سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    أمطار متوسطة إلى غزيرة على معظم مناطق المملكة    جهات محلية ودولية تناقش الاستدامة البيئية والفرص الاستثمارية    "ريمونتادا" مثيرة تمنح الرياض التعادل مع الفتح    محرز: هدفنا القادم الفوز على الهلال    "روشن 30".. الهلال في مواجهة التعاون والاتحاد أمام أبها    تزويد "شات جي بي تي" بالذاكرة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    شراكة بين "البحر الأحمر" ونيوم لتسهيل حركة السياح    بدء تحقيق مكافحة الإغراق ضد واردات "ستانلس ستيل"    ربط ميناء جدة ب "بورتسودان"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    بدء إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونياً    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    "جوجل" تدعم منتجاتها بمفاتيح المرور    نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    فصول ما فيها أحد!    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    «الاحتفال الاستفزازي»    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    شَرَف المتسترين في خطر !    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    كيفية «حلب» الحبيب !    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    "التخصصي" العلامة التجارية الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«حرامية» المال العام..«ما شبعتوا»!
الاتهام غير كافٍ من دون «كمين» الجرم المشهود ومحاكمتهم والتشهير بهم أمام الملأ
نشر في الرياض يوم 05 - 11 - 2014

تبذل الجهات الرقابية في المملكة (هيئة الرقابة والتحقيق، ديوان المراقبة العامة، هيئة مكافحة الفساد) دوراً مهماً وبارزاً للحفاظ على المال العام من السرقة والنهب، وتحديداً مع فائض الميزانية، من خلال مراقبة المصروفات والإيرادات والتأكد من حسن استخدامها في قنواتها الرسمية، وفق إجراءات محاسبية محددة قبل وبعد الصرف، وهو ما عزز من رقابة الأداء ورقابة الالتزام أثناء ممارسة العمل الرقابي لكافة العقود.
وعلى الرغم من تلك الجهود -التي تأتي ضمن اهتمام الدولة في حفظ المال العام ووقايته، وسن الأنظمة الرادعة لكل متطاول-، إلاّ أن ما هو كائن يختلف عما يفترض أن يكون، وبالتالي لا تزال التجاوزات موجودة وبأرقام فلكية، والدليل القضايا المنظورة في هيئة الرقابة، ومكافحة الفساد، وديوان المراقبة، ولكن اللافت أن أمد هذه القضايا يطول لأشهر وربما سنوات، حيث تختلف الطرق التي تؤدي إلى التثبت من سرقة لصوص المال العام، ووضع الكمائن باعتبارها أولى الخطوات لتجريم اللصوص.
تحقيق «الرياض» يناقش سارقي المال العام، وكيفية إثبات سرقتهم ودور الجهات الرقابية في ذلك.
نقمة الموارد
في البداية أوضح "د.عبدالرحمن بن محمد السلطان" -أكاديمي وخبير اقتصادي- أنّ الفساد مشكلة تزداد حدة وتغلغلاً في القطاعين العام والخاص، وتأخذ أشكالاً مختلفة تمتد من مجرد المحسوبية واستغلال الموقع الحكومي لتحقيق أغراض شخصية، وتمتد إلى خيانة الأمانة، والتعامل بالرشوة، مؤكّداً على أنّ في أدبيات الاقتصاد هناك ما يعرف ب"نقمة الموارد"، والذي يقصد به تدني معدلات النمو الاقتصادي، وتفاقم المشكلات الاقتصادية في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية، مقارنة ببلدان تعاني من نقص شديد فيها؛ بسبب انتشار الفساد في ظل سهولة ويسر تدفق الموارد المالية الذي تتيحه وفرة الموارد الطبيعية، وبالتالي -وعلى عكس ما قد يظنه البعض- فإن إدارة الاقتصاد في وقت الوفرة المالية أصعب بكثير من إدارته وقت تراجع الإيرادات؛ بسبب ما يصحب هذه الوفرة المالية من ارتفاع في معدلات الفساد ونهب المال العام.
