«استمطار السحب»: 415 رحلة استهدفت 6 مناطق العام الماضي    اليوم الجمعة .. نهائي كأس العالم للترويض    الطائي يصارع الهبوط    أقوال وإيحاءات فاضحة !    «المظالم»: 67 ألف جلسة قضائية رقمية عقدت خلال الربع الأول من العام الحالي    ذات الأكمام المفتوحة نجمة الموضة النسائية 2024    «طافش» تواجه حكماً بالسجن 4 سنوات !    الفقر يؤثر على الصحة العقلية    مشاهدة المباريات مع الجماهير ترفع الشعور بالرفاهية والانتماء    تخلَّص من الاكتئاب والنسيان بالروائح الجميلة    مصر تأسف لعدم منح عضوية كاملة للفلسطينيين في الأمم المتحدة    الاحمدي يكتب.. العمادة الرياضية.. وحداوية    سلطان البازعي:"الأوبرا" تمثل مرحلة جديدة للثقافة السعودية    مقتل قائد الجيش الكيني و9 ضباط في تحطم مروحية عسكرية    "أيوفي" تعقد جلسة استماع بشأن معايير الحوكمة    مجلس جامعة جازان يعيد نظام الفصلين الدراسيين من العام القادم    أمير الرياض يعتمد أسماء الفائزين بجائزة فيصل بن بندر للتميز والإبداع    تَضاعُف حجم الاستثمار في الشركات الناشئة 21 مرة    السلطة الفلسطينية تندد بالفيتو الأميركي    إسرائيل.. ورقة شعبوية !    الدمّاع والصحون الوساع    المستقبل سعودي    اليحيى يتفقد سير العمل بجوازات مطار البحر الأحمر الدولي    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الثلاثاء المقبل    الجامعات وتأهيل المحامين لسوق العمل    التوسع في المدن الذكية السعودية    التعاون يتعادل إيجابياً مع الخليج في دوري روشن    أتالانتا يطيح بليفربول من الدوري الأوروبي    في حب مكة !    الرباط الصليبي ينهي موسم أبو جبل    الإصابة تغيب كويلار أربعة أسابيع    فيصل بن تركي وأيام النصر    سعود بن جلوي يطلع على استراتيجية فنون جدة    المفتي العام ونائبه يتسلّمان تقرير فرع عسير    المرور يحذر من التعامل مع أيّ روابط ومكالمات ومواقع تزعم التخفيض    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية تعاون لدعم علاج سوء التغذية في اليمن    أمير الرياض يستقبل مدير التعليم    إنطلاق مؤتمر التطورات والابتكارات في المختبرات.. الثلاثاء    السجن 5 سنوات وغرامة 150 ألفاً لمتحرش    الرويلي ورئيس أركان الدفاع الإيطالي يبحثان علاقات التعاون الدفاعي والعسكري    نائب أمير الرياض يقدم تعازيه ومواساته في وفاة عبدالله ابن جريس    شركة تطوير المربع الجديد تبرز التزامها بالابتكار والاستدامة في مؤتمر AACE بالرياض    الجمعية السعودية لطب الأورام الإشعاعي تطلق مؤتمرها لمناقشة التطورات العلاجية    أمير الشرقية يرعى حفل افتتاح معرض برنامج آمن للتوعية بالأمن السيبراني الأحد القادم    سمو محافظ الطائف يستقبل مدير الدفاع المدني بالمحافظة المعين حديثا    "فنّ العمارة" شاهد على التطوُّر الحضاري بالباحة    تحت رعاية خادم الحرمين.. المملكة تستضيف اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    رئيس الشورى بحث تعزيز العلاقات.. تقدير أردني للمواقف السعودية الداعمة    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. انطلاق مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية في صفر    10 آلاف امرأة ضحية قصف الاحتلال لغزة    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    السديس يكرم مدير عام "الإخبارية"    شقة الزوجية !    تآخي مقاصد الشريعة مع الواقع !    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    سمو أمير منطقة الباحة يلتقى المسؤولين والأهالي خلال جلسته الأسبوعية    جهود القيادة سهّلت للمعتمرين أداء مناسكهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولدنا على سرير الموج.. ورقصة «الأزرق» ترافقنا حتى عتبات الرحيل
شريط سينمائي يسرد ذاكرة العشق أمام بحيرة «زيلامسي»:
نشر في الرياض يوم 22 - 11 - 2014


** طالب الرفاعي.. يتقدم.. يقف أمام البحيرة ليقول:
قصة حب كانت ولم تزل تجمعني بالبحر، فلقد عشت طفولتي وصباي في منطقة «شرق» وهي منطقة قديمة من مناطق الكويت، تجاور البحر، وتحفظ خطوات أهلها طريقها اليومي إليه، مثلما يعرف هو عشق قلوبهم ببوحهم إليه. طيب هو البحر ومخيف، صفحة مكشوفة ومليئة بالأسرار، هادئ كدهشة وجه طفل، ومزلزل ككلمة وداع أخيرة بين حبيبين. له طلةٌ في الصباح، وجبين يقطر عرقاً وقت الظهيرة، وحزن أصفر عند الغروب، وظلمة سرٍ عند المساء.
** أقف.. أتوجه نحو المقعد الخشبي وأقول:
عبير:
هل كتبت على الماء يوما ياطالب؟
طالب:
كتبت رواية عنوانها «رائحة البحر»، ولكن رائحته ما زالت تثيرني وتغريني وتجنني، أعشق قربي منه، وأخاف غدره. أفرح برؤيته، وأحزن لفراقه. وكم وكم كتبت على رمال شاطئه بأقلام أصابع قلبي: أحبك! نعم، كلنا يكتب على صفحة الماء ما يصعب قوله للآخر، ووحدها ورقة البحر الزرقاء تحتمل حرّ آهاتنا، وربما غاصت بها نحو الأعماق.
** يجلس «محمد» على المقعد بعد أن يبتسم وهو ينظر للبحيرة ويتأمل تلك الزرقة الممتزجة ببياض «الإوز»..
طيب هو البحر ومزلزل ككلمة وداع أخيرة بين حبيبين
محمد:
كأنك تعيدين ثقب الذاكرة لأعود بك إلى الحكايات التي كانت تحدث والبحر فائض بنا، بينما أمي تحت الدرج الخشبي تعد الغداء وتترك البيت لتجلس مع نساء الفريج في بيت الجدة بينما سائق التاكسي الذي أرسله والدي من سوق السمك قد ترك السمك معلقاً على الباب لتأتي القطة لتأكل نصف السمك وتترك الباقي للغداء.
حين كنت أعود للمدرسة كنت أنظر إلى السمك وكنت أقول بداخلي السمكة تموت حين تخرج من الماء لأنها لا تعرف أحداً، ولأنني ولدت بقرب البحر في منطقة دهان بإمارة رأس الخيمة، وكنت أشم رائحته وأدفع طين طفولتي له، فكانت القصص كالمد والجزر تلامس الروح المفزوعة، ودون تلصص وجدت نفسي كل الوقت في شهوة الكتابة بقميص مفتوح وهذا ما فعلته بالضبط في شخصية (منصور) الولد الذي يقترب لماء البحر كلما وجد أنثى في اليابسه إلى أن أغرق جسده حين غرق في الحب وذلك في فيلمي الروائي الطويل (ظل البحر) إنتاج سنة2011م، ولا يمكن أن أفهم نفسي دون أن تكون (السمكة العمياء) ترافقني في الكتابة فالجميع يسأل عنها فهي التي تمسك بيدي للكتابة وهي بنفسها التي تحدد لي مسارات الكتابة المفتوحة في دفاتر الزمن، وحتى في فيلمي (آخر ديسمبر) كان هناك البناء الدرامي البصري لشخصية الأب الستيني الذي خسر غرفته في البيت القديم بعد الحريق ولم يجد نفسه سوى أمام قاربه الصغير وبعض الاشتياقات الصغيرة بأن يعود ويدخل البحر ويشاهد وجه المدينة من بعيد، وحين قال في أحد الحوارات وهو جالس على البحر (ما أدري منو اللي كبر،، أنا ولا البحر) أظن أنه البحر القديم يلاحقني كل الوقت،وهناك العديد من الأعمال السينمائية الروائية القصيرة التي ذهبت معها إلى البحر، إذا لا شيء يغرق بداخلي ولا اعرف شكل البلل الذي يتحدثون عنه مع البحر، كل ما يحدث معي هو أنني أخاف اليابسة فأجرب سطح العالم كل يوم.
