في خطوة إستراتيجية تنسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، أقرّ مجلس الوزراء نظامًا جديدًا لتملك غير السعوديين للعقار، ليشكّل محطة فارقة في مسار تطوير المنظومة التشريعية وتعزيز جاذبية السوق العقاري. يمثّل القرار نقلة نوعية في تنظيم التملك العقاري، إذ يتضمّن آليات دقيقة لضبط السوق وتحقيق التوازن بين تشجيع الاستثمار الأجنبي وحماية مصالح المواطنين، من خلال السماح بالتملك في نطاقات جغرافية محددة، خصوصًا في مدينتي الرياضوجدة، مع اشتراطات خاصة للتملك في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، تراعي خصوصية هاتين المدينتين وتحافظ على التوازن السكاني والعمراني. ويُتوقع أن يسهم النظام الجديد في رفع المعروض العقاري من خلال استقطاب المستثمرين العالميين والمطورين الدوليين، بما يفتح المجال لتدفقات مالية وخبرات نوعية إلى السوق السعودي. وقد ظهرت بوادر هذا التحول سريعًا، حيث شهدت أسهم شركات التطوير العقاري في السوق المالية السعودية مكاسب فورية فور إعلان الموافقة على النظام، في مؤشر واضح على ثقة المستثمرين المحليين والدوليين وتفاؤلهم ببيئة تنظيمية أكثر استقرارًا ووضوحًا. ويقدّر عدد من المحللين أن هذا النظام سيحقق سيولة كبيرة في السوق العقاري، في ظل دراسات تشير إلى أن 86 % من المسلمين ذوي الثروات يرغبون في تملك وحدات سكنية داخل المملكة، خاصة في مكةالمكرمة والمدينة المنورة. كما أبدت العديد من رؤوس الأموال المهاجرة رغبتها في نقل استثماراتها إلى السعودية، مستفيدة من البيئة الآمنة، والاستقرار السياسي، والمنظومة التشريعية الناضجة التي تحفظ الحقوق وتعزز الثقة. ويكتسب توقيت صدور النظام دلالة مهمة، إذ تزامن مع استكمال المملكة لمتطلبات جذب المقرات الإقليمية لكبرى الشركات العالمية، ومنح التراخيص لمئات منها للاستقرار في العاصمة الرياض، ما يستدعي بطبيعة الحال تفعيل سوق العقار وضخ المزيد من الديناميكية فيه لتلبية الطلب المتوقع على المساكن والمكاتب والمرافق الاستثمارية. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن المملكة تستهدف توفير أكثر من مليون وحدة سكنية، و362 ألف غرفة فندقية، وأكثر من 7.4 ملايين متر مربع من مساحات التجزئة، و7.7 ملايين متر مربع من المساحات المكتبية الجديدة بحلول عام 2030. ويمتاز النظام الجديد بقدرته على تحقيق التوازن بين مكاسب المستثمرين وحقوق المواطنين، إذ يمنح المستثمرين فرصة الدخول إلى أحد أسرع الأسواق نموًا في العالم، ويوفر لهم بيئة استثمارية واعدة، وفي الوقت ذاته يحمي مصالح المواطنين من خلال آليات تنظيمية صارمة تحد من المضاربات والممارسات السلبية. كما أظهر النظام حرص المشرع السعودي على حماية المصلحة العامة عبر سد الذرائع التي قد تؤدي إلى منافسة غير عادلة، ومنح المشاريع العملاقة والمدن الجديدة صلاحية بيع الوحدات العقارية للأجانب، بهدف جذب العملة الصعبة وتعظيم العوائد الاقتصادية، مع ضمان حقوق الشركات الأجنبية واستقرارها التشغيلي. ولا تقتصر المكاسب على القطاع العقاري فقط، بل تمتد إلى سوق الأسهم السعودية وقطاعات حيوية مثل البناء والتمويل والخدمات اللوجستية، ما يعزز من تنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل نوعية للكوادر الوطنية، فضلًا عن تحفيز السيولة والاستثمار المؤسسي في المدى المتوسط. على الصعيد القانوني، يمثل النظام الجديد امتدادًا للإصلاحات الكبرى التي تشهدها المنظومة التشريعية السعودية. فالقضاء العادل والقانون الفاعل هما الركيزة الأساسية لاستقرار المعاملات وجذب الاستثمار، وقد أولت القيادة الرشيدة هذا الجانب أولوية قصوى من خلال تطوير مرفق القضاء ورفع كفاءته لمواكبة التحولات الاقتصادية المتسارعة. ومن المؤكد أن جودة المنظومة القضائية تمثّل أحد أهم عناصر الجذب الاستثماري، لا سيما في عالم تتشابك فيه التجارة وتتسارع فيه حركة رؤوس الأموال العابرة للحدود، ما يضع على كاهل الدول ضرورة تأمين بيئة قانونية موثوقة تحفظ الحقوق وتعزز الشفافية. وقد انعكست هذه الإصلاحات على المستوى الدولي، حيث تحسّن تصنيف المملكة في مؤشرات الشفافية والنزاهة، وارتفعت مكانتها لدى المؤسسات المالية الدولية، بفضل جهود الدولة في مكافحة الفساد، وتعزيز المساءلة، وتفعيل الأجهزة الرقابية. وهذا بدوره أسهم في ترسيخ صورة المملكة كبيئة استثمارية موثوقة وواعدة. نظام تملك غير السعوديين للعقار لا يمثل مجرد تعديل قانوني، بل يعكس تحولًا إستراتيجيًا متكاملًا يسعى إلى تحفيز الاقتصاد، وتوسيع قاعدة الاستثمار، ورفع كفاءة السوق العقاري في ظل منظومة تشريعية حديثة ومحفزة. وفي هذا السياق، تتجه الأنظار إلى الجهات ذات العلاقة، وفي مقدمتها وزارات العدل، والاستثمار، والشؤون البلدية والإسكان، لتعزيز التكامل في تنفيذ هذا النظام، وتسريع إصدار اللوائح التنفيذية، بما يضمن التطبيق الفعّال ويكرّس الثقة المتنامية بالاقتصاد السعودي.