميداً لكلية العلوم.. وهو واحد من أشد المتحمسين للتراث العلمي العربي، وفي رأيه انه الطريق لنهضتنا، وأن ما فيه يمكن ان يكون دافعاً للأخذ بايدينا إلى القوة، وقد اهتمت دراساته بالقاء الضوء على جهود العلماء المسلمين في الحضارة العربية الإسلامية، كما أظهر استفادتهم من الاشارات العلمية القرآنية والنبوية.. ويرى ان الاهتمام بالتراث العلمي العربي واجب حتى يمكن أن نقول اننا أبناء حضارة قوية مكتملة الجوانب.. وقد كان لنا هذا الحوار مع الدكتور احمد فؤاد باشا. @ ما اهمية التراث العلمي بالنسبة لنا نحن العرب؟ * موضوع التراث والحديث عنه قضية جديرة بالمناقشة، لأنه للأسف لا يزال هناك من يقلل ويهون من أهمية الحديث عن التراث بصفة عامة، بل إن هناك من ينادي بالقطعية مع هذا التراث، بزعم ان الماضي لا يفيدنا في حاضرنا، وأن الماضي كثيراً ما يكون مختلطاً بالاساطير والخرافات ومثل هذه الأمور، ويروج لهذه الدعوة كثير من مستشرقي الغرب، وقد سمعنا رؤساء يهونون من هذا الدور على غرار ما فعله بوش ورئيس وزراء بريطانيا. وفي الوقت الذي ينادي فيه البعض بأن التراث قضية ميتة أرى أنها تفرض نفسها في هذا العصر، بدليل ان هناك مثل هذه الدعاوى التي تهون من دور الحضارة العربية الاسلامية، وينعكس هذا على عدم انصاف العقلية العربية الاسلامية، والتشكيك في قدراتها منذ رينان وغيره، وحتى كلما ظهرت بعض النجاحات التي تذكرنا بعصر الازدهار الاول على غرار زويل ومجدي يعقوب وعلماء المسلمين الذين يحصلون على جوائز عالمية، نجد أن البعض يتعجب، وكأن من عجائب الدنيا أن يأتي شخص له جينات عربية إسلامية ويحصل على هذه الجوائز. إذن القضية حية وتحتاج إلى من يتبناها ويدافع عنها. وهي ايضاً شيء مهم لنا كمسلمين، لكي لا ننسى أننا أصحاب حضارة وأن لنا رصيداً حضارياً، وهذا الرصيد الحضاري دافع قوي كي ننهض في حاضرنا وان نستعيد المجد الذي كنا قد شاركنا فيه. ومطلوب ايضاً ان نغرس هذا في نفوس الناشئة منذ الصغر حتى يشعروا انه اذا كان الزمان قد دار دورته واصبح يمسك زمام الحضارة الآن غيرنا، فيعرفوا انهم اصحاب النظرية الحضارية المتفوقة والتي تستمد اصولها وثوابتها من ثوابت الدين الاسلامي الحنيف، والمتمثلة في القرآن الكريم اخر الرسالات، وفي السنة النبوية المطهرة للرسول صلى الله عليه وسلم آخر الانبياء. ولم يكن عبثاً ان تكون هذه الرسالة اخر الرسالات، فهي كما اقول دائماً جاءت على موعد مع نضج العقل البشري، فلم تعد البشرية الآن في حاجة إلى رسل جدد، لانه الله سبحانه وتعالى اراد ان يصل العقل إلى المرحلة التي بها يعمل قدراته وامكاناته لكي يميز الخبيث من الطيب، ويعرف طريق الهدى والرشاد، واذا ما انحرف او ضل فكتاب الاسلام الخالد فيه الطريق إلى الهداية (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). ضرورة حضارية @ هل الحديث عن التراث ضرورة في وقتنا الراهن؟ * الحديث عن التراث مطلب إسلامي وضرورة حضارية، وهذا لا يعني ان نستغرق في الحديث عن التراث، لكن ايضاً نأخذ ما يفيد في حاضرنا ويساعدنا على التخطيط للمستقبل الذي يليق بأمتنا كخير أمة أخرجت للناس. @ ما سبب ازدهار العلم لدى المسلمين الأوائل ؟ * لعلي قلت أننا أصحاب النظرية الحضارية المتفوقة، وهذه المقولة أعنيها تماماً، لأنه اذا نظرنا إلى العصور السابقة على الحضارة العربية الإسلامية والحضارات اللاحقة سنجد أهمية هذه العبارة، فقبل العصر الاسلامي كان الفكر بصفة عامة مجتزءاً، أي غير مكتمل العناصر والمقومات، فكنا نجد من يتبنى المذهب الحسي، والمبدأ التجريبي في بعض الحضارات القديمة مثل المصريين وغيرهم ولا يؤمن بدور المذهب الصوري القائم على التأمل العقلي الخالص ولا يؤمن بدور الحواس والتجربة. وكلا التيارين لا يساعدنا على الوصول إلى الحقيقة وتحصيل المعرفة السليمة، واذا كنا مطالبين بحكم القرآن الكريم (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فالمطلوب: اقرأ في آيات الكون وأعماق النفس والكتاب المقدس، واقرأ لكي تعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) ففي هذه الآيات القليلة تكررت كلمة "اقرأ" وكلمة "علم" ومشتقاتها، فرسالة تبدأ بهذه الكلمات والاوامر لا بد ان تكون رسالة حضارية، والذي وضعها اعلم بمن خلق، ولهذا نجد ان دعوة الاسلام جاءت لتصلح من امر الفكر الفاسد، فلا المذهب الحسي وحده يجدي، ولا المذهب العقلي وحده يجدي، ولكن الاثنان معاً، بل وغيرهما من الملكات التي لا نعلم عنها شيئاً، وهنا يأتي القرآن الكريم ليحسم هذه القضية بما اعده وهنا يأتي القرآن الكريم ليحسم هذه القضية بما أعده أساساً للمعرفة العلمية السليمة، وهو قوله تعالى: "والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون". والأفئدة هنا بمعنى كل الملكات الادراكية التي وهبها الله للإنسان، منها ما يسمى بالحدس والاشراق. ونذكر في تاريخ العلم اكتشافات علمية لم تخضع لا للتجربة ولا للعقل، ولكن استشعرها العالم بحسه الخاص ثم اثبتت التجربة صحتها بعد ذلك، اذن هذه الرسالة الحضارية جاءت لتنقذ الانسان من مستنقع التخلف، وجاء علماء الحضارة الاسلامية مثل الجهاز المستقبل للرسالة، ففهموا الدعوة الاسلامية والاشارات القرآنية (افلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) وليس المراد بالنظر - كما قال القزويني في كتابه "عجائب المخلوقات" ان نقلب الحدقة نحو السماء، فقد قال القزويني: من لم ير من السماء الا زرقتها، ومن الارض الا غبرتها فهو اشبه بالبهائم وادنى حالاً منها، واستشهد بقوله تعالى: (...لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون)، انظر "كيف" فالفلاسفة يقولون السؤال ب "كيف" يتطلب معرفة منهجية باستخدام اسلوب علمي سليم تصل به إلى الحقيقة باعمال العقل والرؤية النقدية والاحتكام إلى عوامل محددة توصل إلى الفكرة الصائبة، فدعوات القرآن وكل الآيات التي حثت على التأمل في الكون ومعرفة الناموس الكوني والظواهر الكونية، يقولون إن عدد الآيات التي تعرضت لمثل هذه الإشارات في مسرح الكون أكثر من عدد آيات الاحكام مثلاً، بل أكثر من هذا، فأن الإسلام دعا إلى البحث في أمور تتعلق بالغيبيات (قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق) إذن لم يحجر على العقل ولم يفرض نظرية علمية معينة، وأبعدنا عن الخرافات والأساطير، فأعطانا مقومات البحث العلمي السليم التي سار عليها علماء الحضارة الإسلامية فأبدعوا نظريات جديدة، بل وأبدعوا علوماً جديدة مثل الجبر والبصريات.. الخ، والحديث عن هذا يطول، لكنهم أبدعوا علوماً ونظريات تشكل الاساس كما قامت عليه النهضة الأوروبية الحديثة، ثم الحضارة المعاصرة التي تجني البشرية ثمارها اليوم، وكما يقول المنصفون من المستشرقين: لو لم تبدأ هذه البداية عند علماء الحضارة العربية الاسلامية لتأخرت المسيرة الحضارية للبشرية إلى ما شاء الله. مقومات الحضارة @ الحضارة الاسلامية ازدهرت بفترة وجيزة ماهي العوامل من وجهة نظركم لسرعة ازدهارها؟ * كانت هناك كل مقومات النهضة العلمية المزدهرة، ولهذا ازدهرت الحضارة في وقت قصير ، لانها عرفت أقصر الطرق إلى النهضة السليمة، وحققت الحضارة العربية الإسلامية انتشاراً ودواماً لم تحققهما أية حضارة أخرى على مر التاريخ واصر على تكرار هذه العبارة "انتشاراً" لانها شغلت الجزء المعمور من الارض في ذلك الوقت، و "دواماً" لانها دامت لأكثر من ثمانية قرون، نجد الحضارة المصرية القديمة مثلاً قوية ودامت كثيراً، لكنها محدودة في منطقتها، اما الحضارة العربية الإسلامية فإنها قامت على الوسطية والتوازن وحققت المعادلة الصعبة: التوازن بين المادة والروح وبين المعنوي والواقعي، هذه الثنائية كانت تميز الحضارة العربية الإسلامية، وقد عرفت الحضارة الإسلامية كيف تتعامل مع الحضارات المجاورة، وهذا ما نفتقده اليوم، فعرفت ماذا تأخذ وماذا تترك، وحققت النموذج الأمثل لحوار الحضارات، وتكاملها وتواصلها. ونحن الآن في عصر الحضارة المغرورة والمنغمسة في المادية إلى أبعد حد، والتي نجدها تنادي بمبدأ الصراع وتتحدث عن الكوارث الطبيعية، وهي أساليب لا تتفق مع المنهج الاسلامي الذي جرب وصنع حضارة، اما هذه الآراء التي تظهر بين الحين والحين، فكلها صور من صور الاستعمار المباشر عن طريق الاحتلال او الاستعمار عن طريق الاقتصاد كما نرى الآن، او النظام العالمي الجديد او العولمة، وكلها محاولات للهيمنة على الشعوب الضعيفة ومحاولة سيطرة تستخدم كل امكاناتها الاعلامية والاقتصادية، بل والعسكرية على نحو ما نجده في منطقتنا هذه الايام. حضارة مكتملة @ بماذا يمكن ان تصف الحضارة العربية الاسلامية؟ * الحضارة العربية الاسلامية كانت مكتملة الاركان، ولهذا الغرب يخشى الآن من الصحوة الاسلامية، لانه يعلم أن الذي يستطيع ان يقف أمامه نداً قوياً هو الاسلام اذا ما طبق تطبيقاً سليماً، ولكن من أسف أن الأمة مرت بعد ذلك بعهود التراجع والانحسار، وابتعد المسلمون عن جادة الطريق، وحدث ما حدث لهم رويداً رويداً، إلى أن وصل بهم الحال كما نرى الآن، وعليهم بحكم تعاليم الاسلام اذا كانوا مسلمين حقاً أن يعودوا إلى الطريق السليم الذي رسمه لهم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. وكل المقومات التي تساعد على هذه النهضة ما زالت قائمة، فلدينا الإمكانات المادية، فنحن امة تشغل مساحة كبيرة من الكرة الارضية غنية بالثروات المائية والأرضية والجوية، تنتشر على مساحات كبيرة من الشواطئ والبحار، لا ينقصها إلا الإدارة، التي افتقدتها ايضاً خلال العصور الاخيرة، واذا تحققت مع تحقيق التكامل بين امكانات وثروات الامة العربية والاسلامية، فلا شك انها تستطيع ان تلحق بالركب، وهذا ما يجعل الآخر دائماً يعمل على تفريق هذه العوامل، سواء سياسياً او اقتصادياً او اجتماعياً، لكن لا بد ان نؤمن بدور العلم في هذه