ما تزال فكرة تحميل عقولنا على كمبيوتر أو جسم أندرويد من الخيال العلميّ، وما زلنا بعيدين عن رسْمِ خريطةٍ للمخّ البشري. كما أنّنا لا نفهم ما الذي يجعلنا واعين، وليس لدينا أيّ دليل على أنّ مجرّد تحميل المعلومات الموجودة في المخّ على كمبيوتر سيُولّد خبراتٍ ذاتيّة. وأريد في هذا المقال الدفاع عن ثلاثة آراء. أوّلًا، تحميل العقل على كمبيوتر غير مُمكن علميًّا. ثانيًا، حتّى لو تمكَّنّا من تحميل شيء يشبه العقل على كمبيوتر، فمِن غير المرجَّح أن يكون «العقل» المحمَّل واعيًا. ثالثًا، حتّى لو كان العقل المحمّل واعيًا، فسيكون مُختلفًا تمامًا عن عقلنا. يُفهم تحميل العقل بمعنى بناء مُحاكاة حسابيّة لمخٍّ فرديّ داخل كمبيوتر. وتحميل المخّ يَعني مَسْحَ كلّ تفاصيله ثمّ إعادة إنشائها في أساسٍ حسابيّ. وسوف تتطلَّب هذه العمليّة برامج متطوّرة تُحاكي الشخصيّةَ الكاملة لشخصٍ في جميع خصائصه واستجاباته وذاكرته. ولمعرفة ما إذا كانت التطوّرات التكنولوجيّة ستمنحنا نوع البقاء أو الخلود الذي يَحفل به المستقبليّون، أرانا في حاجةٍ إلى الإجابة عن ثلاثة أسئلة. الأوّل علمي وهو: هل يُمكن رسْم خريطة للشبكة العصبيّة البشريّة في وقتٍ قريب، وإذا كان ذلك مُمكنًا، فهل يُمكن نسْخها بدقّة وتحميلها على كمبيوتر؟ والآخران فلسفيّان: هل ستكون الآلةُ التي تَحمل حالتكَ العقليّة واعيةً حقًّا؟ وحتّى لو كان الأمر كذلك، فهل ستكون أنتَ حقًّا؟ تعقُّد المخّ يُمثّل الحجْم الهائل للمخّ البشري عقبةً كأداء أمام نسْخِه. يَحتوي المخُّ البشري على حوالى 90 مليار خليّة عصبيّة. وتتّصل كلُّ خليّة عصبيّة بنحو 10 آلاف خليّة عصبيّة أخرى. ويَحتوي المخُّ على أكثر من 100 تريليون من هذه الروابط بين الخلايا العصبيّة التي تَسمح للمخّ بالتواصُل وتُسمّى المَشابِك العصبيّة. تميل الخلايا العصبيّة إلى التواصُل مع جاراتها فقط، في ما يُطلق عليه بنية «العالَم الصغير». ويُطلق على مخِّكَ، «ذاتك»، اسم شبكة عصبيّة. لو استطعنا قياس جميع الخلايا العصبيّة في مخِّ شخصٍ ما، وتحديد الروابط العصبيّة في ما بينها، لحصلْنا على جوهر الشخص. ويقول أنصار تحميل العقل مثل راي كوزويل ومايكل جرازيانو: إذا كان العلماء قد استطاعوا رسْمَ خريطة الجينوم البشري في العام 2003، وهو إنجاز كان يُعتقد سابقًا أنّه مستحيل، فسيتمكّنون من مُواجَهة التحدّي التقني الأكبر وهو رسْم خريطة للشبكة العصبيّة البشريّة. لكلّ شخص شبكة عصبيّة فريدة تُحدِّد عقلَهُ الفريد. ولكنْ، تأمَّل وضْعَ عِلم الشبكات العصبيّة. في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، حدَّد العلماءُ بطُرُقٍ يدويّة مُخطَّطَ الشبكات العصبيّة الكامل لنَوعٍ من الديدان الصغيرة، والذي يضمّ 302 خليّة عصبيّة. وبَعد ثلاثين عامًا أَصبح مخطَّطُ الشبكات العصبيّة الثاني، وهو مخطّط ذبابة الفاكهة، مُتاحًا في العام 2023. استغرقَ بناء الشبكة العصبيّة لذبابة الفاكهة 12 عامًا، وكلَّف أكثر من 40 مليون دولار؛ وتحتوي على حوالى 25.000 خليّة عصبيّة و20 مليون مشبك عصبي. تذكَّر أنَّ المخَّ البشري يحتوي على أكثر من 90 مليون خليّة عصبيّة، وأكثر من 100 تريليون مشبك عصبي. أمّا مُخطَّط الشبكات العصبيّة الكامل للفأر، فمِن غير المتوقَّع أن يتوافر قَبل العام 2030. لاحِظ أنّ مخَّ الإنسان (1508 جرامات) أكبر بحوالى ألف مرّة من مخّ الفأر (1.8 جرام). هناك مشروعات للمخّ تُقدِّم كميّاتٍ هائلة من المعلومات التشريحيّة العصبيّة والفيزيولوجيّة العصبيّة. ولكنّكَ ستَندهش عندما تَجِد أنّ هذا الطوفان من المعلومات يؤدّي إلى اختناقاتٍ كبيرة في التقدُّم، لأنّ «البيانات الضخمة ليست معرَّفة» كما قال عالِم الأعصاب الفرنسي إيف فريجناك. مُحاكاة المخّ غير مُمكنة لأنّها يجب أن تكون مُكافِئة وظيفيّاً للمخّ الذي تحاكيه، ولا نملك طريقة لبناء مثل هذه المحاكاة. وأراني أميل إلى الطريقة التكامليّة في فهْم المخّ والعقل. ذلك بأنّ دراسة «الانفعالات»، مثل الحبّ والكراهية، يتطلَّب بحثُها في سياق كائن حيّ يتفاعل مع العالَم الخارجي. زد على ذلك أنّها تَرتبط بالقلب، في حين أنّ الإدراكات مثل التفكير والاستدلال والتذكُّر تَرتبط بالمخّ. وعي الآلة في كلّ لحظة من حياتكَ اليقظة، وكلّما حَلمتَ، تَشعر وكأنّ شيئًا يكون أنت. عندما تتذوَّق طعامكَ أو شرابك، أو يَنشرح صدرك لسماعِ خبرٍ سار، أو تتذكَّر حادثةً في عهد الصبا، فأنتَ تعيش خبرةً واعية. مشكلة الوعي هي أنّنا لا نَعرف على وجه الدقّة ما عسى أن يكون، وكيف يَنبثق الوعي من نشاط الخلايا العصبيّة في الرؤية الماديّة الضيّقة؟ أو من نشاط هذه الخلايا، وارتباط المخّ بسائر الجسم والبيئة الخارجيّة في الرؤية التكامليّة التي أدافع عنها؟ ولذلك، حتّى لو تمكَّنّا من تحميل جميع المعلومات الموجودة داخل أمخاخنا على كمبيوتر، فلا يوجد دليلٌ على أنّ هذه المعلومات وحدها كافية لإنتاج الوعي. افترِض أنّنا قُمنا بمُحاكاةٍ كاملة لمخّك. وحَملْنا نسختكَ الرقميّة على كمبيوتر يتحدَّث بصوتكَ، ويَعرض سماتكَ الشخصيّة، وذكرياتِك. هل سيكون توأمك الرقميّ واعيًا حقًّا؟ أم سيكون روبوتًا ذكيًّا ولكن لا يشعر بشيءٍ ممّا يفعل؟ يَجوز الاعتراض بأنّ شيئًا مثل GPT-4، يَستخدم اللّغة بالطرق المعقّدة التي نَستخدمها، يَجب بالضرورة أن يكون واعيًا أيضًا. والردّ هو أنّ تحدُّث الآلة مثلنا لا يعني أنّها تَملك كلّ ما لدينا من خصائص مثل المشاعر. يَفترض تحميلُ العقل الوظيفيّةَ. وتتمسّك الوظيفيّة الحسابيّة بأنّنا إذا نَسخنا وظيفةَ شيءٍ ما بدقّة على كمبيوترٍ رقمي، بالمُدخلات نفسها التي تؤدّي إلى المُخرجات نفسها، فإنّنا نتمكّن من جوهر هذا الشيء. وهكذا، بمجرّد وصْف جميع وظائف المخّ، وصولاً إلى مستوى مكوّناته الفرديّة، ونمْذجتها بشكلٍ صحيح في برمجيّات، ستَعرض محاكاة المخّ بالكامل جميع خصائصه النّاشئة، بما في ذلك الوعي. ولكن، هل الحساب كافٍ للعقل؟ هنا نُلاحظ اختلافاً بين نظريّتَيْن بارزتَيْن في الوعي. تَعتمد نظريّةُ مساحة العمل العصبيّة الشاملة على فرْضٍ مؤدّاه أنّ ما نُسمّيه «وعيًا» يُنتَج عن أنواعٍ مُحدَّدة من حسابات مُعالَجة المعلومات، التي تُحقِّقها فيزيائيًا أجهزةُ المخّ. أمّا نظريّة المعلومات المُتكاملة فتَسلك طريقًا مُختلفًا. فهي تُجادِل بأنّ الوعي ليس نَوعًا من الحساب، وإنّما يتحدَّد بالقوى السببيّة للنظام على نفسه، سواءً أكان مخًّا أم كمبيوترًا. يؤيِّد كريستوف كوخ في كتاب «إذاً أنا نفسي العالَم» 2024 نظريّة المعلومات المتكاملة، ويرى أنّ تحميل العقل لا طائل تحته، لأنّه حتّى لو أُعيد إنتاج معالجة المعلومات، فإنّ غياب البنية السببيّة الفيزيائيّة يَعني أنّ النّظامَ النّاتج لن يكون واعيًا. والرأي عندي أنّ أفكار تحميل العقل والنظريّة الحسابيّة في العقل لا تأخذ على محمل الجدّ حقيقةَ أنّ الوعي ظاهرةٌ بيولوجيّة. التحميل والهويّة الشخصيّة يُقدّم الفلاسفةُ في مسألة الهويّة الشخصيّة ثلاث نظريّات أساسيّة. تُقرِّر نظريّةُ النفس أنّ هويّة الشخص عَبْرَ الزمن تكمن في استمرار وجود النَّفس ذاتها. وتؤكِّد النظريّة النفسيّة أنّ هويّة الشخص عَبْرَ الزمن تكمن في حقائق نفسيّة، مثل اتّصالات الذاكرة (تجربة فكر الأمير والإسكافي عند جون لوك). وتَقترح النظريّة الفيزيائيّة أنّ هويّة الشخص عَبْرَ الزمن تكمن في حقائق فيزيائيّة، مثل امتلاك الجسم نفسه. وتُثير عمليّة تحميل العقل مشكلةً لهذه النظريّات لأنّ عمليّة التحميل يُمكن تشغيلها مرّاتٍ عدّة في وقتٍ واحد، ما يَنتج عنه مظاهر متعدّدة للشخص الأصلي. لا يَنسجم التحميلُ التدريجي مع نظريّة النَّفس، لأنّ أصحاب هذه النظريّة يَعتقدون أنّ النفوس غير قابلة للتجْزئة. ونظراً لأنّ عمليّة التحميل تتمّ عن طريق نقْل البيانات - من دون أن يتحرَّك أيُّ شيء حقًّا من جسمٍ إلى آخر - فليس من الواضح متى بالضبط سوف «تَقفز» نفسٌ من جسمٍ إلى آخر، أو لماذا ينبغي لنا أن نعتقد أنّها سوف تفعل ذلك. انقسمَ الفلاسفةُ إزاء تحميل العقل إلى مُتشائمين ومُتفائلين. فأمّا المُتشائمون فقد لاحَظوا أنّه حتّى أثناء التحميل السريع، لا يُمكن أن تكون عمليّة التحميل فوريّة. لذلك، سيكون لدينا موقفٌ يكون فيه الشخص موجودًا في لحظةٍ ما في جسمٍ بيولوجي، ثمّ هناك فترة قصيرة لا يوجد فيها الشخص، ثمّ لحظة يوجد فيها الشخص مرّةً أخرى في كمبيوتر؛ فجوة في استمرار وجودهما. يرفض كثيرٌ من الفلاسفة الزَّعمَ بأنّ الكائنات (بما في ذلك الأشخاص) يُمكن أن يكون لها مثل هذا الوجود الذي تتخلّله فجوة. وأمّا المتفائلون فيرون أنّ هناك سببًا للتفاؤل بشأن التحميل التدريجي، كما يُشير ديفيد تشالمرز: إذا استبدل روبوت نانوي بخليّة واحدة فقط من الخلايا العصبيّة لشخص ما، فسيظلّ الشخصُ النّاتج هو هو. وفاتَ المُتفائلين أنّ هذه الطريقة في التحميل عندما تَبلغ غايتها ستُواجِه لغزَ سفينة ثيسيوس. تلك السفينة التي كانت تُبحر، وكلّما اهتَرأ منها لوحٌ وَضع البحّارةُ لوحًا جديدًا بدلًا منه حتّى استُبدلت السفينة بالكامل. ثمّ جُمعت الأجزاء المُهترئة وعُولجت وصُنع منها سفينة ثانية. والسؤال هو: هل ما تزال السفينة المرمَّمة هي السفينة الأصليّة؟ إذا كانت السفينة بوظيفتها، فإنّ الجواب سيكون: لا، لأنّها لا تؤدّي الوظيفةَ التي تؤدّيها السفينةُ المجدَّدة الآن. وإذا كانت السفينة بمكوّناتِها، فإنّ الجواب سيكون: نعم. وتَستطيع أن تقول مثل هذا عن الشخص البيولوجي والشخص الأندرويد. وهل تحميل الذكريات يَعني تحميل الوعي؟ وماذا عن الانفعالات والمشاعر التي تتغيَّر في الشخص البيولوجي بين لحظةٍ وأخرى؟ وماذا عن الإيمان باللّه وأمور الغَيب؟ هل يَملك الشخص الأندرويد إرادةَ الإيمان والكُفر، والخير والشرّ، والحبّ والكراهية؟ هل سيكون كائنًا أخلاقيًّا؟ أغلب الظنّ بل الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ تحميل المعلومات شيء، وتحميل الوعي شيء آخر. وإذا تحقَّق الأوّل بدرجاتٍ منوَّعة، فإنّ الثاني لا سبيل إلى تحقيقه أبدًا. لماذا؟ لأنّ الوعي مُرتبط بالنَّفس. ومن دون وعي، لا معنى لأيّ شيء. إذا تجوَّلتَ في المستقبل في وادي السيلكون، ودخلتَ مركز؟ا لتصميم العقل لشراء شرائح لتحسين مخّك، فلا تغرّنّكَ تكنولوجيا الخلود؛ فتُنفق أموالكَ عبثًا في تحميل عقلك، لأنّهم لن يستطيعوا. وإذا استطاعوا، فلن يكون العقل المُحمَّل واعيًا. وحتّى لو كان العقل المحمَّل واعيًا، فلن يكون هو أنت. وهكذا ترى معي أنّ دعوى تحميل العقل تُثير تساؤلاتٍ مُهمّة حول حدود التكنولوجيا، وما يَجعلنا بَشَرًا. *أكاديمي ومفكّر من مصر * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.