ليس هناك أغبى ولا أكثر إثارة للشفقة ممَّن يتذاكى أمام مَنْ يعرف الحقيقة كلها. وجد علماء النفس أن كلَّاً يبالغ في تحديد مستوى ذكائه، إما جهلاً أو تجاهلاً أو إرضاء لنفسه، أو لقيامه بدور كُلِّف به رغم محدودية قدراته محاولاً التذاكي على نفسه. هذا المتذاكي قد يكون فرداً، أو مؤسسة، أو مجتمعاً، أو تنظيماً، أو حتى دولة. بعض الأفراد يعيش بيننا جسداً، ونسي أو تناسى عقله خلف جدار عقود مضت، يحاول إقناعك أن الجدار الذي يكون ناصع البياض أمام ناظريك، هو شديد سواد اللون، وأن مَنْ كتب النص الذي بين يديك لا يقصد ما كتب، وإنما الإشكالية في فهمك، وأن التصريح الذي أُعلن يُقصد به غير ما فهمته، وقد تصل به المحاولات إلى أن يحاول إقناعك بأنك لست أنت، وفي كل الأحوال عليك أن تتقبل كل ما يقول حتى لا يكون في ذكائك نظر! لأنه هو المصدر الوحيد للمعلومة التي حصل عليها ممَّن يثق فيهم، وبقية المصادر إما صاحب هوى، أو حامل أجندة خفية، فاهرب منه هروبك من الجمل الهائج. ومع مجاملة الناس له يتجرأ، ويمتلك الثقة اللازمة ليشرح للطبيب كيف يشخِّص ويعالج مرضاه، ولعالم الدين كيف يُفتي ويقسم الفرائض، وللمهندس كيف يصمم مشروعه. تجد تياراً فكرياً يتذاكى على المجتمع، ويحاول إقناعه بأن شخصاً لا يملك من أدوات النجاح ما يمكنه من إدارة نفسه هو نجم لامع، وأنه يشع من ذاته، ولا يعكس ضوء غيره، وأنه ملهم الناس، وصانع التغيير في الأمة. وهناك مجتمعات بأكملها مازالت تقتات على ذكريات الماضي، وترى باقي المجتمعات لاتزال على كراسي الدراسة، تستمع إلى تعليماتها وتتعلم منها. ويمتد هذا الداء إلى دول، فتقوم بإنشاء قنواتها بلغات مجتمعات أخرى لتبثَّ من خلالها ما لا يقبله عقل، ولا نقل، وتظن أننا إسفنجة غسيل تمتص كل شيء. نسي كل هؤلاء أن مجتمعنا ذكي بالفطرة، وأنه من أكثر الشعوب تعلماً وتعليماً، وأنه أمام أفراده أكثر من 5 آلاف قناة فضائية، وشبكة عنكبوتية، وعلماء شابت رؤوسهم، وانحنت ظهورهم في علومهم، في إمكانك الحصول على خلاصة علومهم بطرف أناملك. ولم تمكِّنهم قدراتهم من إدراك أن مهارة الحفظ التي يتذاكون من خلالها، هي أقل درجات التفكير، وأن فوق ذلك مهارات لا يستطيعون استيعابها مثل: التحليل، والتوجهات، والمهارات، ونسي هؤلاء أن المحابر استبدلت بلمسة إصبع، وأن أخبار الأسواق الشعبية استبدلت بالإنترنت، وأن التذاكي استُبدل بالذكاء. إن ما يدعو هؤلاء المتذاكين إلى الاستمرار هو النجاح الزائف الذي يشعرون به أحياناً من خلال المجاملة، أو خوفاً من الاتهامات، أو التصنيفات التي قد تطلق على مَنْ لا يسلِّم إليهم عقله. وتبقى الشفافية، وسيادة الدليل والمنطق، وقياس الأداء، الوسائل الناجعة، والحاجز الفاصل بين الأذكياء والمتذاكين. وقفة: كان أحدهم يلبس ثياباً فاخرة، لكنه يتكلم فيلحن في كلامه، فقيل له: يا هذا، إما أن تتكلم كلاماً يشبه لباسك، أو تلبس لباساً يشبه كلامك.