عندما زار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الرياض في مايو 2025، أعلن رفع العقوبات عن سوريا استجابة لمساعي ولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز. ولم تمضِ على ذلك أشهر قليلة حتى صرّح الرئيس ترمب بأن الولاياتالمتحدة ستتدخل لإنهاء الحرب في السودان بعدما بادر الأمير محمد بن سلمان بطلب ذلك أثناء زيارته البيت الأبيض الأسبوع الماضي. ولولا أن ترمب يصرّح بما يجري خلف الأبواب المغلقة، ربما لم نعرف عن مبادرتي الأمير محمد بن سلمان تجاه سوريا والسودان، وهذه إحدى سمات السياسة السعودية التي تنجز وساطات تاريخية وأعمالًا عظيمة بهدوء خلف الكواليس، وقد لا نعلم عنها إلا بعد زمن أو لا نعلم عنها أبدًا. قد يتبادر إلى الأذهان سؤال، عن السبب الذي يدفع السعودية القوية إلى مساعدة سوريا والسودان اللتين تعانيان من حروب طويلة وانهيار اقتصادي وفقر ونقص خدمات أساسية، مع أن ما يجري في الدولتين لا يؤثر بشكل مباشر على المملكة، فلا حدود برية تربطها بهما ولا شراكة اقتصادية مؤثرة؟ للإجابة عن هذا السؤال نحتاج جولة تاريخية، لنجد أن السعودية دأبت منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رحمه الله، على مساعدة الدول القريبة والبعيدة سياسيًا واقتصاديًا وإنسانيًا من دون شروط، وسعت عبر عشرات المبادرات للوساطة بين الدول المتنازعة، حتى أصبحت المملكة أيقونةً للسلام والعمل الإنساني والخيري، إذ استفادت 173 دولة من المساعدات التي قدمتها المملكة على مدى عقود بقيمة تزيد عن 142 مليار دولار وفقًا لمنصة المساعدات السعودية. هذا الإرث التاريخي من الدبلوماسية الناعمة يعبر عن العقلية السعودية التي يجسدها اليوم الأمير محمد بن سلمان، والمتمثلة في السعي الحثيث إلى عالم أكثر إنسانية وحوارًا وأمنًا واستقرارًا وتنمية بما يتيح للجميع التقدم والازدهار، بدلًا من الفرقة والتناحر وزرع الأحقاد والعداوات التي دأبت عليها بعض الدول والكيانات. قدرة المملكة على لفت نظر المجتمع الدولي وتحويل الأجندة الدولية لصالح قضايا شعوب المنطقة -كما بدا واضحًا في حالتي سوريا والسودان- يعطي انطباعًا قويًا عن القيمة الدولية للدبلوماسية السعودية والمكانة التي تسنّمتها نتيجة سياستها الإيجابية الثابتة وعقودٍ من العمل الدؤوب المخلص لتحقيق السلام العالمي وتهيئة الأرضية الضرورية للاستقرار والتنمية. وفي هذا الإطار، تعد القضية الفلسطينية من أقدم القضايا التي عملت الدبلوماسية السعودية على إيجاد حلول سلمية لها توّجتها بإطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002 التي تبنتها جامعة الدول العربية وأيدتها منظمة التعاون الإسلامي ورحب بها الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة وبقية المجتمع الدولي، لكن مواصلة الاحتلال الإسرائيلي سياسته العدوانية ومحاولاته المستمرة تهجير الشعب الفلسطيني وطمس هويته أجهض كل المحاولات السلمية حتى الآن. ومن نافلة القول إن المملكة من أكبر داعمي وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). كما نجحت المملكة في جمع الفرقاء اللبنانيين الذين وقّعوا اتفاق الطائف عام 1989 لتكون تلك الوساطة الأشهر والأنجح في تاريخ المنطقة بعد 15 عامًا من الحرب الأهلية الطاحنة في لبنان. وتبرز أيضًا جهود السعودية الناجحة في التوسط بين إريتريا وإثيوبيا اللتان وقعتا اتفاقية سلام تاريخية في جدة عام 2018 أنهت الصراع الذي امتدّ عشرين عامًا بينهما، إضافة إلى الوساطة الإنسانية في الحرب الروسية الأوكرانية، وبين باكستان والهند وبين باكستان وأفغانستان وغيرها الكثير. ودعمًا للسلام والاستقرار، تبنّت المملكة توحيد جهود الدول الإسلامية في مواجهة الإرهاب والتطرف في العالم، وأعلن الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز إطلاق التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب عام 2015، كما عملت المملكة مع شركائها على إطلاق التحالف الدولي للقضاء على داعش عام 2014، ويضم التحالف اليوم 90 دولة بعد انضمام سوريا إليه مؤخرًا. هكذا، تمضي المملكة في طريقها الذي خطّته منذ نحو 100 عام بعيدًا عن المهاترات وعُقد الماضي التي لا تزال كثير من الدول والطوائف تعيش فيها وتقتات عليها، لأن المملكة جمعت مزايا عدة، فهي تقف على أرضية صلبة وطنية وقيمية لا تتزعزع ولا تتزحزح، وتملك مشروعًا واضحًا؛ داخليًا أساسه إعلاء شأن المواطنة والعدل والتنمية المتوازنة والمستدامة، وخارجيًا أساسه احترام سيادة الدول وتعزيز استقرارها والتعاون والشراكة لما يحقق الخير للجميع. ولا شك أن هذه الطريقة في نهج المملكة عالميًا لا تعجب دولًا تعيش على نشر الخراب، ولذلك تواجه السعودية حملات شرسة من صانعي الحروب وداعمي العنصرية القومية والمذهبية والطامحين الجدد لدور في المنطقة بلغت ذروتها مع إطلاق رؤية 2030 عندما استشعرت تلك الكيانات قوة المملكة وعزمها على المضي قدمًا في مشروعها التنموي، فحاولت بكل السبل عرقلة ذلك ولا تزال، حتى وإن خفّت حدة تلك الحملات خلال الأشهر الأخيرة نظرًا لانتكاس «محور الشر» وتوابعه بعد الضربة الأمريكية الإسرائيلية لإيران وتابعها حزب الله الإرهابي في لبنان، والتحرير المفاجئ لسوريا من نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين والميليشيات الطائفية المرتبطة بهم. كم تحتاج هذه المنطقة وغيرها إلى قائد مثل الأمير محمد بن سلمان، وكم تحتاج إلى بلاد مثل المملكة العربية السعودية لإنجاز رؤية جديدة للمنطقة والعلاقات الدولية تعلي شأن الإنسانية وتنتهج الحوار ولغة العقل والشراكة التنموية، وتخفض من شأن التصادم والحروب والتخريب والتآمر ولغة الاستعلاء والهيمنة. ومن حسن الحظ، أننا نرى السعودية تنقل خلاصة تجربتها الرائدة في رؤية 2030 إلى سوريا التي صرح وزير اقتصادها الدكتور محمد الشعار، خلال المنتدى الاستثماري السوري السعودي الذي أقيم في دمشق يوليو الماضي، أن بلاده ستعتمد على النموذج السعودي في التنمية والاستثمار الذي حقق نجاحات هائلة ولن تجرب نماذج أخرى. ولعلنا نرى بزوغ شكل جديد من العلاقات بين دول المنطقة يقوم على الشراكة الإستراتيجية التي تقرّب تشريعاتها وأساليب عملها من بعضها، وتبشر بولادة تحالف عربي دائم ينهض بالدول الراغبة بالاستفادة من التجربة السعودية الأكثر إلهامًا وقيمة وتوازنًا.