لا أميل إلى إدراج الفيلم المسيء إلى الرسول الكريم أو الرسوم الكاريكاتورية الفرنسية ثم الألمانية، تحت ما يعرف ب»نظرية المؤامرة»، رغم الجراح التي تسببت فيها هذه الأعمال الاستفزازية غير المسؤولة لغالبية المسلمين والمتعاطفين معهم، ذلك لأن من يؤمن بنظرية المؤامرة سوف يجد دوما ما يغذي هواجسه (وما أكثرها في هذه المرحلة المضطربة)، فضلا عن أن الاعتقاد بأن الغرب «عدونا» يجعلنا نرتاح إلى تعظيم هويتنا وعدم مجابهة استحقاقات الحاضر وتحديات المستقبل. أتصور أن الإساءة الكبيرة التي لحقت بنا تتطلب منا «شجاعة عقلية أكبر»، ذلك أننا نواجه صراعا «حضاريا» بكل معنى الكلمة في العام 2012 وربما أبعد مما قصده المنظر الأمريكي «صامويل هنتنجتون» في كتابه الشهير «صدام الحضارات» عام 1993، ولا سبيل أمامنا سوى أن نبلغ في التقدم مرحلة يضطر الغرب معها أن يرانا مثله وأن يعاملنا كمثيله. لا أن نقدِّم له، بتخلُّفنا، وردود أفعالنا الأسوأ، ذريعة لاضطهادنا واستفزازنا من جديد!. والتاريخ حافل بأمثلة كثيرة استطعنا من خلالها تجاوز كبوتنا الحضارية والنهوض من جديد وإجبار الغرب على احترامنا. هناك بعض الأسئلة التي أسقطت عمدا، ربما بفعل فاعل، من جدلية العلاقة التاريخية بالغرب، وأهمها: كيف استطاع الخطاب الفلسفي الرشدي، بمضامينه الإنسانية والعالمية، التسرب والتغلغل في التحصينات الأوروبية للقرون الوسطى، التي سممتها أجواء الحروب الصليبية على مقدساتنا، والعداء الشديد لكل ماهو عربي وإسلامي؟. كيف نجح الفيلسوف العربي المسلم أن ينال احترام العقول في أوروبا من خلال «الرشدية اللاتينية «، ويصبح نصيرا للكنيسة الكاثوليكية في وجه الإلحاد، بل وصمام الأمان للعقيدة المسيحية نفسها؟… كيف استطاعت فلسفته أن تقلب موازين القوى الفكرية في العالم، وأن تصبح نقطة التحول الفاصلة في الفكر الحديث؟ إن عالم اليوم هو من كثير من الأوجه بالغ العنف والتعصب في تناقضه وروح ابن رشد (1126م – 1198م) (520ه- 595ه) … على الرغم من أن «الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له» كما قال أبو الوليد في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) … فالحقيقة واحدة وإن اختلفت دروبها والطرق التي تفضي إليها، وهذا التعدد هو أساس حرية الفكر عنده. فالأديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة إلى الحقيقة الواحدة، وهي من أروع الأفكار على مر العصور التي تحترم الآخر وتقبله كما هو لا أن تسيء إليه أو لرموزه الدينية.وانطلاقا من وحدة الحقيقة طالب ابن رشد بالاستفادة من إنجازات الفكر، بصرف النظر عن كون المفكر وثنيا، أو تابعا لدين آخر. وهذه الفكرة تتكامل وتتداخل مع فكرتين أساسيتين عنده، تجيبان اليوم عن مسائل شائكة ومشكلات حقيقية، أولاهما هي «وحدة العقل أو العقول» ومؤداها أن المعرفة تعني المشاركة في المعرفة العالمية. أما الفكرة الثانية فهي تبلور جوهر فلسفة ابن رشد وهي أن العقل لايمكن أن يقوض الإيمان، فكلاهما يعبران عن حقيقة واحدة، مما يؤكد أنه لايمكن لأي عبارة أن تستوعب الحقيقة أوتمتلكها، بل إن الحقيقة هي التي تملكنا جميعا. هذا من جهة، من جهة أخرى فقد كان ابن رشد يؤمن بالتعدد والتنوع، وفي الوقت نفسه يدرك أن وراء كل حقيقتين متعارضتين في الظاهر، تكمن «وحدة» بين طرفيها جهل متبادل، وحدة في انتظار من يكتشفها، ترى عزيزي القارئ كم مساحة الجهل بيننا وبين الغرب؟ ومن سيكون الأسرع إلى اكتشاف هذه الوحدة؟ ومتى؟ وكيف؟. لقد اعتبر الفيلسوف العربي «ابن رشد» في عصر النهضة الأوروبية الدليل الهادي والمفسر الأوحد لأرسطو، وصارت له مدرسة وأتباع وتلاميذ أسسوا ما يعرف ب «Averrosism» أو «الرشدية اللاتينية» التي صاحبت دخول المعلم الأول (أرسطو) إلى جامعة باريس في القرن الثالث عشر ثم جامعة بادوا في إيطاليا في القرن الخامس عشر، وقد وصف «كونتاريني» أهم الفلاسفة الرشديين، المكانة التي احتلها ابن رشد في ذلك العصر، بقوله: «عندما كنت في بادوا، هذه الجامعة ذائعة الصيت في كل إيطاليا، فإن اسم وسلطان «ابن رشد» كانا الأكثر تقديرا، فالكل كان موافقا هذا المبدع العربي، واعتبروا آراءه نوعا من الإلهام، وكان الأكثر شهرة من الجميع بسبب موقفه من «وحدة العقول»، بحيث إن من كان يفكر على العكس من ذلك، لم يكن جديرا باسم المشائي أو الفيلسوف».