وقال:"مررنا بطفرة مالية طويلة نسبياً فمن الطبيعي وفي ظل عدم وجود أنظمة صارمة لمحاربة الفساد وفي ظل ضعف الجهات الرقابية وهامشية دورها أن يكون هناك استشراء خطير للفساد"، لافتاً إلى أنّ ما زاد من حدة هذه المشكلة أنّ هيئة مكافحة الفساد ولدت ضعيفة محدودة الصلاحيات، فكل عملها أنّها ترسل خطاباً للجهة الإدارية بملاحظاتها، وفي الغالب ينتهي الموضوع عند هذا الحد، بينما كان الواجب -كما هو ممارس في الدول التي بها هيئة محاربة فساد فاعلة- أن تتولى الهيئة بنفسها التحقيق في حالات الاشتباه بالفساد، وعدم ترك الموضوع للجهة الإدارية، وأن تمتلك الهيئة صلاحية ملاحقة المشتبه في فسادهم، بما في ذلك إصدار أوامر القبض، والإيداع في السجن، وتجميد الأموال، والمنع من السفر، وكف اليد عن العمل، مشدداً على أنّ هيئة مكافحة الفساد لا تملك أي من ذلك؛ لذا لا تخيف أحداً، معتبراً أنّ وجودها لا يشكل أي إضافة حقيقية للأجهزة الرقابية في الدولة.
الدولة أنشأت الأجهزة الرقابية ودعمت توجهاتها ولكن لا يزال هناك خلل في التطبيق.. وطول فترة التحقيق
الشر الأساس
وبيّن "د.فواز العلمي" -خبير في شؤون التجارة العالمية- أنّ رئيس منظمة الشفافية الدولية وصاحب كتاب "شبكة الإرهاب" توصل خلال عمله طوال ربع قرن في البنك الدولي إلى أنّ الفساد يمثل الشر الأساس لأقوياء السلطة في عصرنا، وأنّ الفساد موجود في كل مكان، ولا بد من مواجهته بشفافية تامة تشمل كافة أرجاء العالم، مشدداً على أنّ ذلك يقتضي وقف استغلال الأقوياء للسُلطة التي لا يستحقونها ومساعدة الضعفاء على استغلال الفرص التي يستحقونها، مبيناً أنّ بعد مغادرته البنك الدولي -قبل (10) سنوات- أسس منظمة الشفافية الدولية، التي أخذت على عاتقها محاربة الفساد بصفته آفة العصر الأولى، فاليوم تملك المنظمة (103) أفرع في (100) دولة وتراقب مستوى الشفافية في (183) دولة، لتُصدر تقاريرها السنوية الموثوقة، وأصبح هدف المنظمة يصب في توفير مناخ الشفافية والاستشراف على أرض الواقع، ونشر الوعي العالمي بحجم الأضرار الناتجة عن الفساد في كافة المجالات ومختلف الدول، خاصةً في مجال البُنية التحتية للدول النامية وتركيز الاهتمام على الكوارث البيئية والتنموية الناتجة عن الفساد.
وقال إنّ منظمة الشفافية الدولية فريدة من نوعها، لكونها أكبر منظمة غير حكومية في العالم تعنى بهموم الفساد، ولأنها أخذت على عاتقها مكافحة ظاهرة الفساد التي تعد العائق الأكبر أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي في أنحاء العالم، لافتاً إلى أنّه بمقتضى هذا المفهوم لا بد لهيئات الرقابة المركزية لمكافحة الفساد أن تكون ممثلة في المجتمع المدني؛ لكي يتم التأكد من تحقيق أعلى درجة من الشفافية في التعامل مع الأموال العامة، منوهاً بأنّ مؤشر منظمة الشفافية الدولية يضم (183) دولة ويتدرج من نقطة واحدة إلى عشر نقاط، مؤكّداً على أنّ الدولة شديدة الفساد تحصل على نقطة واحدة، بينما الدول التي ينعدم فيها الفساد تحقق عشر نقاط، موضحاً أنّه خلال عام واحد -قبل انتفاضة شعوب الربيع العربي- تراجعت تونس من المرتبة (59) إلى المركز (73)، ومصر من المرتبة (98) إلى المركز (112)، وكذلك سورية التي تراجعت من المرتبة (127) إلى المركز (129)، كما تراجعت اليمن وليبيا من المرتبة (146) إلى المركز (164) والمركز (168) على التوالي.
