احتفى الوسط الثقافي والفني بمنطقة عسير الشهر الماضي بتدشين «معرض الواحدة» المعرض الشخصي الأول للفنان التشكيلي «عبدالملك بن صالح آل نعمة» في أستوديو محي بأبها. والمعرض عبارة لوحة تشكيلية واحدة توسطت قاعة العرض، بفكرة ملهمة غير مسبوقة، خرجت عن المألوف، فتزاحمت عليها الأبصار، وتسابقت نحوها أسئلة وحوار، ليتحول المكان إلى منتدى ثقافي عن الفن التشكيلي كقوة ناعمة لها تأثيرها. هذه اللوحة «توهجت بعمق لغتها البصرية، واستيعابها قراءات متعددة، ورغم مساحتها المحدودة، وما حملته من رؤية فنتازية فلسفية سريالية، فقد أودع فيها الفنان آل نعمة بواسطة اللون، والرمز والأسلوب حزمة ملامح من متغيرات زمنية، في مقدمتها فجوة العلاقات الإنسانية وقلة التقارب والتواصل الأسري، وجفاف المشاعر من البعض تجاه الآخرين وصولاً إلى العصر الرقمي. كنت أقرا وأنا أقف مباشرة أمام اللوحة انعكاساتها على وجوه المدعوين، وهم يرمقونها، يتفحصون مهارة رسمها، ورموز دلالاتها، ويستمعون إلى وجهة نظر الفنان، يشاركون من حين إلى آخر بمداخلات مغلفة بالإعجاب والتقدير، ليصل صداها الإعلامي عبر وسائل التواصل إلى شريحة كبيرة خارج القاعة، وهذا يعني أن الجميع كانوا جزءاً من التجربة الفنية، بأفكارها التفاعلية المختلفة والجديدة. وتعود علاقة الفنان آل نعمة بالفن التشكيلي إلى موهبته المبكرة، ومشاركاته المميزة، توجها حصوله على بكالوريوس التربية الفنية قبل عقدين من جامعة الملك سعود، وأصدر كتاباً بعنوان «عندما تعود الذكريات»، سرد فيه مسيرته الفنية حتى عام 2007م إلى جانب صور لثلاث وسبعين لوحة تشكيلية، ومارس خلال رحلته الفنية التي زادت على -200- لوحة أساليب من مدارس فنية مشهورة، إلا أنه كان ولا زال يميل إلى المدرسة السريالية،وساعدته ثقافته العالية واطلاعه المعرفي، وحضوره دورات متخصصة على جودة أعماله، التي تم اقتناء بعضها في داخل المملكة وخارجها. ووصف المهتمون بالفن التشكيلي «لوحة الواحدة» بأنها تجربة مهمة، ذات قيمة فنية عالية، وأتمنى من وزارة الثقافة «هيئة الفنون البصرية»، أن تطلع على أعمال هذا الفنان وخاصة لوحته الأخير، لتقييمها ومعرفة كيف استطاع أن يصنع منها تاثيراً وحدثاً مهماً. قال لي الصديق الشاعر والإعلامي مدير جمعية الثقافة والفنون بأبها الأسبق أحمد بن عبدالله عسيري ونحن نغادر المعرض: إن الفنان لم يُقلد أو يحاكي غيره في «اللوحة المعرض»، بل اختزل المُعطى الحياتي الراهن، وهز السائد الراكد. وأثنى عسيري على رؤية آل نعمة، وقدرته على ترويض المضمون المعرفي، وأخذه المتلقي إلى المتخيل بين ماهية الصورة ومعياريتها، والارتقاء بمداركه إلى الآفاق الرمزية، من خلال التجريب والصياغة داخل لوحة واحدة. وقال: «اللوحة حمّلها الفنان وأثقلها بتجليات الفلسفة والتأويل والرؤى، واستفزاز الذهنية الساكنة، وتوسيع حدود الوعي الجمعي والغوص في مجاهيل الإنسان والكون، وما يؤرقه من تمزقات وتناقضات، وإكراهات». وقفة. عن أهمية التجارب والمبادرات الجديدة في حياتنا يقول الدكتور شريف عرفة في كتابه «إنسان بعد التحديث» : الانفتاح على التجارب الجديدة يجعلنا ندرك أن البشر ليسوا -فقط- قبيلتنا أو من يشبهوننا، وأن الحياة -فقط- ما اعتدناه وألفناه. ودعا إلى عدم الجمود، والسلوك، والتفكير المحدد، لأن الانعتاق من الجمود يجعلنا أكثر مرونة، ويساعدنا في اكتساب خبرات وأفكار جديدة.