في الأمسية العائلية السنوية احتفالًا باليوم الوطني السعودي المجيد الأسبوع الماضي، كانت أختي تجلس على الأريكة تضع يدها على بطنها في شهرها الخامس، وملامح الألم بادية على وجهها. كانت تعاني من صداع شديد وارتفاع في الحرارة. يبدو أنها أصيبت بعدوى فيروسية تنفسية. ناولتها كوب ماء وحبتي باراسيتامول، لكنها توقفت فجأة وقالت بصوت مرتبك: سمعت أن الباراسيتامول يمكن أن يسبب التوحد للطفل... لا أستطيع أن أخاطر. شعرت حينها بقلق مضاعف ليس فقط على صحتها، بل على كل امرأة قد تمتنع عن علاج ألم أو حمى خوفًا من عناوين الأخبار التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي بعد إعلان الإدارة الأمريكية الأخير. هذا الإعلان الذي أصدرته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية جاء ليشير إلى أن بعض الدراسات وجدت ارتباطًا محتملًا بين الاستخدام المكثف والمتكرر للباراسيتامول أثناء الحمل وزيادة طفيفة في تشخيصات التوحد واضطرابات فرط الحركة لدى الأطفال. وهنا تكمن النقطة المهمة: ما أُعلن عنه ليس إثباتًا لسببية مباشرة، بل هو ملاحظة إحصائية تحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي لإثبات السببية فوجود علاقة ارتباط لا يعني بالضرورة أن تكون العلاقة سببية. الارتباط المحتمل يعني أن هناك علاقة لوحظت بين شيئين في مجموعة من البيانات، لكن لا يمكن الجزم أن أحدهما سبب الآخر. قد تكون الحمى نفسها، وهي السبب الرئيس لتناول الدواء، هي التي تحمل الخطر الحقيقي إذا لم تعالج وليس الدواء بحد ذاته. الأكيد أن العلم لا يصدر أحكامًا نهائية من دراسة أو اثنتين، بل يبني توصياته على تراكم الأدلة من دراسات مختلفة: رصدية، وتجريبية، ومراجعات منهجية. وعندما تتكرر النتائج وتتوافق بين أكثر من دراسة وبمناهج بحثية متنوعة، يصبح الدليل أقوى، وتبدأ الهيئات العلمية بإصدار توصيات أو تحديث ملصقات التحذير على الأدوية. في حالة الباراسيتامول ترى منظمة الصحة العالمية وكثير من الجمعيات الطبية أن الأدلة الحالية غير كافية للجزم بوجود خطر سببي، لكنها تدعو إلى الاستخدام الحكيم بحيث يقتصر الاستخدام بأقل جرعة ممكنة لأقصر فترة ممكنة، وبالتأكيد بعد استشارة الطبيب المختص. لكن القضية لا تتوقف عند حدود مراكز الأبحاث ومختبراتها. فشركات الأدوية الكبرى تتابع هذه التطورات عن كثب، بل وربما تشارك في توجيه ودعم الأبحاث، لأنها تمس مبيعات أدوية تستخدم على نطاق واسع في كل بيت تقريبًا. القرارات السياسية، خصوصًا في دول مثل الولاياتالمتحدة، غالبًا ما تتأثر بجماعات ضغط وشركات عملاقة لها مصالح اقتصادية هائلة. كما يلعب الإعلام دورًا مضاعفًا، فبينما ينقل أخبار التحذيرات العلمية بدافع توعية الجمهور، قد يتحول أحيانًا إلى مصدر للهلع عبر العناوين المثيرة والمبالغة في الخطر. إضافة لوسائل التواصل الاجتماعي، ولأجل البحث عن التفاعل والترند يزداد التهويل، بل وربما الفبركة. هذا التداخل بين العلم والسياسة والاقتصاد والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يضع المواطن أمام سيل من المعلومات المتناقضة أحيانًا، ويزيد من صعوبة اتخاذ القرار الصحي الصائب. الخطر الحقيقي ليس في الدواء بقدر ما هو في الهلع الذي قد يدفع بعض الحوامل إلى تجاهل علاج الحمى أو الألم الشديد، ما قد يضر الأم والجنين معًا. الحمى المرتفعة خلال الحمل قد تؤدي إلى مضاعفات أكثر خطورة بكثير من حبة باراسيتامول. ولهذا فإن الرسالة التي ينبغي أن تصل للمجتمع هي رسالة وعي لا خوف: استشيري طبيبك قبل تناول أي دواء، ولا تجعلي الأخبار المقلقة وحدها تتحكم في قراراتك الصحية. تفاعل مشاعر القلق الإنساني مع القرارات والتحذيرات الصحية يذكرنا أن العلم ليس عدوًا للمشاعر، بل دليل لها. توصيات الأطباء تبنى على مراجعة آلاف الدراسات والبيانات قبل أن تترجم إلى نصيحة لمريض واحد في عيادة أو توصية طبية توجه للعامة. الباراسيتامول ما زال من أكثر الأدوية أمانًا في الحمل عند استخدامه باعتدال، والتحذير الأخير ليس دعوة للامتناع عنه كليًا، بل للتأكد من أن استخدامه مبرر ومراقب. القلق مشروع، لكن القرار السليم هو الذي يجمع بين العاطفة والمعرفة، بين حب الأم لطفلها وثقتها بالعلم الذي يحرص على سلامتهما معا. العلم لا يصدر أحكامًا نهائية من دراسة أو اثنتين، بل يبني توصياته على تراكم الأدلة من دراسات مختلفة.