النهضة، وقد اصبحت كلمة العلم مرادفة لكلمة القوة، فاذا كنا نريد ان نمتلك القوة التي تجعلنا ننفذ خططنا وبرامجنا ونموذجنا الاسلامي فعلينا بالعلم، لانه فريضة، وهو فريضة معطلة، لانه اذا كان العلم الذي نعرفه لا يحقق لنا الاكتفاء الذاتي كأمة وافراد فان اداء هذه الفريضة يحتاج إلى جهد، والامة التي تعطل اداء فريضة واجبة امة تلقي بأيديها إلى التهلكة. الجنس الآري @ المستشرقون عندما يتحدثون عن تاريخ العلم يركزون على الحضارة اليونانية والحضارة الاوروبية الحديثة، وغالباً ما يهملون ذكر الحضارات الاخرى، ومنها الحضارة العربية الاسلامية، لماذا؟ * يبدو ان هذه طبيعة الجنس الآري، وانا آسف لانني أتكلم عن الجنس بهذه الصورة، لانه من المفروض ان الحضارة لا وطن لها، وكل الامم ساهمت في صنع الحضارات، وكل العقليات ساهمت في صنع الحضارات، لكن الترويج لأن العلم لا يمكن إلا أن يكون غريباً وان عبقرية المكان لا بد أن تكون في أوروبا، كل هذا غير صحيح، لأنه لولا الحضارة العربية الإسلامية التي قامت ووضعت الاساس لهذه النهضة لظلت هذه المنطقة تعيش حياة بدائية حتى يومنا هذا، لقد حاول الغرب ان يدعم نظريته المزعومة في معجزة الجنس الآري بكثير من الدعاوى غير الحقيقية، بل إنه حاول ان يصطنع علوماً مثل علم الإنسان "الانثربولوجي" وعلم قياس الذكاء لكي يؤكد هذه التفرقة، بل ان بعض النظريات العلمية اسيء استخدامها أيديولوجياً وفلسفياً، مثل نظرية داروين ونظرية نيوتن ونظرية اينشتاين وغيرها، لكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يدحض العلم نفسه هذه النظريات التي قامت عليها المبادئ الالحادية والدعوات التي تستبعد الدين من دائرة التأثير، وبشهادة مؤرخين وفلاسفة من الغرب يبقى في النهاية أنه لا بد لهذه الحضارة من أن تصحح مسيرتها، وإلا فانها ستحفر قبرها بنفسها على غرار ما قاله روجيه جارودي الذي انبثق من قلب هذه الحضارة وحاول تصحيح مسيرتها إسلامياً، إذن الدعاوى قائمة ويبدو أن العداء من طرف واحد وهو طرف بعض المتعصبين، لكننا اذا تصفحنا الثقافة الغربية نجد ايضاً من بينهم من ينصف الحقائق والتاريخ الاسلامي ومن يحاول اظهار هذه الصورة دون تعصب، وأقول إن حقائق الإسلام لو وصلت إلى عقلاء الغرب فانهم اول من يعتنق هذه الحقائق، لانهم ملوا الحضارة المادية والانغماس في المادية ومظاهر هذه الحضارة التي اذا احصيناها سنجد الذمم الخربة وظواهر الانتحار الكثيرة وعدم الرضا الداخلي رغم الثراء الفاحش، كل هذه الامور ملها الإنسان الغربي، وأصبح يبحث عن العقيدة والفلسفة التي تشبع حاجياته الإنسانية ورغباته وتجيب إجابات شافية عن كل تساؤلاته في قضايا الوجود الكبرى، لأن الإنسان عندما يخلو إلى نفسه يسأل دائماً: من أنا؟ والى أين أسير؟ وهل حياتي هكذا؟ وهي اسئلة يطرحها الإنسان منذ وجد على هذه الارض، وعندما يفيق يجد أن الاجابات المطروحة على المستوى المادي غير مقنعة، وليجتهد المسلمون ويرتبوا أنفسهم وليستخدموا إمكاناتهم في نشر صورة الاسلام الحقيقية عند الغرب، فعلينا دور مهم في نشر الإسلام، ونحن مكلفون بهذا، والغرب فيه من العقليات من يستطيع ان يستوعب هذه الحقائق، وأعتقد ان النصر في النهاية للإسلام كعقيدة وللمسلمين اذا ما اخلصوا لهذه العقيدة.