أحب أن أترك
الأحلام لكل
من لا يملك
سريراً
** أخرج من حقيبتي مغلفا صغيرا مربوطا بأحكام.. أحاول أن أزيل أربطته.. فيما طالب ومحمد ينظران إليه بفضول.. أضحك ثم أعلق.
عبير:
وجدت هذا المغلف عند باب غرفتي قبل أن آتي إلى هنا.. شعرت بالمفاجأة من وجود هدية مغلفة بجوار باب غرفتي.. فلا أعرف أحدا هنا.. ولا أجزم بوجود من يرغب في لفت انتباهي بهدية..
** أقول ذلك وأنا أنظر إليهما مشاكسة كمن يحاول أن ينسج خيوط حكاية..
** يضحك «طالب ومحمد.. ويلوحان بأيديهما:
لسنا من حاول أن يلفت انتباهك قطعا..
** أفتح المغلف.. لأجد بأنه مغلف إعلانات تسويق من أحد الأسواق المشهورة في النمسا..
يرتفع صوت « طالب ومحمد.. ضحكا..
عبير:
ذات مساء.. رأيت الكثير من الهدايا والفرص الوردية توهب للأرض، رأيت هناك غزلاناً تطير إلى السماء بأمنيات لتعود محملة بهبات السماء.. كم أشتهي أن أسرق بعض الهدايا.. كم أتوق أن أغرف بيدي تلك المغلفات التي رأيتها ذات طفولة في أحلامي.. كم أتوق أن أمارس دور القناص ذاك الذي يقتنص الهبات..
طالب:
مغرٍ كموعد الحبيبة المسروق هو القنص، وأجمل القنص ما جاء خطفاً، وأحلاه ما نلته بعد تعب، وألذه ما وافق قلبك. نعم، مارست القنص وأنا مولع به. أي حياة باردة يجملها مكياج الطين تلك التي تخلو من القنص؟ هو أحد قوانين الحياة: أجمل المتع تبرق خطفاً، والشاطر من اقتنص فرصةً عابرة لا يمكن أن يجود بها الدهر. في خلوة محب، أو كتابة سطر، أو قبلة أم، أو مجلس أحبة، أو لقمة هانئة مع بوح صديق.
لكن، قلب الفتى مليء بالأحزان، وأقل منها بكثير الأفراح. هو الإنسان وهي الحياة، مخطئ منْ يعتقد أن كفة الفرح ستعادل يوماً ما كفة الحزن. أرواحنا مغموسة ببحر الحزن، وكلما قاربت على الموت، ارتفعت من حلاوة الروح لتستنشق هبة فرح. الفرح عابر، والحرن مستقر. وجميع من قابلت في حياتي، وابتسم لهم القدر وملء جيوبهم بذهب الفرح، سرعان ما تسلطت عليهم نار الزمن فسال ذهبهم إلى التراب. وكم وكم، من أمنيات عزفت في ناي قلبي وظلت بعيدة، حسرةٌ لاحت على البعد، وعبرت بالقرب مني، وظلت سائرة في دربها، وقد خطّت جرحاً غائراً في لحم قلبي!
مغرٍ كموعد الحبيبة المسروق "القنص".. وأجمله ما جاء خطفًا
محمد:
عشت كل الوقت ضمن الوعي الجماعي، رغم ذلك كنت أبحث عن نفسي في التصرفات والأمنيات وحتى في الحزن والفرح، وما أواجهه اليوم بان كل شيء أراه مفككا من حزن وفرح وحتى الهبات التي نورثها كقناديل، ولأنني مليء الآن بالحياة أكثر من السابق، فكنت قبل الآن فقط أبحث عن المخيلة والخرافه عن جسد ووجه ومدينة، وكانت كل الشوارع في المساء تضج برائحة الأغاني والخيانة والحب والطعام الهندي، بينما بقيت أنا فقط كمن يعلق بالونه على كل شيء وهو ينتظر أن تطير الأشياء.
** ينظر «محمد» إلينا بعينين مليئتين بالإصرار والتوق:
سأقولها بكل صراحة أنا الآن في مرحلة إعادة صناعة الفرح والحزن معا بداخلي، وأعيش التأمل بعمق لأعيد الوعي الفطري في حياتي لأكتشف عوالم جديدة تبصر معي القدر.
