ماذا تعني سيكولوجيا الشر؟ هل يولد الشر معنا؟ هل يمكن استئصال الشر من النفس البشرية؟ تخيّل نفسك جالساً في مجلس قديم، حيث يتجادل الفلاسفة وعلماء النفس حول سؤال يبدو أزلياً: هل يمكن أن يُستأصل الشر من النفس البشرية، أم إنه قدر يسكن أعماقنا منذ الولادة؟ يرفع جان جاك روسو صوته من بين الجمع قائلاً: «الإنسان يولد طاهراً، نقياً كنسمة الصباح، لكن المجتمع هو الذي يلوّثه أو يحفظه»، وهنا يلتقط خيط الحديث سيغموند فرويد مشيراً إلى أن العدوان جزء دفين في البنية النفسية، طاقة مكبوتة تبحث عن متنفس، قد تُوجَّه للبناء، لكنها قد تنفجر فتتحول إلى عنف وشر، ومن بين الحضور يبتسم فيكتور فرانكل الذي خبر معسكرات النازية ليقول: «إن الإنسان مهما غرق في الشر يبقى قادراً على اختيار الخير، فالحرية الداخلية هي السلاح الأخير أمام القسوة»، أمّا فيليب زيمباردو فيحكي عن سجنه الوهمي في جامعة ستانفورد، حيث تحوّل طلاب عاديون إلى جلادين بمجرد أن منحوا سلطة مطلقة. في ضوء هذه الأمثلة يظهر أن سيكولوجيا الشر ليست لغزاً شيطانياً، بل شبكة معقدة من العوامل الفردية والبيئية والثقافية، قد تبدأ من طفولة مثقلة بالعنف والإهمال، أو من مجتمع يزرع في أبنائه مشاعر الحقد والتمييز، أو من ثقافة تبرر القسوة باسم الدين أو العُرف، وللأسف بعض المجتمعات تغذي «حب التدمير» في نفوس أفرادها حين يُحرمون من الحب والأمان، فيتجهون إلى القوة والعدوان كتعويض عن الحرمان. كما أن سيكولوجيا الشر ليست شذوذاً عابراً ولا ظاهرة طارئة، بل شبكة متشابكة من نوازع فردية وتجارب طفولية وبيئات اجتماعية وثقافات تغذي بذور العدوان أو تكبحها، كأن الشر طيف يتشكل وفق المناخ الذي تحتضنه الروح؛ فإذا وُلد الطفل في أحضان القسوة والتهميش، نما داخله الغضب كحجر ساخن، أما إذا غُمر بالحب والاحتواء، استحال ذلك الحجر زهرة رحمة، وهنا يتجلى ما رآه علماء النفس من أن السلوك الإنساني لا يولد من فراغ، بل من تراكمات تعيد صياغة الفرد وتحدد اتجاهه نحو الخير أو الشر. وفي التحليل السيكولوجي لمصادر الخير والشر نكتشف أن الشر ليس كائناً غريباً يقتحم النفس من الخارج، بل هو جزء من قابليتنا البشرية التي تتأرجح بين النور والظلمة، وقد رأى فرويد أن العدوان نزعة أصيلة في دواخلنا تبحث عن منفذ، بينما أكد روسو أن المجتمع هو المسرح الذي يعيد تشكيل براءة المولود ليصبغها بلون الصلاح أو الفساد، وبين هذين التصورين يمتد الطيف الواسع الذي يفسر لنا كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى جلاد أو إلى مصلح، وكيف أن السياق قد يجعل الطيبة قوة أو ضعفاً، والشر اندفاعاً أعمى أو اختياراً واعياً، إنه مزيج من الوعي بالذات والرغبة في التفرد، ومن صراع الرغبات المكبوتة مع ضغوط المجتمع. لكن السؤال الذي يظل مطروحاً: كيف نحد من هذا الشر؟ هنا تتقاطع الرؤى، فالتربية المبكرة على التسامح والرحمة كما أوصى علماء النفس الإنسانيون مثل كارل روجرز، تُنشئ جيلاً أكثر قدرة على المحبة والتعاطف والدعم النفسي والعلاجي، كما شدد عليه معاصرون كأرون بيك، كما يجب أن يمنح الأفراد أدوات لمواجهة ميولهم العدوانية بدلاً من الاستسلام لها، أما المجتمعات فإنها بحاجة إلى قوانين عادلة وحملات وعي وبيئات أسرية ومدرسية صحية تقلل من إنتاج الشر وإعادة تدويره عبر الأجيال، وكلما تسللت إلى القلوب قيم الرحمة والتسامح ضاق الخناق على نوازع الشر، وكلما وجد الفرد في بيته ومدرسته ومجتمعه حضناً دافئاً آمناً ضعفت الحاجة إلى اللجوء للعنف كوسيلة إثبات للذات. وفي النهاية يبدو الشر كالنار: لا يمكن إلغاؤه من الطبيعة الإنسانية، لكنه يقبل التوجيه والسيطرة، ومن هنا ينهض دور التعليم في غرس مهارات الحوار بدل الصراع، ودور الدعم النفسي في تحرير الفرد من أثقال الغضب، ودور القانون في كبح جماح العدوان، كما أن الروح حين تتزكى بالإيمان والعمل الصالح، تكتشف أن القوة الحقيقية ليست في البطش، بل في القدرة على كبح الأذى، وهكذا يظل الخير والشر نهرين جاريين في مجرى الإنسان، وأي النهرين يفيض ويتسع يتوقف على السقيا التي نختارها لأرواحنا.