أثارت مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لتصنيف بعض فروع الجماعة كمنظمات إرهابية، سؤالًا جوهريًا تجاهلته كثير من النقاشات الإعلامية والسياسية العربية، ومنها بعض التعليقات أو المقالات في بعض الصحف ووسائل التواصل، وهذا السؤال هو: هل جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية قابلة للاحتواء؟ وقابلة للحظر القانوني؟ أم هي تنظيم «أممي» يتجاوز القدرة التقليدية للدول على الحظر فضلًا عن الاحتواء. ولعلي أبدأ «بتغريدة» طرحت مسألة الاحتواء، كتبها أحد الخبراء الإستراتيجيين، بعناوين لافتة، مثل: «جماعة الإخوان المسلمين في أسوأ منعطف تاريخي!» و«فرصة لعقلنتهم وإعادة دمجهم في الحياة الوطنية الطبيعية!» و«ساعدوهم للتحول من أوهامهم السياسية إلى المواطنة القُطرية والولاء للدولة!»، و«استيعاب قياداتهم ومنظريهم أصبحت منطقية!»، وحري بي أن أذكر أولًا بأن إفرازات أحداث «الربيع العربي»، تمثل المرحلة الحاسمة مع الجماعة الإرهابية على المستوى الوطني السعودي، حيث حسمت المملكة الأمر بشكل مبرم، بعد أن قامت الدولة بحزمة من الإصلاحات والتجديدات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في إطار ثقافي حضاري فريد وغير مسبوق في التاريخ السعودي؛ تخللتها قرارات سياسية وشرعية وأمنية حاسمة في شأن الجماعة الإرهابية، لتأتي النتيجة المدهشة التي نجم عنها أكبر انخفاض تاريخي لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في الخليج، و«التغريدة» هنا تريد العودة بنا إلى نقطة الصفر وإعطاء التنظيم الفرصة التي لم يحصل عليها في تاريخ المملكة، وفي هذا مخالفة لمنطق الأمن الوطني السعودي بالكامل. وجاءت بنية التغريدة على فرضية أن الإخوان انتهوا تنظيميًا، ولديهم الآن قابلية عالية للاستيعاب، وأن تصنيفهم إرهابيًا من قبل أمريكا هو فرصة للإصلاح وليس سبيلًا للمحاسبة، خصوصًا وأنهم عرب...إلخ، وهذا خطاب عاطفي يتجاهل ما يمكن أن نطلق عليه «علم التنظيمات المغلقة»، ويتجاهل التجارب التاريخية التي أثبتت أن كل عمليات الاحتواء السابقة للجماعة الإرهابية فشلت بامتياز. وتبرز المغالطة المركزية في «التغريدة» في الخلط بين التنظيم والقاعدة الشعبية، فالتغريدة قسمت الجماعة الإرهابية إلى «قيادات» يمكن دمجهم اجتماعيًا وسياسيًا، و«غوغاء» يختفون تلقائيًا بالاستيعاب، وهذا طرح غير علمي وغير دقيق؛ لأن التنظيم قائم على سلسلة ولاء عقائدي لا علاقة لها بالاندماج «الوظيفي»، والتجارب المشابهة في بعض الدول أثبتت أن «دمج القيادات» يزيد قوتهم ولا يضعفهم أو يلغيهم. ثم إن ما يمكن أن نطلق عليه «إعادة التأهيل، أو إعادة دمج العناصر الإرهابية»، هي نظرية مضللة تقوم على: تصوير التنظيمات العقائدية كأنها قابلة لإعادة التدوير، كما تقوم على إغفال أن الإخوان تنظيم أممي يعجز بنيويًا عن التحول إلى مواطنة قطرية، وهذا هو جوهر الخلل في تصور طبيعة التنظيمات الإسلاموية، ومن منظور الأمن الوطني فإن التنظيمات العقائدية لا تُدمج، بل: تُفكك، وتُجفف شبكاتها، وتُزال مواردها، وكل محاولة لإعادة استيعابهم في إطار وطني، أو ضمن مبادرة وطنية هي مخاطرة عالية جدًا، لا تعني إلا إعادة التموضع ثم التمكين، وهذا أخطر ما يهدد الدولة من داخلها سواء القطرية (كوجود على أمد طويل) والوطنية (كمفهوم على أمد قصير). أعود لأقول إن هذه النقاشات، صورت مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لتصنيف بعض فروع الجماعة كمنظمات إرهابية، كتحول استراتيجي ثابت، بينما هو في الحقيقة حراك سياسي محدود التأثير والأثر عمليًا حتى الآن، وغالب الظن أن ثمة ما سينقضه بعد انتهاء فترته الرئاسية، خصوصًا إن كان الرئيس القادم ديمقراطيًا، كما أن مؤسسات الدولة الأمريكية: (الخارجية، البنتاغون، الاستخبارات) لم