الزمن ليس مجرد أرقامٍ على تقويم، بل نسيج متداخل يلتقي فيه العلم والفلسفة والدين. فبينما يحسب العمر الزمني بعدد السنوات منذ الولادة حتى اللحظة الراهنة، يظل ثابتًا وغير قابل للتغيير، يختلف الأمر مع العمر البيولوجي الذي يعكس حالة الجسم وخلاياه مقارنة بالعمر الزمني، فقد يكون إنسان في الستين من عمره الزمني في حالة بيولوجية تعادل الخمسين قبل عقود، بفضل تقدم الطب ونمط الحياة وأمور غيبية أخرى لا ندركها، بينما قد يعيش آخر في الأربعين بجسدٍ أرهقته الضغوط والأمراض ليحمل عمرًا بيولوجيًا أكبر بكثير. ومؤشرات هذا العمر البيولوجي متعددة من أبرزها: كفاءة الميتوكوندريا باعتبارها «بطاريات الحياة»، وقياسات ساعات الشيخوخة اللاجينية، ومستوى الصحة العامة والنشاط الخلوي. لقد أعادت نظرية النسبية لأينشتاين تعريف الزمن، فلم يعد خطًا مستقيمًا مطلقًا بل نسيجًا متداخلًا مع المكان (الزمكان) الماضي والحاضر والمستقبل موجودون معًا، لكن وعينا لا يدرك سوى لحظة مضاءة واحدة، بعض فلاسفة ميكانيكا الكم ذهبوا أبعد من ذلك، معتبرين أن الزمن خاصية ناشئة من تفاعل الجسيمات، وكأن العقل البشري يبتكر الزمن لترتيب التجربة الإنسانية لذلك تمر لحظة انتظار ثقيلة كأنها دهور بينما تمضي لحظة حب أو خشوع كرمشة عين لكنها تظل خالدة في الذاكرة. ولقد تحدثت النصوص الشرعية عن محق البركة وتقريب الزمان فقيمة الزمن هنا ليست في امتداده، بل في امتلائه بالعمل والمعنى، ولنأتي الآن للحديث عن الميتو كندريا كأحد أهم مؤشرات العمر البيولوجي فهي تعد القلب النابض للطاقة الخلوية، حيث تُحوّل الغذاء والأكسجين إلى جزيئات طاقة. ومع التقدم في العمر تضعف، وتنتج جذورًا حرّة (Free Radicals) تسبب الإجهاد التأكسدي، مما يؤدي إلى تلف الخلايا، وظهور التجاعيد، وضعف العضلات، وهشاشة المناعة، بل وأمراض الشيخوخة المزمنة مثل باركنسون والزهايمر والسكري. وإصلاح وإنعاش الميتوكوندريا اليوم يتم عبر: زيادة النشاط البدني وممارسة الرياضة. والصيام المتقطع. واستخدام مكملات طبيعية أثبتت جدواها وهي متوفرة بالأسواق مثل: NGlyNAC و.CoQ10 وNMN وهناك عقارات واعدة ما زالت في طور التجارب. وهناك مؤشر آخر وهو أيضًا من أهم أدوات قياس العمر البيولوجي وهي الساعات اللاجينية (Epigenetic Clocks)، التي تعتمد على أنماط مثيلة الDNA. فعندما ترتبط مجموعات الميثيل بجينات معينة تتحكم في نشاطها، قد تمنعها من العمل أو تعزز نشاطها، ومع التقدم في العمر تنخفض مستويات المثيلة، مما يسمح بتنشيط جينات غير مرغوبة، وقد رُبط هذا الانخفاض بأمراض مثل الزهايمر، أمراض القلب، والسرطان. ومع ذلك، ليس كل تغيير في المثيلة سلبيًا، فبعضها يمثل استجابة طبيعية أو آلية دفاعية، وقد بدأ بالفعل سباق بين أثرياء العالم في هذا المجال عبر دعم الأبحاث في هذا المجال حيث يستثمر رجال أعمال مثل لاري بيدج ومارك زوكربيرج وجيف بيزوس مليارات الدولارات في شركات التكنولوجيا الحيوية التي تسعى