طالب الرفاعي
عبير:
أظن بأن التأمل بعمق يحتاج إلى الكثير من الأسئلة.. إثارة الأسئلة بداخلنا والإجابة عنها بصدق هو مايمكن أن يساعدنا على اكتشاف العوالم الجديدة بنا.. تروق لي مسألة إثارة الأسئلة الصعبة في الحياة.. هناك أسئلة تخلقك من جديد، وهناك أسئلة تملك القدرة على أن تسحقنا حتى الموت.. وحدها الأسئلة الصعبة في الحياة منْ تجعل منا بشراً نمتلك مفاتيح التحول والتغيير.
طالب:
نعم ياعبير... معك حق.. فقد عشت وأعيش، أنام وأصحو مع الأسئلة: ما لهذا الميزان مائل؟ وإلى متى سيبقى مائلاً؟ متى ستشرق شمس تحمل ضياءً دون حرقة؟ كيف هو وجه الحرية الأجمل؟ متى يهدأ خفق قلبي بأمانيه البعيدة؟ لِمَ يموت الطيب ويبقى الرديء؟ لم يخرّب أبناؤنا بوحشيتهم الديار؟ ما الذي يجوس في صدور البعض فيهبون حياتهم رخيصة لجمع المال؟ ما الذي يجنن الرجل في جسد أنثى؟ وكيف لمخلوق كالمرأة أن يحتمل كل هذا الضيم والوجع في بلداننا، ويبقى واقفاً مخضراً كالنخل؟ أي سرٍ عظيم يكمن خلف الكلمة الصادقة، فيجعل البعض يموت خوفاً منها ويحاربها؟ منذ عقود والسؤال يسكنني: متى أكتب نصاً يطرب له قلبي؟ ومالي حين يجد أي نصٍ اكتبه طريقه للنشر، تحزن روحي مرددة: ليس هذا ما حلمتُ بكتابته!
دعوت الحب على العشاء واستطعت أن أرافقه في شوارع العالم
قضيت وقتًا طويلاً وأنا أعلّق بالونة على كل شيء وانتظر أن تطير
عشت وأعيش، أنام وأصحو والأجوبة تحزنني لفرط قسوتها: قولة ذاك المتعوس المتنبي:
والظلمُ من شيم النفوس فإن تجدْ ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يَظْلِمُ
كيف يُعدُّ الظلمُ شيمة؟ وكم ردَّ أبي على سؤال مني بقوله: ما في شيء. كيف يا أبي لا يوجد شيء، وأنا أسأل عما أرى وأسمع؟! وكم اعتصر الوجع قلبي، وأنا اسمع أمي الحبيبة ترد على أختي حين تسألها عن شيء: عيب، أنتِ بنت! أجوبة كثيرة تجلدني بقسوتها: لأنه محظوظ، لأنه غني، لأنه ابن فلان، لأنه..لأنها.. كثيرة هي الأجوبة القاسية، وأكثر منها حزن قلبي بها.
محمد:
أحب الأسئلة في كل شيء وخاصة في الفنون، نشاهد الفيلم من أجل أن تنهض الأسئلة بداخلنا لا لنعثر على الأجوبة، نقرأ الكتاب لتكتظ الأسئلة بداخلنا هذا ما يجب أن يحدث كل الوقت، لأننا في عالم استهلاكي منذ الطفولة وهم يقدمون لنا الأجوبة في الدين مثلا، وبعد أن كبرت عرفت بأن أغلب الأجوبة غير صحيحة فعلي إذًا أن أترك الأسئلة من جديد أن أفاوضها قبل أن تسحقنا فعلا ونبقى فقط شعوباً مكررة نستخدم الأجوبة المعلبة كما نستخدم علبة التونة، للعلم في يوم وجدت الجواب على سؤال الموت وقلت له (عندما يأتيني الموت سأختبئ خلف السرير).
** أنهض.. أسير بمحاذاة سور البحيرة الخشبي.. أنظر إلى القوارب البعيدة التي تحمل أناس وصافرات وأشرعة..
** ينهض طالب.. يقترب من السور.. يصمت كمن يحاول أن يقبض على حالة ما.. ويسأل:
طالب:
أين ذهبت؟؟ أي مكان سرقك؟
عبير:
ما أصعب توحد الأمكنة وسطوتها على مشاعرنا، ما أكبر شراستها حينما تنقض عليك لتخطفك في لحظات وتضعك في صورة لذاكرة قديمة من الذكريات التي عشتها، وتألمت بسببها أو فرحت.. ثم غابت.. الأمكنة لا تنس حتى إن حاولنا ممارسة النسيان.. الأمكنة شاهد الإثبات الوحيد دائما في الأحداث المؤلمة والمفرحة التي عشناها.
