عندما ينتشر الكذب ويصبح من الصعب تمييزه عن الصدق ، وعندما تبدو الرؤية ضبابية وتغدو كل الاحتمالات واردة ، وعندما يتسيد المشهد تجار الموت وأصحاب الأهواء والأغراض الشخصية ، تتوقف عندي الرغبة في القراءة وأتوجه بكليتي صوب الموسيقى . الموسيقى لا تكذب ، على العكس من الكتابة . الموسيقى بناء صوتي ، والصوت حقيقة لا علاقة لها بعالم الأكاذيب أوحتى الأوهام . بالمقابل فإن اللغة كلام ، والكلام هو أداة الكذب التي ابتكرها الإنسان ليخبئ نواياه وراءها . كل من يتكلم يكذب ، وجل من يكتبون يكذبون .. الكلام هو أداة التواصل الأولى بين البشر ، والإنسان بطبيعته مخلوق حريص على تصدير الصورة التي يريد لا الصورة التي تعكس الحقيقة ، إلى الآخرين . لذلك كله كانت النية – النية هي الرغبة المضمرة أو الكامنة او غير الظاهرة – هي المعيار الأول لتقييم أعمال العباد من قبل الله عزوجل . اما الموسيقى فهي لا تكذب ، لأن اللاوعي والوجدان والشعور والروح – العناصر المسؤولة عن انتاج وتلقي الموسيقى - لا يكذبون . الكذب عملية محض عقلية ، وليس هناك كذب دون ان تسبقه عملية تفكير أو تخطيط ما . الكذب هو الابن الشرعي للغة . ذلك أن عملية الكذب مشروطة بالتفكير ، وعملية التفكير مشروطة باللغة . وهذا يعني أن اللغة هي أداة التفكير ، وليس هناك شخص قادر على ممارسة التفكير دون ان يلجأ إلى اللغة التي تعتبر المنجز العقلي الاهم والأكثر تأثيرا ، في تاريخ البشر . اللغة مراوغة .. ولولا هذه المراوغة لانتفت فرص وجود صفة الجدل الذي يقوم على التلاعب بالألفاظ والتحايل على الدلالات . في اللغة هناك دائما مجال للكر والفر واللف والدوران ، طالما ان معظم المفردات العامة لا تمتلك دلالات قاطعة يمكن أن يجمع عليها كل البشر . في الموسيقى ليس المطلوب من النغمة او النوتة الموسيقية ان يكون لها دلالات عقلية محددة . الموسيقى لا تتوجه إلى العقل من الأساس ، وهذا هو سر صدقها وسبب تأثيرها بالرغم من أنها لا تقول شيئا . خلو الموسيقى من الدلالات العقلية هو أعظم ما فيها . نقلا عن المدينة