لتجديد الخلايا وإطالة العمر. ومن أبرز هذه الشركات:Life Biosciences وUnity Biotechnology حيث تعمل هذه الشركات على تطوير عقاقير تعرف ب Senolytics، التي تستهدف الخلايا الشائخة «السيئة» وتدمرها، أو حتى تمنع تحول الخلايا إلى شيخوخة منذ البداية. ولنأتي الآن على ما أخبرنا به النبي عليه السلام حيث قال: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة) فهذا الحديث الشريف يعكس بُعدًا عميقًا في فهم الزمن، حيث يجتمع فيه البعد الغيبي مع البعد النفسي والعلمي. فالمقصود بتقارب الزمان ليس مجرد تسارع الأحداث، بل فقدان بركة الوقت حتى يشعر الإنسان أن السنوات تمضي كالأيام. وهو ما يلتقي مع ما كشفه العلم والنفس البشري: فمن ناحية الروح، فبركة الزمن أهم من امتداده ويوم واحد بالمعنى قد يعدل دهورًا، ومن ناحية العقل والإدراك: فالزمن الداخلي يتمدد أو يتقلص وفق تجربة الإنسان، وهو ما ذكرناه عن الزمن النفسي. ومن جهة العلم والواقع: فالتقنية الحديثة جعلت السفر، الاتصال، وإنجاز الأعمال يتم بسرعة هائلة، فصار الزمان فعلاً أقصر في إدراك الناس. وفي منظور العلم الحديث أتاحت لنا هذه الرؤية النبوية الشريفة مقاربة جديدة لهذا المفهوم عبر مفهوم العمر البيولوجي. فكما أن إدراك الإنسان للزمن قد يقصر بحيث تبدو السنة كشهر، فكذلك العمر البيولوجي قد ينضغط ويشيخ الجسد أسرع من عمره الزمني بسبب الأمراض المزمنة، التدخين، والإجهاد التأكسدي. وفي المقابل، يمكن إبطاء العمر البيولوجي عبر إصحاح الميتوكوندريا وتعديل الساعة اللاجينية، ليعيش الإنسان سنته بكامل طاقتها وربما أكثر. وهكذا يصبح العمر البيولوجي أصغر من العمر الزمني بفضل الطب الحديث، مما أوجد مفارقة بين بطء الشيخوخة الجسدية وتسارع إدراك الزمن، وهنا يلتقي الحديث النبوي مع ما توصل إليه العلم المعاصر في عدة مستويات: فهو يبين أن تقارب الزمان علامة من علامات الساعة، وهو ما نشهده اليوم من فقدان البركة وتسارع الإيقاع. كما أن إدراك الإنسان للزمن صار أقصر بفعل التقنية، في حين أن الطب جعل العمر البيولوجي أطول وأكثر شبابًا. وبهذا يندمج البعد الغيبي مع البعد النفسي والعلمي، ليؤكد أن الزمن ليس مجرد ما يمرّ بنا، بل ما يمرّ فينا. فالفيزياء أثبتت نسبيته والدين بيّن بركته وما نملؤه بالمعنى وما نتركه من أثر والطب الحديث كشف إمكانية إبطاء عقاربه عبر إصحاح الميتوكوندريا وإعادة ضبط ساعات الشيخوخة اللاجينية. وهكذا يصبح العمر الحقيقي مزيجًا من الزمن الزمني، البيولوجي، وأن النهاية الحتمية تظل بيد الله الذي قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت) وعليه يمكن القول إن الحديث يقدم إطارًا رمزيًا لفهم أعمق: الزمن قد يتقارب في وعينا وروحنا، كما قد ينضغط في خلايانا وأجسادنا. وهذه ليست تفسيرًا مباشرًا للحديث، بل إسقاط معاصر يُظهر تلاقي الرؤية النبوية مع ما يكشفه العلم من أن العمر ليس مجرد سنوات على التقويم، بل جودة وحيوية بيولوجية وروحية.