محمد في بحيرة زيلامسي في النمسا
** أسند جسدي على السور.. أترك يدي ممسكة بالسور من الخلف.. أقول:
ماذا فعلت الأمكنة بقلوبنا؟ وكم تألمنا لذلك؟
** يرتب «محمد» ربطة العنق التي كان يرتديها ويقول:
محمد:
توسلت الأمكنة في كل فيلم أن تكون هي البطل، وهي كذلك، فلا يستطيع أي سينمائي أن يصنع فيلمه الجيد دون أن يكون المكان هو البطل، فالمكان هو الذي يهزمنا، يخدشنا،، ولأن الأمكنة في حياتي مفتوحة وأبحث عنها، وجدت نفسي دائما في حنين وارف مع كل مكان، أستطيع اليوم أن أعيد كل المشاعر حسب المكان، وما يفعله المكان عبر سينوغرافيا الذاكرة هو بالضبط خشبة الحياة، وللعلم أنا مدمن جوجل ايرث أبحث عبره عن كل الأمكنة التي تهزمني لأسافر، ولأن الأمكنة مصباح البشرية فانا متسع جدا لدرجة أنني أريد أن ابحث عن الأماكن في الكون وليس الأرض فقط، بدأت الآن بصريا بالتأمل، وأستطيع القول بأنني حاليا أملك شغف بتصديق كل شيء حول الكون من كائنات فضائية وغيرها، لربما يوما نكتشف أماكن جديدة لا سؤال فيها ولا جواب، وحتى أرواحنا تهتدي بها، فهي ربما تعبت من الأماكن المكررة التي تنذر بالغياب.
طالب:
أما أنا -يا محمد- فمصاب بمرض معروف علميا باسم «مرض الوطن-Home sick» بمعنى أنني لا أطيق بعداً عن وطني وبيتي..
** يرتفع صوته بالضحك.. ثم يكمل:
تخور قدرتي على الحياة، حين أكون بعيداً عن وطني. يسوّر قلبي طين الحزن، وتعجز الأمكنة والمتع أن تهزني. حتى وأنا مسافر مع أسرتي وأحبتي، فإن شيئاً من حزن يمسك بقلبي وروحي ويربط لساني ونظرة عينيّ. لذا فأنا قبل أن أسافر إلى أي مكان أهاتف أصدقائي استعين بهم كي يحموني من غول وحدة الغربة!
** في دهشة.. أسأل طالب:
عبير:
كيف ذلك!! ألا تحب السفر بنية التغيير؟
طالب:
أنا «بيتوتي» أعشق بيتي، وفراشي وأكلي ومخدتي ومكتبتي ولوحاتي التشكيلية، لأصدقائي الفنانين العرب والأجانب. وفي كل مرة انتقل من بيت إلى آخر، تخرّ دمعتي، فأنا أودّع جزءاً من عمري في مكان سأتركه. الأماكن سجل أرواحنا الصامت، وكل مكان نعيش فيه يعيش فينا. تحنّ روحي لأماكن أعرفها وأماكن أحلم بها. والآن وأنا أعيش حرب عنف وحشي يأكل شباب وبساتين بلادي العربية، تحنّ روحي لبيوت أصدقاء عرب زرتها وارتفعت فيها قهقهات الفرح العابر. تحنّ روحي لأهم مسكن عرفته، تحنّ روحي دوماً لوجه أمي، يرحمها لله.
** قريبا منا.. يمر شاب برفقة فتاة جميلة يتبادلان الحديث بشوق.. فيما كانت تستمع الفتاة إليه بقلب مفتوح.
عبير:
كم يبدو الحب هنا طليقا.. مسترخيا.. أذكر بأنني ذات يوم خرجت لأشتري بعض الحاجيات من سوق مشهور في مدينة الخبر التي أسكنها.. وقد لمحت رجل برفقة امرأة - ربما كانت زوجته - لا أعلم.. ولكن كانا يتبادلان الأحاديث بحميمية شديدة، ذلك الدفء لفت أنظار بعض المارة إليهما فأصبح البعض يتلصص عليهما على الرغم من عدم وجود تصرف يسئ لهما.. أظن بأنه في مجتمعاتنا.. يولد الناس وهم محاربون للحب.. يتلصصون على العشق كما يتلصص خبير في الاستخبارات كي يوقع بفريسته.. مجتمع لا يحترم العشق.. ومدن لا تحترم عشاقها.. الحب هنا يتيم، مقتول حتى حينما يكون حبا صادقا نزيها.
