في عيادتي النفسية، كثيرًا ما ألاحظ أن شكاوى الأزواج المتكررة تخفي جرحًا أعمق - جرحًا طفوليًا لم يندمل. العلاقة بين الأم والابن ليست مجرد رابطة عائلية، بل هي البنية التحتية العاطفية التي تُشكّل مستقبل الرجل في علاقته الزوجية. عندما تكون هذه العلاقة صحية ومتوازنة، ينشأ الابن وهو قادر على بناء روابط سليمة في المستقبل. أما عندما تكون مضطربة - سواء بإهمال عاطفي أو نقد متكرر أو حماية زائدة أو غياب عاطفي - فإنها تترك ما نسميه في علم النفس «جرح التعلق الأمومي»، وهو أذى نفسي عميق يؤثر على قدرة الرجل على الحب والثقة في زواجه. تشير دراسات منظمة الصحة العالمية إلى أن 40% من اضطرابات التكيف الزوجي لها جذور في علاقات الطفولة. هذا الجرح النفسي الذي ينتج عن علاقة غير مُرضية بين الابن وأمه، يجعل الابن يشعر بأنه غير محبوب بما يكفي، أو غير جدير بالاهتمام، أو أنه مضطر لكسب الحب عبر تلبية توقعات غير منطقية. هذا الجرح لا يختفي مع مرور السنوات، بل يتحول إلى نمط عاطفي يظهر بقوة في العلاقة الزوجية. يرتبط هذا الجرح بشكل كبير بأنماط التعلق المبكر، حيث يميل الأبناء الذين عانوا من اضطراب في العلاقة مع الأم إلى تطوير نمط تعلق قلق (خوف من الهجر، حاجة مفرطة للتطمين) أو نمط التعلق المتجنب (الذي يفرّ من القرب العاطفي كآلية دفاعية). في العيادة، نلاحظ أن الزوجات غالبًا ما يصفنَ أزواجهنَ ب«الحساس المفرط» الذي يتفاعل مع أخطاء بسيطة بردة فعل مبالغ فيها، أو «العطشان عاطفيًا» الذي لا يرويه إطراء عادي، أو «البارد» الذي يرفض مناقشة المشاعر. هذه كلها إشارات لجرح أمومي لم يُعالج. لكن كيف نميز بين المشكلات الزوجية العادية وتلك الناتجة عن جرح أمومي؟ هناك علامات واضحة: عندما تكون ردود الأفعال غير متناسبة مع الموقف (مثل غضب شديد بسبب تأخير بسيط)، أو عندما يظهر الرجل «جوعًا عاطفيًا» غير منطقي (توقع اهتمام كامل بكل تفاصيل حياته كما كانت الأم المفترض أن تفعل)، أو عندما يرفض النقاش العاطفي تمامًا (كنوع من الحماية الذاتية). نجد الرجل الذي يعاني من هذا الجرح حساسًا جدًا لأي ملاحظة من زوجته، وكأنها تذكّره بنقد أمه القاسي. أو نجد آخرًا يسعى دائمًا لإرضاء زوجته بشكل مفرط، خوفًا من أن يفقد اهتمامها به، تمامًا كما شعر مع أمه في طفولته. وهناك من يصبح انطوائيًا عاطفيًا، غير قادر على التعبير عن مشاعره، لأنه تعوّد في صغره على كبت أحزانه كي لا يُلام أو يُهمل. تأثير هذا الجرح لا يقع على الرجل وحده، بل يمتد إلى زوجته، التي قد تشعر بالحيرة والإرهاق العاطفي. فهي لا تفهم سبب انفعال زوجها الشديد عند أي خلاف بسيط، أو لماذا يطلب منها اهتمامًا زائدًا، أو لماذا ينسحب فجأة عند أي حديث عاطفي. في بعض الأحيان، تتحول الزوجة دون أن تدري إلى «بديل للأم»، فيُلقى عليها عبء تعويض النقص العاطفي الذي عاشه زوجها في طفولته، وهذا ما يجعل العلاقة غير متوازنة، حيث تتحمل هي أكثر مما تطيق، بينما يظل هو عالقًا في دائرة البحث عن ذلك الحب الذي حُرِم منه. ومن المهم الإشارة إلى أن الأمهات غالبًا لا يتعمدن إيذاء أبنائهن. فالكثير من أنماط التربية المؤذية نفسيًا تنشأ عن جهل، أو ظروف ضاغطة، أو أنماط تربوية متوارثة عبر الأجيال. هذه الحقيقة لا تُبرر الأذى لكنها تساعد في تبني نظرة أكثر اتزانًا، تركز على الشفاء بدلاً من اللوم فقط. الخبر الجيد هو أن هذا الجرح ليس نهاية المطاف. فبالإرادة والوعي، يمكن للرجل أن يتعافى ويبني علاقة زوجية صحية ومتوازنة. تبدأ أولى خطوات التعافي بالوعي والاعتراف بأن بعض التصرفات وردود الأفعال لا ترتبط بالزوجة بل بجراح الطفولة. يلي ذلك الفصل بين ماضي الأم وحاضر الزوجة، مع إدراك أن الزوجة ليست مسؤولة عن إصلاح ما أفسدته الأم، وأن العلاقة الزوجية ليست ساحة لإعادة تمثيل مشاهد الماضي. ثم يأتي دور العلاج النفسي الذي يساعد على تفكيك الأنماط السلوكية القديمة، وبناء علاقة أكثر وعيًا وتوازنًا، بالإضافة إلى تنمية الذكاء العاطفي، من خلال تعلم مهارات التعبير عن المشاعر، والاستماع، والتعامل مع الخلافات بشكل صحي. التواصل الصادق مع الزوجة وفتح حوار حول ما يشعر به وما يحتاجه، بعيدًا عن اللوم أو التوقعات غير الواقعية، يعد جزءًا أساسيًا من عملية الشفاء. وعلى الجانب الآخر، تحتاج الزوجة إلى فهم أن سلوك الزوج لا يعبر بالضرورة عن تقصير منها، بل عن جراح لم تُشفَ بعد، مع أهمية وضع حدود صحية بين دعمها له وبين تحمل أعباء ليست من دورها كزوجة، وتشجيعه على طلب الدعم النفسي، مع تقديم الدعم العاطفي بوعي دون أن تصبح «أمًا بديلة». جرح الأم لا يجب أن يكون حكمًا على الحياة الزوجية بالفشل أو التعاسة، بل يمكن أن يكون بداية لرحلة شفاء عميقة ومُثمرة. الحب الحقيقي لا يقوم على السعي المستمر لنيل القبول، ولا على الخوف من الهجر، بل يقوم على الثقة المتبادلة، والاحتواء، والقدرة على رؤية الشريك كشخص مستقل، وليس كمُعالج لجراح الماضي. حين يبدأ الرجل في إصلاح جروحه، لا يحسّن علاقته بزوجته فحسب، بل يكسر الحلقة المتوارثة، ويمنح أبناءه بيئة عاطفية أكثر أمانًا وصحة، كي لا تتكرر القصة مرة أخرى.