المتقاعدون مواطنون خدموا وطنهم، كل واحد في مجال اختصاصه، ومن سنة الحياة أن يتخلوا عن مواقعهم، فهذا شيء طبيعي وينبغي أن يكون حاضرا في وعي الجميع ويستعدوا لهذا اليوم على الصعيد المالي والنفسي والجسدي، هذا شيء متفق عليه ولا يجادل فيه المتقاعدون أنفسهم. وليس هو موضوع هذه الكلمات (رغم أنه جانب مهم ولو اعتنى به كل مقبل على التقاعد لأعاد حساباته وفكر في أسلوب تعامله مع الناس وهو على رأس العمل) لكن موضوعنا هو: ماذا قدم المجتمع للمتقاعدين بعد أن قدموا له أجمل أيام حياتهم؟ والمقصود بالشباب الثاني تلك الفئة من المواطنين الذين أجبرتهم "قوة النظام" على النزول من سلم الوظيفة وهم بكامل قدراتهم العقلية والجسدية مزودين بالخبرات والمعارف والحكمة والاطمئنان والقدرة على العطاء دون توتر أو نزق. وحتى يكون الكلام واضحا ومحددا فإن السؤال المنطقي هو: ماذا قدمت المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات لهذه الفئة من المواطنين؟ فهما المسؤولتان عن قضايا التقاعد، وهي مسؤولية ترتبط بحياة شريحة كبيرة من الناس تختلف من حيث الدخل والتعليم والتدريب والقدرة على زيادة الدخل في مرحلة التقاعد. لسنا في حاجة للتذكير بأن المتقاعد هو مواطن استثمرت فيه الدولة (تعليما وتدريبا) ودخل معها في علاقة "تعاقدية" بموجبها رهن لها أفضل فترات حياته وقدرته على الإنتاج والبذل مقابل أن يعيش ثلث عمره الأخير مكرما معززا مرتاحا مستغنيا عن غيره، قادرا على إتمام رسالته حيال أفراد أسرته الذين لم يدخلوا سلك الحياة العملية بعد. وكلنا يعرف أن الدولة أنشأت لهذا الأمر المؤسسة العامة للتقاعد (القطاع الحكومي) والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (القطاع الأهلي)، وأسندت لهما مهمة تنفيذ شروط "عقد المواطنة" الموقع مع الموظف بصورة لا تظلم أحد الطرفين.. وكان من شروط "التعاقد" أن يدفع الموظف جزءا من راتبه شهريا لهاتين المؤسستين من أجل استثماره وتعظيم عائداته حتى تستطيع الالتزام نحو شركائها (المتقاعدين). ومن فضل الله على بلادنا أن أفاض عليها من الخيرات وأسباب النمو ما جعل هاتين المؤسستين من أغنى المؤسسات الحكومية والأهلية حتى إن الدولة كانت تلجأ لهما عند الحاجة من خلال قروض مربحة تزيد من ملاءتهما المالية. والجميع يعرف أن هاتين المؤسستين من أكبر المؤسسين في الشركات المساهمة وتملكان من المشاريع العقارية الضخمة ما يؤكد قدرتهما المالية الكبرى التي تدر عليهما البلايين. فماذا عملت هاتان المؤسستان للمتقاعدين؟ وبصيغة أخرى ما وضع المتقاعدين في الوطن؟ أرجو أن يكون واضحا أن الحديث عن عموم المتقاعدين وليس عن "نماذج" ناجحة استطاعت أن تشق طريقها بعد التقاعد إلى المزيد من النجاح المؤدي إلى زيادة الدخل والمشاركة في الحياة العامة.. هذه الفئة القليلة ليست المقصودة لأنها قليلة وتمكنت من تحقيق ما حققته بجهودها الخاصة.. المعني هم الكثيرون الذين يستطيعون المضي في الحياة بلا منغصات لو كانت الظروف مهيأة لهم. وعن هؤلاء أتحدث فهم الأغلبية وهم الذين يحتاجون إلى "برنامج وطني" يعنى بأوضاعهم ويرسم خريطة واضحة المعالم لحقوقهم على المجتمع ويدرك أهمية الاستفادة منهم مع توفير المستوى الخدمي الذي يكافئ ما بذلوه يوم كانوا على رأس العمل. والمتقاعدون يتوفرون على خبرات غنية متعددة (عسكرية ومدنية) وإهمالهم وعدم الاستفادة منهم يعد إهدارا لطاقات وثمرات عقول استفادت من ثروة الوطن. ونذكر بأن غالبية الخبراء الذين نستقدمهم من الخارج عربا وأجانب هم من المتقاعدين الذين دخلوا مرحلة "توظيف" قدراتهم لأن مجتمعاتهم أدركت أهمية تراكم الخبرات التي تحصلوا عليها ولا تريد التفريط فيها. فلماذا "نثق" نحن في خبرات متقاعدي غيرنا ونستقدمهم للمشاركة في مشاريع التنمية في الوقت الذي نستهين بخبرات متقاعدينا الذين أنفقنا عليهم من التعليم والتدريب ما أهلهم لقيادة المؤسسات الناجحة؟ يستحق المتقاعدون أن تكون لهم قاعدة بيانات تعرف بأصحاب الخبرات القادرين على المساهمة في مشاريع نهضة الوطن وتشجع الجهات المتعاونة معهم، كما يستحقون أن تكون لهم نواد يجتمعون فيها، تشعرهم بتقدير المجتمع لهم وتثمين ماضيهم. هذه النوادي تكون أماكن مجهزة بكل ما يحتاجون لإقامة حفلاتهم ومناسباتهم بدلا من الارتهان للمحلات التجارية التي لا تناسب دخول غالبيتهم. ولماذا لا تكون للمتقاعد بطاقة تمنحه صفة "المواطن الكبير" يتخطى بها متاعب الأماكن المزدحمة وتمنحه التسهيلات في المواصلات العامة وتضمن له المعاملة الكريمة لدى المؤسسات الطبية الحكومية والأهلية وتفتح له باب الأولوية في مشاريع الإسكان إذا كان من ذوي الدخل المحدود. المتقاعدون يدخلون مرحلة عمرية تحتاج إلى عناية ورعاية طبية واجتماعية أكثر من احتياجهم يوم كانوا على رأس العمل واستعدادا لهذه المرحلة دخلوا في "العلاقة التعاقدية" مع مؤسسات الدولة رغم الإغراءات التي لاحت لهم في مسار حياتهم فاختاروا "المضمون" فإذا لم يكرموا في هذه المرحلة من حياتهم فإنهم سيشعرون بالغبن وبأن شريكهم في التعاقد لم يلتزم بشروط العقد. والمؤسسة العامة للتقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية مسؤولتان عن وفاء الدولة بالتزامها حيال مواطنيها المتقاعدين وأي تقصير أو تمييز أو نقص في أداء هاتين المؤسستين سينعكس سلبا على هذا الالتزام. وهذا فيه ظلم ومخالفة للواقع إذا نظرنا إلى الاهتمام الكبير الذي توليه القيادة لتحسين أحوال ومعيشة المواطنين. وهؤلاء المواطنون المتقاعدون يعيشون في الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها الجميع ويواجهون غلاء الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، وهي الظروف التي نظرتها الدولة ودعتها إلى زيادة دخول مواطنيها حتى يواجهوا زيادة الأسعار. فكيف تحسن أوضاع من هو على رأس العمل ولا يطبق ذلك على المتقاعد؟ فهذا الأخير يحتاج إلى ما لا يحتاجه الشاب القادر على زيادة دخله ومقاومة الأمراض. نقلا عن الوطن السعودية