صار واضحاً لمعظم السوريين أن حل الأزمة التي تعصف ببلدهم خرج تماماً من أيديهم، وأن خيوط اللعبة أصبحت في قبضة أيد دولية على رأسها روسيا والولايات المتحدة، وبدرجة أقل بقبضة أيد إقليمية. إذاً رضخت الأطراف السورية للإرادة الدولية، وذهبت مرغمة إلى «جنيف2» وهي تدرك مسبقاً أن تلك الإرادة ليس لها أجندة خاصة للحل، بل هي ذاتها ليس لديها تصورات متقاربة حول مستقبل الحل، وحتى يمكن القول بعد كلمات افتتاح المؤتمر إن تصورات الأطراف الدولية للمشكلة السورية متناقضة، لا سيما الموقفين الروسي والأمريكي، وأن نقطة الاتفاق الوحيدة بينها هو عقد المؤتمر وجلوس الأطراف المتصارعة على طاولة الحوار، وهو ما ينسجم مع أطروحات المجتمع الدولي خلال معظم مسار الأزمة في سوريا والمتمثلة بمقولة: لا حل عسكرياً في سوريا وجوهر الحل في النهاية هو سياسي تفاوضي. في هذا السياق جاء مؤتمر «جنيف 2» كنوع من رفع العتب الدولي حيال العنف المتصاعد في سوريا، وكنوع من الاختبار لأي تفاوض مستقبلي حين تنضج الظروف الموضوعية للحل الدولي، والأهم كوقت مستقطع لاستكمال دوامة العنف في استنزاف القوى المتصارعة وتدمير ما تبقى من سوريا. يعرف المجتمعون في جنيف ومن يقف وراءهم أن لا أحد يستطيع حسم الصراع إلا بقرار دولي، ويعرفون أكثر أن النظام نجح في جر المعارضة إلى الأفخاخ التي نصبها لها لدرجة أنها فاقته سوءا، إذا استثنينا الجرائم التي ارتكبها وهي جرائم لا سابق لها من نظام بحق شعبه. على أية حال تلخصت مشكلة مؤتمر «جنيف 2» في أن المعارضة والنظام تعاملا معه كأنه وقت مستقطع بين شوطين، فالنظام شحذ فيه سكين الإرهاب والمعارضة شحذت سكين هيئة الحكومة الانتقالية الكاملة الصلاحيات، فيما استمر التصعيد العسكري على الأرض، النظام شدد حصاره على المناطق الثائرة وكثف قصفه عليها، بينما دخلت المعارضة في صراع مع تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية محاولةً درء التهمة المنسوبة إليها والمتعلقة بتزايد نفوذ الجماعات الإسلامية الراديكالية في صفوفها، وبين السكينين ثمة سيف يُشحذ بالخفاء وأشباح سيناريوهات يجري إعدادها، لعل أحدها هو الإبقاء على نظام الأسد وعلى رأسه الأسد شخصياً، وذلك في إطار قسمة إقليمية. ربما سيجد الكثيرون في مقولة إمكانية بقاء الأسد مبالغة، إلا أن العودة إلى الخلف في هذا السياق قد تكون مفيدة، فالأسد الذي استخدم السلاح الكيميائي ووقف على حافة الضربة العسكرية الأمريكية خرج من المأزق بعد أن قدم وحلفاؤه سلسلة تنازلات للمجتمع الدولي، ولم تكد تنتهي الجولة الأولى من مؤتمر جنيف حتى سارع إلى الإعلان عن ترشحه للرئاسة موجهاً للمعارضة ضربة سياسية قاصمة في إشارة إلى أن لديه متسعا من الوقت ومزيدا من الأوراق لإطالة أمد التفاوض إلى أجل غير منظور، والأهم أن لديه أجندة وظيفية تتعلق بإسرائيل وتتمثل بتصفية قضية الجولان وإفراغ المنطقة الجنوبية من سوريا من سكانها، ولا سيما السنة، واستكمال تهجير الفلسطينيين اللاجئين إلى مناطق شتات جديدة، ووأد حق العودة إلى الأبد، وأكثر من ذلك استكمال تحويل الصراع إلى حرب أهلية شاملة واستكمال تطييفه، وربما في المستقبل خلق مشكلة جديدة على غرار المشكلة اليهودية في فلسطين، لكن هذه المرة بلباس المشكلة العلوية، ما يعني القضاء نهائياً على الوطنية السورية، خاصة بعد نجاحه في جر معظم التعبيرات السياسية للمعارضة ونخبها الثقافية إلى فخ الطائفية العاري. من جانبها، اكتشفت المعارضة بعد الجولة الأولى من المفاوضات حجم هزالها، وبعدها عن العمل السياسي، فاضطرت إلى زيارة روسيا، وبحسب تسريبات، إلى لقاء إيرانيين سراً، بعد أن احتفلت بنجاحها في استبعاد إيران من المؤتمر، وأكثر من ذلك قدمت في المؤتمر خطابات أخلاقية، وحصدت عجزاً حتى عن انتزاع أي تنازل ولو على مستوى تقديم المساعدات الإنسانية لبعض المناطق المحاصرة. المجتمع السوري بحسب تعبير أحد الناشطين وصل إلى منتصف المرحلة الوحشية «وجنيف2» بالنسبة له يحمل أملاً ضعيفاً في إيقاف حالة التدهور، لكن فشله يعني الدخول في أفظع مرحلة وحشية عرفها العصر الحديث.