من جبة إلى شيبارا، ومن النقوش الصخرية إلى الفلل المائية، تتكشف قصة وطن. رحلة واحدة كانت كافية لتؤكد أن شمال غرب السعودية ليس وجهة سياحية، بل تجربة متكاملة. لم تكن رحلتي البرية إلى شمال غرب المملكة العربية السعودية برفقة أم صالح، مجرد انتقال بين مدن ومواقع، بل كانت تجربة معرفية وإنسانية متكاملة. ومنذ لحظة التخطيط، كان القرار الأهم هو الاستعانة بمرشدين سياحيين من أبناء المنطقة، وهو ما أثبت لاحقًا أنه سر نجاح الرحلة وعمقها. ومع نهاية الأيام الأحد عشر، ازددت يقينًا بأن اختيار سمو ولي العهد لمشاريع نيوموالبحر الأحمر لم يكن محض صدفة، بل قراءة دقيقة لمناطق تمتلك مزيجًا نادرًا من جمال الطبيعة، وتنوع التضاريس، وعمق الإرث التاريخي، واعتدال المناخ، قبل ذلك كله إنسان المكان، بكرمه وأخلاقه وقبوله للآخر. انطلقت الرحلة من القصيم، حيث كانت البداية هادئة، تلتها جولة مسائية في شارع البخاري، وزيارات لمنتزه نخلا ومنطقة عسيب، لتكون تمهيدًا مريحًا لرحلة طويلة. في حائل، التقينا بالمرشد الثقافي تركي أبو حمود، الذي قادنا إلى جبة، أحد أهم مواقع النقوش الصخرية في الجزيرة العربية. هناك، شاهدنا رسومات يعود تاريخها لأكثر من سبعة آلاف عام، وكتابات ثمودية تعود إلى نحو 2500 عام، زاد من قيمتها شرح المرشد المتقن لقراءتها، قبل أن نختم اليوم في عقدة ومطل حاتم الطائي. واستمر البرنامج في حائل بزيارة السوق الشعبي، والتبضع من منتجاتها الشهيرة، ثم رحلة برية إلى جو ومنطقة توارن، حيث ديار وقبر حاتم الطائي، في تجربة امتزج فيها التاريخ بالطبيعة. وكانت الجلسة البرية وكبسة الحاشي إحدى الذكريات التي لا تُنسى. ومن تيماء، وقفنا أمام بئر هداج، الشاهد التاريخي الذي يُنسب حفره إلى الملك البابلي نابونيد قبل نحو 2600 عام، وزرنا قصر الأمير نهار، قبل التوجه إلى تبوك. وفي تبوك، قادتنا الرحلة إلى محمية بجدة، مرورًا بجبل السفينة، ومواقع تحوي كتابات ثمودية وعربية قبل التنقيط. هناك، شاهدنا المها العربي والغزلان والنعام، والشلالات بعد هطول الأمطار، في مشاهد طبيعية نادرة. أما حقل، فحملت نكهة بحرية خاصة، من معصرة زيت الزيتون وغار النجيلة، إلى نقطة تطل على حدود أربع دول، وزيارة السفينة اليونانية الغارقة جورجيوس منذ عام 1978، المعروفة ب«تايتنك السعودية»، مع إطلالة على مشروع تروجينا. وتواصلت الرحلة في البدع، مرورًا برسومات جبال اللوز، ومغائر شعيب، وبئر السعدني، ثم عيون موسى الاثنتي عشرة في مقنا، ووادي طيب اسم، قبل التوقف عند موقع تحطم طائرة كتلينا عام 1960. وفي وادي الديسة، ضاعف المطر وحماية البيئة من سحر المكان، وسط تكوينات صخرية مدهشة، وجلسة برية ختمت يومًا استثنائيًا. المرحلة الأخيرة من الرحلة حملت بعدًا مختلفًا، حين انتقلنا إلى منتجعات البحر الأحمر، وتحديدًا منتجع الصحراء الجبلي، الذي لا يكتفي بتقديم تجربة إقامة فريدة محفورة داخل الجبال، بل يأخذ الزائر إلى مستوى آخر من التفاعل مع الطبيعة. هناك، خضنا تجربة التسلق الجبلي «فيا فيراتا»، إحدى أفضل تجارب الرحلة، حيث امتزج التحدي بالدهشة، والصمت الجبلي باتساع الأفق، في لحظات تعيد تعريف علاقتك بالخوف والارتفاع والذات. لم يكن الصعود مجرد نشاط بدني، بل تجربة ذهنية وإنسانية، ترى فيها الجبال من زاوية مختلفة، وتدرك كيف يمكن للسياحة أن تكون مغامرة واعية لا ترفًا عابرًا. ومن أعالي المسارات، كانت مشاهد الغروب لوحة لا تُنسى، أكدت أن هذا النوع من السياحة هو ما يصنع الفارق الحقيقي في تجربة الزائر. بعدها، انتقلنا إلى منتجع شيبارا، حيث اختلف المشهد دون أن يقل جمالًا؛ فلل مائية جميلة جدًا ورائعة التصميم، تطفو على مياه البحر الأحمر الصافية، وتمنح الزائر إحساسًا فريدًا بالهدوء والخصوصية. وبين تجربة السنوركلينغ الغنية بالحياة البحرية، والكياك الشفاف الذي يكشف جمال الأعماق، اكتملت صورة التوازن بين الطبيعة والفخامة، في واحدة من أجمل محطات الرحلة. اختتمنا الرحلة في ينبع الصناعية، ونحن نحمل قناعة راسخة بأن سعوديتنا ليست مجرد وجهة سياحية واعدة، بل وطن يختزن الجمال، والتاريخ، والإنسان، ويمنح زائره – ومواطنيه قبل غيرهم – ثراءً فكريًا.