أن تكون سعوديًا ليس مجرد انتماء فحسب، بل أعمق وأعظم: أن تولد فوق هذه الأرض التي لم تكن يومًا على هامش التاريخ، بل كانت قلبه النابض. حيث تتقاطع دروب الحضارات وتلتقي مسارات الأمم. هنا حيث شهدت الرمال ميلاد ممالك عظيمة، وأصغت الجبال إلى آخر تنهيدة لإمبراطورياتٍ طواها الزمن. من قوافل الجمال المحملة بالبخور واللبان والمر في مملكة دادان ولحيان، التي شقت طريقها من جنوب شبه الجزيرة إلى شواطئ المتوسط، إلى الصخور المنقوشة بلغات الأنباط والثموديين الذين رسموا بخطوات قوافلهم خريطة العالم القديم. ولم تكن رحلة الإيلاف إلا فصلًا من فصول تلك المخطوطة العظيمة، فهي ليست مجرد نشاط اقتصادي بحت، بل كانت جسرًا ثقافيًا حَمَلت مع البضائع لغاتٍ جديدة، وعقائد متنوعة، وفنونًا راقية، مُظهرةً عبقرية الإنسان في تحويل الصحاري إلى شرايين نابضة بالحياة. ومع ازدهار هذا الحراك التجاري والثقافي، لم يكن غريبًا أن تتشكل في قلب الجزيرة فضاءات للالتقاء والتعايش، كان أبرزها سوق عكاظ.؛ ففيه تتبارز القصائد كما تتبارز السيوف، وفي الأشهر الحرم، حيث يسود السلام، كانت النفوس تتذوق طعم الطمأنينة، وتجد القبائل فرصة لتجديد عهودها، وكأن الزمن نفسه يتوضأ استعدادًا لفجرٍ جديد. هذه التجارب كلها لم تكن سوى تمهيد لحدث أعظم، إذ على أرض الجزيرة أشرقت شمس الإسلام من بطحاء مكة، لا كبداية منفصلة، بل اكتمال لمسار طويل. فأصبحت الكعبة، التي كانت قبلةً للتجار، قبلةً للقلوب وتلألأت أنوارها معلنة أن الوحدة ممكنة حتى في قلب التشرذم. حينها، لم يحمل أجدادنا سيوفًا لتغيير الخرائط فقط، بل حملوا علومًا لبناء المدن فشيدوا حضارات، وأرسوا دعائم العلم، وتركوا وراءهم صروحًا شاهقة تتحدى الزمن. من هنا يتجلى معنى أن تكون سعوديًا: أن ترث هذه السلسلة الذهبية، أن تحمل في داخلك إرثًا خالدًا، وحلمًا لا تحدّه السماء. فالسعودية لم تكن يومًا بقعة جغرافية، بل قصة ملحمية سُطّرت عبر العصور. هنا حيث يجتمع المجد مع الحداثة ويُرفع الأذان من مكة كما كان قبل ألف عام، بينما تتوهج مراكز الابتكار والتقنية في قلب العاصمة الرياض بأحدث الإنجازات التكنولوجية. هنا، لا تنتهي الحكاية أبدًا... بل تتجدد لأن جذورًا بهذا العمق، لا تعيق الانطلاق، بل تمنحه اتّجاهًا، فكل خطوة إلى الأمام هي استعادة لمجد، وكلّ قفزة إلى المستقبل هي وضع حجر أساس لمجد جديد.