وأضاف أنّ منظمة الشفافية الدولية أكّدت على أنّ عدم توفر مفهوم المحاسبة في الدول العربية كان أكبر مشكلة تواجهها دول الربيع العربي، موضحاً أنّه في هذا العام تصدرت الصومال الدول الأكثر فساداً في العالم، وحصلت على نقطة واحدة فقط، كما جاء السودان والعراق أيضاً بين أكثر عشر دول تعاني من الفساد، حيث جاء السودان في المركز (177)، بينما جاء العراق في المركز (175)، أما أقل الدول فساداً فكانت نيوزيلندا، بينما تنافست الدنمرك وفنلندا على المركز الثاني، مشدداً على أنّ المنظمة لاحظت بأنّ الدول الأكثر شفافية في العالم تكون أقل فساداً من غيرها؛ لذا تأتي معظم الدول العربية في قاع المؤشر، لانعدام الشفافية فيها، فأصبحت الأكثر فساداً في العالم مثل الصومال التي جاءت في المركز (182) والسودان في المرتبة (177) والعراق (175) واليمن (164)، ثم موريتانيا (143) وجزر القمر (143) ولبنان (134) وسوريا (129) والجزائر (112) وجيبوتي (100) والمغرب (80) وتونس (73).
وأشار إلى أنّه للقضاء على سلطة الفساد ركزت منظمة التجارة العالمية جهودها على تطبيق مبدأ الشفافية في المشتريات الحكومية، وذلك إسهاماً منها في التعبئة الدولية ضد الفساد، حيث أنشأت في عام 1996م فريق عمل يضع معايير الشفافية الدقيقة في الاتفاقات التجارية الدولية، وفي عام 1997م اعتمدت مجموعة الدول الأميركية اتفاقية خاصة لمكافحة الفساد وصياغة قوانين الشفافية النموذجية لتجريم الفساد وتأديب الموظفين، وفي 1998م صاغت دول الاتحاد الأوروبي (20) مبدأ للشفافية لمكافحة الفساد، إضافة لإنشاء جهاز للتعاون والمساعدة التقنية وتبادل المعلومات وتقييم أداء الأجهزة الحكومية، مشدداً على أنّه علينا تطبيق مبادئ الشفافية لنقضي على سُلطة الفساد في وطننا العربي.
ضعف المسؤولية
ورأى "د.ممدوح الروحاني" -مستشار وباحث في اقتصاديات الإعلام والتسويق- أنّ النظرة ينبغي أن تكون أشمل من مجرد المبالغ المالية المخصصة كميزانيات أو بنود مالية ومادية يتم أحيانا التجاوز عليها، حيث يفترض أن تقوم الأجهزة المحاسبية والرقابية بواجبها للتأكد من سلامتها، وإحالة من يتعدى عليها إلى الجهات المعنية، معتبراً أنّ الجزء الأهم هو ما يوفر في البلد من مرافق وأجهزة ومنشآت وخدمات عامة، لافتاً إلى أنّه من هنا نشهد الخلل الأكبر بين علاقة الفرد والمال العام، حيث يلاحظ ضعف إحساس الفرد بالمشاركة والمسؤولية تجاه هذا النوع من المال العام، مبيّناً أنّ ضعف إحساس الفرد بمسؤوليته تجاه المال العام، والمنشآت العامة تحدٍ هام يواجه معظم المجتمعات النامية؛ حيث يفتقد الكثير من أبناء المجتمعات الإحساس، فالمسؤولية تجاه الممتلكات المادية والمكونات المعنوية في بلده زمن، ثم تتكون لديه نظرة قاصرة بأن كل ما وضع أو أنشئ من حوله -خارج منزله- لخدمته هو فقط، دون تطور هذا الإحساس، لافتاً إلى أنّ المال العام جزء من المكتسبات الوطنية التي يتشارك فيها مع الآخرين في حق الإفادة منها، وواجب الحفاظ عليها، معتبراً أنّ هذا الوعي غير الناضج يفرز مجموعة من السلوكيات السلبية، ابتداء من عدم اهتمامه بنظافة مدينته، ومروراً بعدم اكتراثه بالصورة التي يعكسها عن مجتمعه، ووصولاً إلى الاستهتار بالمال العام والمنشآت العامة، واعتبارها مشاعة له ومن حقه التعامل معها كيفما شاء.