يظهر منها أي رد فعل تجاه القرار، ولم يجد القرار كذلك صدى داخل الكونغرس من أي نوع، مما يعني بقاء الحال في هذه المؤسسات على ما هو عليه، أو بمعنى أخر هو لا يزال في طور القرار التنفيذي، وفي طور القرار المحلي في ولايتي تكساس وفلوريدا، ولم يتحول إلى قرار حكومي فيدرالي، وبالتالي فالفرضية الأساسية التي بنيت عليها الطموحات والآمال في هذه النقاشات تحتاج إعادة نظر، أو على الأقل تأجيل لحين أخذ القرار دورته في أروقة الحكومة الفيدرالية ودهاليزها. خلاصة القول إن هذه النقاشات تجاوزت بعض الحقائق: أولها: أن الإخوان ليسوا فاعلًا واحدًا، فهناك: إخوان الأقطار المختلفة في آسيا وإفريقيا، وهناك التنظيم الدولي، وشبكات الأمريكيتين وتحديدًا أمريكا الشمالية، وشبكات أوروبا، وشبكات التمويل في لندن وجنيف وإسطنبول، وكل كيان له قيادته، وأجندته، وتحالفاته، فكيف «تستوعب» أو تحظر تنظيمًا متشعبًا، أخطبوطي الانتشار، في غالبه بلا هوية ولا كيان رسمي أو قانوني، ويعمل خلف مجموعة هائلة من الواجهات المضللة مختلفة المشارب غير المتوقعة أحيانًا. ثانيها: أن أيديولوجيا الإخوان غير قابلة للمواطنة بنيويًا، كما أسلفت، هدفها النهائي هو «تمكين الجماعة» لا الدولة. ثالثها: قُدمت الجماعة الإرهابية في هذه النقاشات كما لو كانت حزبًا سياسيًا يمكن حظره عبر قرار رئاسي، على غرار بعض الحركات المتطرفة في أمريكا، وهذا خطأ جوهري، لأن الجماعة ليست حزبًا، بل هي تنظيم عابر للأمم والدول، قادر على إعادة إنتاج نفسه خارج الأطر القانونية، وبالتالي، فالتعامل معه كحزب قانوني قابل للحظر هو خلل كبير في فهم ماهية التنظيم وكنهه، وأية مقاربات لا تبدأ من الهيكل التنظيمي، مآلها الفشل الذريع. إن السؤال الحقيقي ليس في إمكانية حظر الجماعة الإرهابية، بل هو هل الجماعة كيان قابل للحظر أصلاً؟ وهنا يمكن القول من منظور إستراتيجي، باستحالة حظر الجماعة الإرهابية أو إدماجها إلا بشكل جزئي؛ لأنها ليست «كيانًا قانونيًا» واضح المعالم بعينه، بل متعددًا تنظيميًا، وشبكة متنوعة المستويات: مستوى الأفراد غير القياديين (قابلون للدمج)، ومستوى الفكرة «محميون في الغرب بالدساتير والحريات»، ومستوى التنظيم «غير قانوني وغير رسمي، وغير مصرح به، وبالتالي يصعب حصره ومعرفته وبالتالي يستحيل حظره»، ومستوى الواجهات المضللة (جمعيات، جامعات، لوبيات)، ومستوى التمويل (خارجي، ومعقّد، ومتعدد المسارات)، إذن فالحظر ينجح فقط في «مستويات التنظيم المكشوفة»، أما على مستويات الواجهات المضللة، والفكرية والتمويلية فهي تتجاوز قدرة القانون الأمريكي التقليدية على الحظر، بالصيغة التي بني عليها قرار ترمب، ناهيك أن القرار نفسه محدد ومحصور في زمان للدراسة، ومنصب على تنظيمات قليلة محظورة أساسًا «اثنان من ثلاثة»، في مجالها الفاعل (دولها القطرية)، ولا تمتد أي من نشاطاتها إلى الأراضي الأمريكية بأي حال من الأحوال، ومن هذه الزاوية يمكن أن نقول إنه قرار بلا معنى، إلا في حالة أن يكون نقطة بداية تعمل عليها الدبلوماسية العربية بجدية، بحكم أن الدول العربية هي المتضرر الأكبر من ممارسات هذه الجماعة الإرهابية، وهذه الخطوة المتحتمة (تحرك الدبلوماسية العربية) ليست ترفًا، فخطورة نقض القرار في حالة تغير الرئيس الأمريكي، سيعطي شرعية أعمق للجماعة الإرهابية داخل المجتمع الأمريكي، وربما في أوروبا كذلك، مما سينعكس على الشعوب العربي بالتالي. الجماعة الإرهابية تمثل منافسًا للدولة الوطنية، وكيانًا شموليًا لا يقبل المشاركة الوطنية، والتجارب العربية أثبتت أن دمج الجماعة يؤدي إلى اختراق الدولة، والحظر القانوني وحده يؤدي إلى إعادة إنتاجها سريًا، بينما تفكيك شبكاتها وتجفيف موارد تمويلها، مع تعزيز الدولة الوطنية، عبر مشروع أمن وطني متكامل هو المسار الأكثر نجاحًا.