لياقات رمضان العالية ترف آخر، ولحضوره مراسم تزدهر بالأمنيات، فكلما مرت الشهور نعود في كل عام لنشعل قناديل لياليه الماتعة، ونتذكر طفولتنا عندما كنا نعبر طرقات القرية محتفين بهطول أمسياته في مواعيد مع ذكريات بساطة الحي، وتلاقي الأهل، ومدفع رمضان، وألعابنا البدائية، ولحظات تبادل الوجبات، والتمر قرب الأذان، وجو مفعم بالتآلف والمحبة، وتقاسم أرغفة روحانيات هذا الشهر بيننا. فكلما اقترب منا رمضان بدأنا في وضع أجندة للتفرغ للعبادة وقراءة القرآن، وترك مساحة للروح كي ترتشف من رمق هذه المشاعر التي تحييها لياليه، ولكي نكون على موعد مع مراجعة النفس واستغلال روحانية الشهر في التطوع لفعل الخير، ولكننا بقدر ما نحتاج إلى التقرب إلى الله وكسب المغفرة والرحمة والعتق من النار والخلود إلى ممارسة الطاعات، بقدر ما نحن بحاجة إلى مراجعة علاقاتنا الإنسانية الأسرية والاجتماعية، وخلافاتنا وحالات القطيعة والتنازع، كون هذه العبادات وحدها لا تكفي لتحقيق الحكمة الربانية من هذا الشهر، وإنما يجب علينا أن نعيد النظر في عديد من الخلافات التي فرضها علينا تطور الزمن وتعقيد فكر الإنسان، واختلاف وجهات النظر، والتغير في خارطة التفكير لدرجة جعلت القطيعة والخلافات – التي لم تقتصر على العلاقات السطحية، وإنما تجاوزتها إلى إطار الأسرة الواحدة بين الأشقاء والأرحام، وانتقلت إلى دائرة أوسع بين الأصدقاء والأقارب، ودخلت في منحنيات كثيرة – تتطلب وقفة صادقة مع الذات وسؤال أزلي مُلحّ… إلى متى؟؟؟ إلى متى سنظل غير قادرين على التسامح والتلاقي؟ ومتى يمكننا تجاوز الهفوات والوصول إلى ثقافة التغاضي؟ ومتى يمكن أن نعتبر رمضان فرصة سانحة للتخلص من العادات السيئة كالتدخين، والإسراف في الطعام والشراب، والإهمال في أداء الصلوات في وقتها، والشح والبخل، وقطيعة الرحم، والقسوة على الفقراء والمحتاجين؟ وأن يتحول هذا الشهر إلى موسم للتغيير لتصفية القلوب والنفوس من الضغائن والخلافات والعودة إلى طاولة التلاقي والتآخي، وتجاوز الأخطاء؟ كوننا جميعاً غير معصومين من الخطأ، وبحاجة إلى حالة الألفة في عوالمنا الصغيرة أو المتشعبة حتى لا يمر هذا الشهر دونما منجزات حقيقية على صعيد العلاقات الأسرية والإنسانية، وألا ننتظر لعديد من المواسم الرمضانية كي تشفع لنا تجاوزاتنا وأخطاؤنا، حتى نستطيع أن نجلس أسرة واحدة يجمعها طبق الأخوة والتسامح؛ ليكون هذا الموسم شفافاً وروحانياً بما يكفي لكي نتصالح مع أنفسنا أولاً ومع الآخرين، وألَّا تظل أجندة رمضان معبأة بعناوين الدراما الرمضانية والبرامج التليفزيونية، والتهافت على شراء المواد الاستهلاكية، والبحث عن أشهر المأكولات ووصفات الريجيم والأزياء والأواني وطرق تقديم الأطعمة المبتكرة؛ لأن هناك ما هو أهم من ذلك كله… إنها الذات الإنسانية التي تحيا بالمحبة والتآخي وتهنأ بالصفاء والتلاقي. مبارك عليكم شهر الرحمة والغفران.