اليوم الوطني ليس مناسبة يمر بها الزمن كعابر سبيل، بل هو سؤال يقتحم وجدان الإنسان السعودي: من نكون حين نقف أمام ذواتنا في مرآة التاريخ؟ إنه ليس احتفالًا بالعلم المرفوع أو بالألوان التي تملأ الشوارع، بل مواجهة مع حقيقة أعمق، حقيقة أننا وُجدنا لنصنع وطنًا لم يكن، وأننا نعيش اليوم مسؤولية أن نُبقيه حيًا في عالم يتغير بسرعة كاسحة. الوطن، في جوهره، ليس الأرض التي نطأها فحسب، بل المعنى الذي نعلقه على كل حبة رمل، وكل نخلة، وكل صخرة شهدت صراعًا بين الوحدة والتشرذم، بين الأمل واليأس. الوطن هو أن نؤمن أن الدم الذي سُفك يوم التأسيس عام 1727 للميلاد لم يكن مجرد دم رجال حملوا السيوف، بل كان دمًا تحوّل إلى ذاكرة فينا، ذاكرة تُلزمنا بأن نحفظ ما بُني، ونضيف إليه ما يجعل أبناءنا يستحقون أن يكونوا سعوديين في القرن الحادي والعشرين. اليوم الوطني إذن هو لحظة فلسفية بامتياز، لأنه يعيدنا إلى سؤال المعنى: ماذا يعني أن نكون سعوديين اليوم؟ هل الوطنية عاطفة نحتفل بها أم مسؤولية نواجهها كل صباح ونحن نذهب إلى أعمالنا ونبني مدارسنا ونحرس حدودنا؟ الفلسفة هنا ليست تنظيرًا مجردًا، بل اختبار حقيقي للإرادة، تمامًا كما كان اختبار المؤسس الملك عبدالعزيز وهو يجمع الشتات، ليواصل مشروع الدولة الذي انطلق منذ 1727 ميلاديا. إن ما فعله كان أكثر من توحيد جغرافيا، كان إعادة صياغة للزمن نفسه: تحويل الماضي الممزق إلى مستقبل متماسك. واليوم، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يتجدد هذا السؤال الفلسفي في صورة أخرى: كيف نصوغ الغد دون أن نُفلت من يدنا جذور الأمس؟ كيف نجمع بين الجرأة على كسر المألوف والإصرار على صون الهوية؟ إنها معضلة تشبه ما وصفه دوستويفسكي عن صراع الإنسان بين الإيمان والحرية، بين الحاجة إلى الثبات والرغبة في الانطلاق. لكن الفارق أن الوطن هنا ليس فكرة مجردة، بل كيان حيّ، يُطالبنا أن نحيا لأجله، وأن نموت من أجله إذا استدعى القدر. الوطن لا يعيش بالشعارات، بل بالأسئلة الكبرى: هل نملك الشجاعة لننظر إلى عيوبنا بصدق ونُصلحها؟ هل نستطيع أن نكون أوفياء للذاكرة وفي الوقت نفسه بناة للمستقبل؟ وهل يمكن أن نرى في اليوم الوطني أكثر من استعراض عاطفي، لنحوّله إلى لحظة وعي تُذكّرنا أن الوطنية ليست ميراثًا جامدًا بل فعلًا مستمرًا؟ إننا حين نحتفل باليوم الوطني، فنحن في الحقيقة نحتفل بقدرتنا على مواجهة هذا السؤال دون خوف. نحن نقف معًا، لا لأننا متشابهون في تفاصيلنا الصغيرة، بل لأننا متحدون في الحلم الكبير. وهنا تكمن عظمة اليوم الوطني: أنه يضع كل فرد أمام امتحان وجودي إما أن يكون مجرد تابع لزمن يمر، أو أن يكون شريكًا في كتابة تاريخ جديد. الوطن ليس في الماضي وحده، ولا في المستقبل وحده، بل في ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بينهما. واليوم الوطني هو اللحظة التي نمدّ فيها أيدينا لنمسك بهذا الخيط، فلا ينقطع بين ما كنا وما نريد أن نكون. وفي هذا الفعل، في هذه المواجهة، يكمن معنى الانتماء الحقيقي: أن تكون سعوديًا يعني أن تكون حاملًا لرسالة أعمق من نفسك، رسالة أمة تقف أمام العالم لتقول: نحن هنا، لا نذوب ولا ننكسر، بل نواصل ابتكار مستقبلنا جيلا بعد جيل.