قليلون هم المجتمعون في ديوانيتنا الصغيرة، غير أنَّ جدلهم عادةً ما يكون صاخباً يصل إلى الحدة في بعض الأحيان، ضمن هذا الجو شدَّني وصف أحد الأصدقاء المستشفيات الحكومية بأنها (مستشفيات الفقراء)، معللاً ومتسائلاً في نفس الوقت عن السبب الذي يدفع مواطناً يحمل تأميناً صحياً للذهاب إلى مستشفى يمنح المواعيد بعد فترات طويلة قد تكون كافية لمضاعفة هذا المرض، هذا عوضاً عن الاستعجال الشديد الذي يبديه أطباء الطوارئ في الكشف على مرضاهم نظراً لأنَّ طابور المنتظرين طويل جداً، الأمر الذي يجعل الفحص مجرد عملية شبه صورية وغير دقيقة، ويبقى المبنى المتهالك والقديم سبباً للاشمئزاز بحيث يتمنى المريض الداخل إلى هذا المستشفى الخروج حتى قبل اكتمال علاجه هرباً من هذا الوضع، وبطبيعة الحال فقد شارك بعضهم هذا المتحدث ببعض القصص التي يرونها شواهد تثبت بالفعل أنَّ الدافع الحقيقي للذهاب إلى هذه المستشفيات هو العوز المادي ولا شيء سواه. يُلزم قانون العمل السعودي جميع الشركات بالتأمين الصحي على منسوبيها السعوديين وغير السعوديين، هذا الإلزام يتضمن بطبيعة الحال الموظف وكافة أسرته، هذا التأمين هو أحد أهم الأسباب التي تدفع حامليه إلى تجنب المستشفيات الحكومية، هذا عوضاً عن أنَّ المستشفيات الخاصة عموماً وبسبب كونها في الأصل نشاطاً تجارياً يهدف ضمن أحد أهدافه إلى الربح، تُشكل الجوانب التنظيمية والجمالية فيه عوامل جذب، تنأى بأي شخص يحمل تأميناً صحياً عن تركها والذهاب إلى غابة المستشفيات الحكومية، كل ذلك يبدو بديهياً غير أنَّ الجانب التجاري -وهو ما أود التركيز عليه هنا- قد يكون عاملاً سلبياً، في هذا السياق قد يتذكر القارئ الكريم -إن كان لديه تأمين- كثيراً من المواقف التي يسأل فيها الطبيب المراجع عمَّا إذا كان لديه تأمين طبي أو لا، هذا السؤال عادةً يكون لرغبة الطبيب في منح المراجع كثيراً من الفحوصات التي قد لا يكون لها ما يبررها إلا تلك الدعوة الفضفاضة التي يسميها بعضهم ب(لنطمئن أكثر)، هذه الكلمة معناها على الأرض هو جملة كثيرة من الفحوصات والتحاليل والأشعة التي ليس لها من الناحية الطبية أي داعٍ، وحدها الصدف هي التي تجعل أحد المراجعين يعرض هذه الجملة الكبيرة من الإجراءات على طبيب حاذق خارج هذا المستشفى ليبدي هذا الأخير استغرابه وتقديره بأنَّ كل ذلك فقط من أجل المال، أما الأدوية فالأطباء والصيادلة عموماً يعرفون أنَّ المرض الفلاني يحتاج إلى الدواء الفلاني بغض النظر عن الاسم التجاري له، بمعنى أنَّ بعض الأدوية لها نفس المكونات غير أنها تحمل مسميات تجارية قد يصل الاختلاف السعري فيها إلى الضعف، في مثل هذا الوضع فإنَّ بعض الأطباء وانطلاقاً من ربحية المنظمة يُفضلون وصف الدواء الأغلى سعراً لاسيما والمتضرر في هذه الحالة هي شركات التأمين وليس المريض، أمَّا كمية الدواء فهي الأخرى رواية غريبة، ففي الوقت الذي يحتاج فيه المريض إلى عدد (10) مثلاً من الحبوب فإنَّ بعض هؤلاء يمنحونه أضعافاً مضاعفة منها، وربما يصل الحال ببعضهم حتى إلى منح المريض أدوية ليس لها مبرر وحتى دون الرجوع إلى ملفه الطبي، الأمر الذي يسبب أمراضاً أخرى ومضاعفات جانبية معقدة، وقد أشارت جريدة «الشرق» الخميس 21 شعبان الفائت وفي خبرٍ عاجل تحت عنوان (الصحة تُعاقب طبيباً في مستوصف خاص)، إلى قضية قيام طبيب بتجاهل التاريخ المرضي لمريض وعدم الرجوع إلى ملفه ووصفه علاجاً أدى إلى مضاعفات لدى المريض، مخالفاً بذلك المادة (31) من نظام مزاولة المهن الصحية. لا شك أنَّ التعميم أمر غير جائز، غير أنَّ هذا الأمر يتكرر بين الحين والآخر. في المستشفيات الحكومية فإنَّ انتفاء دافع الربح المادي يشكل عادةً دافعاً لأداء أكثر دقة وأمانة مما يجري في المستشفيات الخاصة، في هذا السياق يجدر الثناء على الطبيب السعودي الذي غالباً ما يجتهد في عمله ويتميز عن بقية أقرانه في إخلاصه وتفانيه في العمل، الطبيب في المستشفى الحكومي ولأنه لا يعيش هاجساً مادياً فإنَّه يمنح المريض الفحص الذي يكفي لحالته وبعيداً عن المزايدات الاستعراضية، كما أنَّه يصف للمريض الدواء المناسب وبالكمية المناسبة، لا كميات كثيرة محلها الطبيعي سيكون سلة المهملات فيما بعد، الطبيب الحكومي لا يمنح المريض (بروشوراً) تجارياً ويطلب منه شراء الدواء الفلاني، هو طبيب فقط وليس مسوقاً، هو طبيب يعمل بأجر وليس طبيباً يعمل ب(تارجت Target)، لا أُريد من يقول لي: ولكنَّ لغة التعميم غير جائزة، أقول لكل هؤلاء أنا هنا لا أعمم، أنا أقول إنَّ مثل هذا الأمر موجود ولكن لا شكَّ أنَّ هناك كثيراً من منسوبي المستشفيات الخاصة من هم إن شاء الله بعيدون عن هذا المنحى. إنني وعلى المستوى الشخصي وبعد تجارب كثيرة توصلت إلى أنَّ المستشفيات الحكومية في أحيان كثيرة أفضل من المستشفيات الخاصة، جملة الأدوية المتعددة التي تُمنح دون سبب علمي من المستشفيات الربحية هي في حقيقتها سموم تسبب كثيراً من المشكلات الصحية، المستشفيات الحكومية بعيدة كل البعد عن هذه الدوافع الربحية التي مع الأسف الشديد جعلت الإنسان سلعة رخيصة يتلاعب بها هؤلاء التجار ولا يأبهون إذا ما كانت تسبب خطراً على صحته أم لا، فقط المال ولا شيء سواه هو ما يحركهم ويحرك أطباءهم الذين أصبح بعضهم يعملون كمسوقين لا كأطباء تستلزم مهمتهم أعلى مستويات الأمانة والشرف.