لعل الأحداث السياسية والكونية تجعل الإنسان حائرًا، والعاقل في استعجاب واندهاش من التغيرات والانقلابات في رأي الجماهير. فكثيرًا ما نجد شعوبًا وجماهير تؤيد قيادات أو سياسات معينة، وما تلبث أن تنقلب وتغير آراءها وتصبح معادية وعنيفة، وكأنها لم تكن كذلك بالأمس. لعل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تزخر بهذا السلوك البشري. فهل هذا الأمر طبيعي وسنة بشرية لم نفهمها نحن بالطريقة الصحيحة والمنهجية المعرفية والعلمية؟ وهل هذه الآراء تعكس قناعات فعلية؟ أم أنها مجرد استجابة لضغط اجتماعي؟ في دراسة كلاسيكية نُشرت عام 1961، طرح عالم النفس الاجتماعي «هربرت كلمان» نموذجًا بارزًا يفسّر كيف ولماذا يغيّر الناس آراءهم تحت تأثير الآخرين. يشير كلمان إلى أن فهم الرأي العام لا يكفي بمجرد معرفة الاتجاه الذي يتبناه الفرد، بل ينبغي تحليل الدوافع والخلفيات النفسية التي تسببت في هذا الرأي. ومن هنا، وضع ثلاث عمليات رئيسة للتأثير الاجتماعي أولها الامتثال Compliance يحدث هذا عندما يُصرّح الفرد برأي لا يؤمن به، فقط ليكسب القبول أو يتجنب الرفض. يحدث هذا في بيئات خاضعة للرقابة أو السلطة، حيث يُستخدم الرأي كوسيلة اجتماعية أو سياسية وليست قناعة. وقد يكون توجه الملياردير الأمريكي إيلون ماسك جليًا في مثل هذا الأمر؛ فبعد أن كان مؤيدًا لترمب وقراراته وسياساته، أصبح مخالفًا لكثير من السياسات. كذلك العلاقة بين ترمب ونائبه مايك بنس، حيث كان الأخير نائبًا مخلصًا لدونالد ترمب لمدة أربع سنوات، وكانا يمثلان جبهة موحدة في الحزب الجمهوري. لكن بعد انتخابات 2020، تصاعد التوتر بينهما بشكل كبير عندما رفض بنس الانصياع لطلب ترمب برفض نتائج الانتخابات الرئاسية في 6 يناير 2021. والأمثلة في هذا الأمر كثيرة والتاريخ يمتلك شواهد تثبت هذا التغير. أما الأمر الثاني فهو، التماهي Identification هنا يتبنّى الشخص رأيًا لأنه يريد أن يكون مثل شخصية مؤثرة أو ينتمي لجماعة تمنحه الشعور بالهوية. هذا النوع مرتبط بالانتماء الاجتماعي وبناء الصورة الذاتية. ويمكن الاستشهاد في مثل هذا النوع ببيت من الشعر يصور التجسيد النفسي للرأي وهو: «وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد». فنجد مثل هذا الاتجاه في الرأي للشعور بأنه جزء من كيان عرقي أو طائفي أو جماعة معينة، أو قد يتبنى أفكار مجموعة ثقافية فقط ليشعر بالاندماج والانتماء، حتى وإن كانت الرسائل الهندسية والسرديات المحبوكة لخلق رأي عام لهذه المجموعات مقنعة ومبررة. هذه المجموعات عادة ما تتكاتف وتتبنى رأيها الجماعي، وهي من أصعب الأنواع اختراقًا في تكوين وتغيير الرأي العام. والأمر الثالث هو «الاستبطان» Internalization ويُعد أعمق أنواع التأثير، حيث يُعبّر الفرد عن رأي يعكس قناعة حقيقية، يتوافق مع قيمه ومبادئه الداخلية. هذا النوع من الآراء يبقى حتى دون وجود تأثير خارجي. مثال: شخص يعارض التمييز لأنه يرى فيه انتهاكًا لقيمه الأخلاقية، حتى لو لم يكن ذلك الرأي شائعًا. هنا يكون الفرد لديه عمق معرفي يستطيع من خلاله تقييم المواضيع بمشرط علمي أو أخلاقي، ولا أدل على ذلك من شخصية نيلسون مانديلا الذي أصبحت له مكانة في الأممالمتحدة والشخصية التي أصبحت زعيمًا لدولة جنوب إفريقيا ونال احترام العالم بكامله. لم يحكم بعقلية الانتقام بل بعقلية المواطنة. ولكن هذا النوع من التحليل النفسي والعدسة المعرفية قابله رأي آخر من إدوارد بيرنايز، رائد العلاقات العامة الحديثة، فيقدّم رؤية عملية قائمة على «الهندسة الواعية للموافقة». وهو يؤمن أن الجمهور لا يُفكر بعمق، بل يتأثر برموز إعلامية، وقادة رأي، وتكرار الرسائل. في كتابه «بلورة الرأي العام» Crystallizing Public Opinion، يرى أن المنظمات يمكنها «بلورة» الرأي العام عبر أدوات نفسية إعلامية مدروسة. بيرنايز لا يهتم بقناعة الفرد، بل بما يعكسه الجمهور من مواقف استجابة لحملات دعائية ناجحة. في عالمه، لا يحتاج الإعلان لأن يكون صادقًا تمامًا، بل أن يكون مُقنعًا وفعّالًا. وهنا يرى أنه يتم التعامل مع الجماهير ككتلة واحدة وأن يخلق صراعات داخلية لتبني مفهوم الوعي المعلب برسائل إعلامية، وهندسة سرديات قابلة لاختراق الجماهير. وهذا ما تقوم به الآلة الإعلامية الإسرائيلية حاليًا لتغطية جرائم حرب الإبادة على غزة من خلال تعاملها مع وسائل الإعلام الغربية وخطابها الإعلامي. وبغض النظر عن النموذجين في فهم كيف يتم تغيير رأي الجماهير، فما يهمنا كمراقبين هو ما إذا كان رأي الجمهور قابلًا للتغيير، ومدى استقرار المواقف في ظل تغير السياقات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. وكيف يمكن بناء سرديات تراعي الدافع النفسي وراء تبني الرأي، وكذلك كيف نحلل الأدوات: الإعلانات، الرموز، التكرار، والشخصيات المؤثرة، وكيف تسهم في توليد «موافقة جماهيرية» ذات فاعلية في التغيير.