طالب:
دعينا نعيد صياغة شيءٍ من كلامك: في مجتمعاتنا يولد الناس والحب في شرايين قلوبهم، تحتضن الأم طفلها، ويبكي لحظة يشعر ببعد خفق قلبها عنه.. ما أن نفتح عيون وعينا حتى نبدأ باستيعاب الظلم، فمجتمعاتنا تجرّم الحب. مجتمعاتنا تحارب الحب النقي الصريح، منذ هام قيس بليلى ومن قبل ذلك.. لك أن تحب أي فتاة خلسة، وتتصل بها خلسة، وتجلس معها خلسة، وخلسة بخلسة.. والويل لك، لو أحببت فتاة في العلن، وجلست معها في العلن.
الشجاعة في الحب حب، ومن لا يقدر على الشجاعة في الحب، فهو أقل من أن يُقال عنه محب!
** أرفع أصبعي باتجاهه كمن يعلن التآمر عليه..
عبير:
هل يعني ذلك بأنك أحببت -يا طالب- وامتلكت الشجاعة للإعلان عن حبك؟
طالب:
نعم أحببت، ونعم قلت أحبك لمن أحببت، وجاهرت بحبي بوجه من رضا وبوجه من غضب، وتزوجت حبيبتي ولم أزل أعش معها بحب. نغضب ونحتد في كل يوم ونتصافى في كل يوم. هو الحب «من دا ودا».
** يرتفع صوت «محمد» مقهقها.. ثم يقول:
محمد:
أظن -يا طالب - بان الناس لا يحاربون الحب بل الأجساد، نحن نرى الأشياء بالجسد المتحرك منها تنطلق كل الشعارات باسم الدين والعادات والتقاليد وهذا ما يشكل مفاهيم المجتمع، فنحن شعوب نخبئ الحب خلف أصابعنا فهو جزء فاتن عند الرجل بينما بقى تحت ظل الشرف بصوت مبحوح، وللعلم أنا لا أحب الحديث عن الحب لأنه لا يسمو بي بينما كل ما نحتاجه أن نتعامل معه كفعل، مثل السينما يجب أن يعري المجتمع ويترك الأسئلة مفتوحة، ولأنني جزء من فضاء هذا العالم كوني لازلت لم أنس أن أتنفس فأنا أعيش الحب بفتنة أكبر من قبل وأستطيع أن ادعوه للعشاء على طاولة في كل مطعم في العالم، وأستطيع أن أصحبه لكل شارع في العالم.
** أسرع إلى «محمد» بفكاهة.. أجلس على المقعد الخشبي وأسأله في دعابة:
عبير:
إذا.. هل ستخبرني كيف هي تلك المرأة التي دخلت معها مدن العشق؟ وكيف هو رائحة العطر الذي احدث ذلك الانقلاب العاطفي بينكما؟
محمد مبتسما:
كنت قديما في قلب امرأة لا أعرفها قبلي، لكن الآن أنا أعرفها جيدا وما أظنها بالضبط بأنني لن أموت يوماً فكل ما سيحدث هو بالضبط بأننا يمكن أن نغيب عن طين أجسادنا فقط، وبخصوص العطر أعتقد تمنيت لفترة طويلة أن أعيش كما شخصية غرنوي في رواية العطر للكاتب باتريك زوسكيند.
طالب:
العاشق لا يرى صورة المعشوق، وإلا ما عاد عاشقاً. العاشق مجنون بهيئة عاقل، وهو في دهشةٍ وإعجاب تجاه كل ما يرتدي الآخر. وبالنسبة لي فليس أطيب إلى قلبي من عطر الياسمين، هذه الوردة البيضاء التي تصرّ على العيش قرب الإنسان!
** أنهض.. أحمل حقيبتي بين يدي.. أراقصها في الهواء.. أرفع قدمي عن الأرض ثم أترك الأخرى تغني.. أهدأ.. أضع حقيبتي على ظهري.. أقول:
عبير:
لكل إنسان حظ ونصيب من اسمه.. وأنا كذلك..
