هل يمكن لرواية كتبها كاتب إنجليزي قبل مئة عام أن تساعد قائدا سعوديا على اتخاذ قرار حاسم اليوم؟ قد تبدو الإجابة غريبة، لكن الأدب -خصوصا الأدب الإنجليزي- ليس مجرد ترف تراثي ثقافي أو متعة جمالية، بل هو عدسة حادة لفهم الإنسان، وبالتالي لفهم السياسة والإدارة والتغيير. عندما يُذكر تخصص الأدب، خصوصًا الأدب الإنجليزي، يتبادر إلى أذهان كثيرين صورة شاعر حالِم، أو قارئ غارق في روايات القرن التاسع عشر. ينظر البعض إليه كتخصص نظري بحت، بعيد عن الواقع، لا يواكب عصر التحول والإنجاز العملي. لكن الواقع أعمق من هذه الصورة بكثير. في جوهره، الأدب ليس فقط فنًا للكتابة أو رواية القصص. في تجربتي مع الأدب وجدت أنه أداة فعالة لفهم الإنسان: دوافعه، صراعاته، طموحاته، وحتى تناقضاته. ومن خلال هذا الفهم، يتفتح أمام القارئ أبوابٌ نحو السياسة، الإدارة، الإعلام، وحتى العلاقات الدولية. فكيف يمكن لقارئ شكسبير أو جورج أورويل ألا يطوّر حسًا سياسيًا؟ وكيف لا يكوّن من يقرأ فيرجينيا وولف أو تشينوا أتشيبي فهمًا عميقًا للهوية والسلطة والمجتمع؟ في عالم الإدارة، تُدرّس اليوم مهارات «القيادة عبر الحكاية» (Leadership through storytelling). والعديد من برامج القيادة العالمية، مثل برامج هارفارد وستانفورد، تدرج الأدب ضمن مقرراتها لتطوير قدرة القائد على الفهم، التأثير، والتواصل. لأن الأدب يعلّمنا أن البشر لا يتحركون بالأرقام وحدها، بل بالقيم، بالخوف، بالأمل – وكلها عناصر لا تُفهم إلا عبر اللغة والتجربة الإنسانية. بل إن كبار القادة عبر التاريخ، من تشرشل إلى أوباما، كانوا قارئين نهمين، بل وكُتّابًا أحيانًا. لأن السياسة ليست فقط قوانين وخططًا، بل رواية تُروى، وصورة تُرسم، وخطاب يُقنع. في السعودية، ومع التحول الكبير الذي تعيشه البلاد، نحتاج أن نعيد النظر في قيمة التخصصات الإنسانية. خريج الأدب الإنجليزي ليس عالة على سوق العمل، بل مشروع مفكر، إعلامي، إداري، أو حتى وزير، إذا ما توفرت له البيئة التي تترجم ما قرأه إلى أثر. الأدب، ببساطة، يُعلّم الإنسان أن يكون إنسانًا، ومن يفهم الإنسان، يفهم كل شيء.