عندما نقرأ تاريخ العلم-التجريبي عبر التاريخ، نلاحظ أن هناك تجاهلًا للتاريخ العلمي عند العرب. نجد قفزة من اليونان إلى عصر النهضة دون أي ذكر لتحولات العلم-التجريبي في التاريخ العلمي عند العرب. في هذا المقام، عندما نذكر مصطلح «العلم» نقصد بهِ المعرفة القائمة على التجربة بالاعتماد على الدليل المادي القابل للاختبار والملاحظة، ولا نقصد بهِ مجالات المعرفة بشكل عام. عندما اكتشفت المنهج التجريبي عند ابن الهيثم -الذي يطابق لحد كبير المنهجية النظرية للعلم التجريبي المعاصر- شعرت أن هناك «حلقة مفقودة» في تاريخ العلم تتمثل في الحقبة الأوسطية للتاريخ، في ما يسمى «العصر الذهبي الإسلامي». فليس من المعقول أن يكون ابن الهيثم وحده مارس العلم التجريبي بشكل منهجي صارم دون أن يكون هناك محيط علمي في الحضارة العربية التي ينتمي إليها. ليس من المنطقي أن ينبع ابن الهيثم من اللا شيء ويأتي بمنهج علمي-تجريبي متكامل الأركان وفلسفة علم معتبرة، دون أن يكون هناك إرثٌ تفاعل معه وبنى عليه إبداعاته. ما زلت أفكر في سؤال: هل ابن الهيثم أبدع مشروعه العلمي على الإرث اليوناني فقط؟ يتوارى لي أن الإجابة: «لا». حتى وإن كان الإرث اليوناني هو الأكثر تأثيرًا في ابن الهيثم، وفي الفلسفة العربية بشكل عام؛ إلا أنه لا يمكن أن يكون ابن الهيثم اكتفى بالإرث اليوناني في إنتاج مشروعه العلمي المتطور. لا بد أن تكون هناك إرهاصات فلسفية-علمية عربية سابقة مهدت لمشروع ابن الهيثم العظيم في فلسفة العلم ومنهج البحث العلمي. عندما أبدع فرانسيس بيكون -خلال عصر النهضة- فلسفة المنهج العلمي-التجريبي، كانت هناك إرهاصات سبقته في ممارسة التجربة وتأثر بها، مثل: روجر بيكون، الذي أكد ضرورة التجربة والملاحظة، وقال: لا يمكن الوصول لمعرفة أكيدة دونهما. وكذلك: اندرياس فيزاليوس، الذي خالف منهج جالينوس في التشريح واعتمد على التجربة والملاحظة المباشرة. وغيرهم من علماء عصر النهضة الذين مارسوا التجربة العلمية مثل: غاليليو غاليلي. نلاحظ هنا كيف أن فرانسيس بيكون لم يخرج من العدم، بل كان هناك محيط علمي-تجريبي يسبقه ومعاصر له، يمارس التجربة، ويعتمد الملاحظة الحسية المباشرة كدليل مادي موثوق للمعرفة السليمة، سواء كان ذلك بشكل متكامل أو جزئي. ما يهمنا هنا وجود محيط علمي-تجريبي هيأ لبزوغ منهج فرانسيس بيكون، والذي يعتبره كثير من مؤرخي العلم بداية العلم-التجريبي المعاصر. رغم أن البداية، من وجهة نظري، كانت مع ابن الهيثم كما فصلنا ذلك في بحثنا في مجلة مقابسات. بناءً على ما سبق، يترآى لي أن ابن الهيثم كذلك لا يمكن أن يكون قد ظهر بالمنهج العلمي-التجريبي الصارم من العدم. لا بد أن يكون هناك محيط علمي-تجريبي معاصر له، وإرهاصات سابقة تأثر بها، وتفاعل معها من الإرث اليوناني والعربي. بعد هذا التمهيد يطرأ لنا السؤال الأهم والمحير: هل هناك إرثٌ عربيٌ مفقود في منهجية العلم-التجريبي؟ يبدو لي أن الإجابة: «نعم». حيث إن هناك بعض العلماء العرب قد مارسوا التجربة والملاحظة المباشرة، واعتمدوا على الدليل المادي الملموس أكثر من القياس والنظر العقلي المجرد. على سبيل المثال لا الحصر: جابر ابن حيان، مارس التجربة بشكل صارم، وكان معروفًا بأنه متطرف في التجريب؛ حيث يرفض البدء بالفرضيات ثم التحقق، بل بالتجريب المباشر أولًا. بعكس ابن الهيثم -الذي يشابه المنهج الحديث- إذ كان يبدأ بالفرضيات ثم التحقق التجريبي. لذلك يبدو لي أن السؤال يحتاج إلى الكثير من البحث والتحقيق في الإرث العلمي-التجريبي في التاريخ العربي-الإسلامي، وخصوصًا المخطوطات الكثيرة التي لم تحقق حتى الآن لعلماء-تجريبيين في الحضارة العربية.