محمد:
لدي قناعة مفاهيمية بأني موجود من آلاف السنوات ربما قبل ذلك كان لدي صفة أكثر من كونه أسم فقط، وما تشكل بعد ذلك في حياة الدنيا هو وجود اسم ارتبطت فيه وفي ذلك أجد نفسي في سطوة الممكن مع الاسم فأنا أستخدم الاسم الثلاثي كما هو في كل مكان وأرفض حذف اسم ما في أي مناسبة أو فعالية كأنني أفقد مع اسمي نفسي، وبخصوص الصفات التي تتبعني فأظن دون سواء بأن لاسمي صفة مهنية وهو بأني بائع سكّر في المدن المالحة فقط.
** يرتفع صوتي مع صوت طالب بالضحك..
طالب:
أما أنا.. فاسمي طالب... وبقى لي الكثير الكثير من الطلبات، فأنا اليوم على أعتاب البدء بدراسة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في مادة جديدة هي «الكتابة الإبداعية»، ولقد انتظمت قبل أشهر في جامعة بريطانية طالباً مستجداً أحمل دفاتري وكتبي ومعهما أحمل كمبيوتري الشخصي، أنصت لمدرستي، وأستمتع بتعلم الجديد. كما أنني أطلب من طالب أن يكتب نصاً إبداعياً يحلم به. وبقى لي وبقى لي وبقى.. العمر بدون بقية حلم متجدد ليس عمراً. والغد يكون أجمل بانتظارنا لحلم أخضر قادم. وطني العربي يعيش لحظة مخاض عسير، ولا يمكن لعاقل أن يحتمل أوجاع وعنف ووحشية وظلمة هذه اللحظة إلا بكسرة حلم مؤمل!
** ينظر «محمد» للساعة التي بمعصم يده.. ينهض..
أقول له:
عبير:
أشم رائحة الغياب من خلف أصابعك؟ هل ستتركنا؟
محمد:
لا شيء خلف أصابعي أبدا، وكل الأشياء التي أتركها حين أغادر هي كالرسومات الصغيرة الدافئة على دفاتر الدار، ففي الفريج القديم تركت الرمل الذي شكلته مرارا وادخلته معي بعض الهواجس، وبعدها ذهبت إلى الأبواب وكأنني أخذت الباب معي كثيرا لنزهاتي، والآن بالضبط كل ما أتركه هو الهدوء أو ربما بعض الأحلام لكل من لا يمتلك سريراً، ولأنني لا أعود أبدا وأحب هذا الفقد في الحياة وكأن الآخر يكتشفني من جديد أو ربما أنا نفسي أحتاج أن أخضخض الكرة الأرضية حين أبحث عن نفسي في كل مرة، وحتى لا ابالغ يمكن لأي شخص أن يجدني في جوجل.
** طالب.. يستعد للمغادرة:
الغياب -يا عبير- صرخة محبوسة تحرق قلب صاحبها، الغياب جرح كلما خلته اندمل أدمته صدمة صغيرة لم تكن تتوقعها. الغياب موت في الحياة وحياة في الموت.
آخذ معي ذكريات من كل لون، واترك خلفي وداع محب!
** أودعهما.. تختفي أجسادهما خلف المارة.. أنظر إلى السماء.. الغروب يتلاشى خلف الغيوم. أتأمل بحيرة زيلامسي.. أجرب أن أكتب بأصبعي في الهواء..
«هنا.. كان البوح أشهى من أشواق الأوز.. وأعلى من أشرعة القوارب»..
أحمل أحلامي بجيوبي.. أسير بمحاذاة السور الخشبي بعد أن أترك مغلف الإعلانات التسويقية على المقعد.. وشيئا من الكلام في أقصى زاوية من شمال القلب.
طالب مع محمد حسن علوان في الملتقى الثقافي في بيته
طالب مع زوجته شروق في بحر الكويت
في أحد الكراشات وهو المكان المفضل لمحمد للتصوير
طالب مع ابنته فاديا في ليفربول
جائزة أفضل سيناريو. مهرجان الخليج 2009
طالب مع بناته وأحفاده
طالب مع زوجته وابنته في رحلة سفر
الجائزة الفضية لأفضل فيلم بمهرجان روتردام للفيلم العربي 2008 م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.