يمضي الصادق النيهوم في كتابه (الكلمة والصورة) إلى ما وراء الأشياء في سعيه العنيد للقبض على السديم الكائن وراء الكلمات، ويصدر هذا الإقدام عن أنفةِ الكاتب عما هو سطحي وساذج، فيستجمع قواه ليغوص بالقارئ برفق في دواخل الظاهرة اللغوية. وبدا النيهوم في كتابه أنه أطال المكوث أمام سحر اللغة متأملا لها حينا، مستجليا دواخلها حينا آخر. يسجّل النيهوم في مفتتح كتابه صرخة احتجاج على الكلمات بالكلمات وعجزها عن تصوير تلك اللفائف من المشاعر المعقدة التي نشعر بها، حيث يقول: "لحظة يا أصدقائي، فأنا ملزمٌ هنا بأن أُظهر مدى عجز كلماتنا وحدها عن أن تقول شيئا نافعا، وأنها تظل ملقاة على الورق بلهاء، سوداء الأنوف، مقززة مثل القملات لا تستطيع أن تقول شيئا واحدا حتى تتدخل الموهبة لإنقاذها". ويستدعي هذا الاحتجاج ما قاله أوسكار وايلد: "الإنسان وُهِب اللغة كي يخفي بها مشاعره". وما صرّح به خورخي بورخيس، حين قال: "إننا لا نكتب ما نريده، بل نكتب ما نستطيعه". وفي سعيه للبحث عن كلمات مجدية يستعرض النيهوم نصوصا شعرية مثقلة بظلالها المستمدة من أساطيرَ تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، والتي تحمل في الآن نفسه ظلالا أخرى ترمي بالكلمات إلى تخوم بعيدة، تاركة خلفها انطباعات غامضة تستحيل اللغة معها إلى لغة دخانية تنساب في رحابةٍ مربكة تسهم في غزارة الصورة وتكثيف الرؤية الشعرية. إن النيهوم يقترح بديلا عن الكلمات وهي الصورة، والكلمات كما يرى ليست في الواقع سوى مجموعات من الصور الذهنية تظل تتوالى في ذهن المتكلم أو المستمع بطريقة تضارع الذهن البشري في تعقيده، منتجة بذلك انطباعا جديدا خاصا مثل بصمة الأصبع. وفي اختبار أجري لأربعة طلبة في جامعة ميونخ لكي يقوموا بكتابة الانطباع الأول للكلمات التالية: (المغول- الفلسفة- جميل) كانت إجابتهم للكلمة الأولى: شعب بربري من لابسي الجلود، العيون الضيقة، معارك بالخناجر. والكلمة الثانية: أثينا القديمة، سقراط، نيتشه. وهذا نفسه يحدث في تفهم النصوص الأدبية، فلا شك أن أي نص أدبي لا يمكن أن يفهم بطريقة واحدة. إن الصورة هي "ذلك اللقاء الباهر بين الفنان وموضوعه في إطار محدد بثلاثة حدود: المكان، الحقيقة، الأثر". وتكتسب النصوص الأدبية جماليتها بالنظر إلى ما تقدمه من صور، فالصورة ظلال يلقيها النص تجعل المتلقي في أقل تقدير يشعر بالنص الأدبي من خلال تحليق النص بالقارئ إلى جزر الشاعر السحرية وتمكنه من أن يُطل على حالة روحية عالية. (الكلمة والصورة) تعيد إلى الذهن تلك العلاقة التصادمية بين الإنسان واللغة والنزاع الخفي بينهما، وأن ما يريد الإنسان قوله موجود في ما لم يقله، وهنا مكمن مأساته.