وقال إنّ الخلل في أساس الشخص تربوي، وناتج عن عدم نضج الحس الوطني لدى الكثير، فعندما يتعلق الموضوع بالمبالغ المالية فإن الجميع يدرك بأن التصرف فيها بغير وجه حق أو سرقتها جريمة قانونية وارتكاب لمحرم، ويعي التبعات الأخلاقية والقانونية والوجدانية لمثل هذا الفعل المشين؛ لذا من يقوم بهذا الفعل يكون مدركاً تماماً لحجم الخطأ الذي يرتكبه، أما فيما يتعلق بسائر أشكال وأوجه المال العام مثل المنشآت والطرقات والمرافق والتجهيزات، فإن الكثير للأسف لا يشعرون بخطورة ما يقومون به، وأصبح من الطبيعي أن ترى راشداً في المجتمع يتصرف بأساليب تتسبب في خسائر مالية مباشره لخزانة الدولة، دون أن يشعر بأي تأنيب للضمير، وبالتالي هو يربي أبناءه بالطريقة نفسها، فتتكرر الحالة وتتضاعف الخسائر، منوهاً بالنظر إلى طريقة استخدامنا للطرق، للمتنزهات، وأجهزة الصراف، والمرافق والأجهزة بالدوائر الرسمية، حيث إنّ الكثير من مكوناتها تهلك وتصبح غير صالحة للاستخدام قبل انتهاء نصف عمرها الافتراضي، مؤكّداً على أنّ هذا يسبب هدراً كبيراً جداً ومباشراً للمال العام، والخسائر تصبح مضاعفة.
وأشار إلى أنّ الحاجة ماسة لغرس مفاهيم المسؤولية والمواطنة الحقيقية في نفوس النشء، مطالباً المؤسسات التعليمية والمدارس أن تدرك بأن دورها لا يقتصر على تدريس المعرفة العلمية فحسب، بل عليها تطوير السلوك وتعليم المهارات، ومن أهمها السلوك المسؤول تجاه الوطن، مبيناً أنّه إذا نجحنا في تقديم هذا المثلث التربوي "المعرفة والسلوك والمهارات" نستطيع أن نتأمل تطوراً في تعاملنا الإيجابي مع جميع مكونات المجتمع، وفهماً صحيحاً وناضجاً للمواطنة، مشدداً على وجوب أن نعترف بأننا نجني ثمار نمط معين من العلاقة النفعية بين الفرد والمؤسسات، والتي ترسخت عبر عقود من الزمن في ذهن الكثير من أبناء المجتمع، منوهاً بضرورة تطوير المفاهيم لتصبح علاقة شراكة وملكية، إلى جانب لفت انتباه الأفراد وتذكيرهم بأن هدر المال العام بسبب سوء السلوك لا يختلف كثيراً عن سرقته، مطالباً بوضع قوانين واضحة وعقوبات رادعة تحت بند هدر المال العام، وتفعيلها بصورة عملية محسوسة؛ مما سيكون له أثر كبير في انضباط السلوكيات المؤدية لإتلاف وإهدار المال العام، خصوصاً وأنّ المملكة تشهد الآن استثمارات جبارة في البنى التحتية.
مناعة داخلية
واعتبر "د.علي بن عبدالله البكر" -عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بقسم علم النفس ومتخصص في الإرشاد والعلاج النفسي- أنّ الطرق المؤدية لكمين السارق تختلف بحسب طبيعة السرقة وظروفها ومعطياتها، وكذلك خصائص السارق ودوافعه ورغباته ومدى تمرسه في مجال السرقة، مشدداً على ضرورة دراسة الوضع بشكل متكامل، بناءً على معلومات يتم من خلالها التعرف على الموقف وتفسيره، وبالتالي تقدير الدوافع ووضع الخطط المناسبة للتعامل مع الموقف، مؤكداً على أنّ هناك نوعاً من السرقات ترتبت على نوع من الإهمال أو التفريط من الجهات المسروقة، وهناك سرقات جاءت عفوية؛ لكون السارق أمن العقوبة، وربما أصبحت جزءاً من تفكير المنظومة التي ينتمي إليها، مشدداً على أنّ هناك سرقات إجرامية تقوم على خطط وتنظيم يشارك فيها مجموعات أو عصابات ترتبط بشبكات على مستوى كبير، وقد يكون ممتداً في جهات عديدة.
وأضاف أنّ التقنية الحديثة وقواعد المعلومات وطرق الرصد والمتابعة أصبحت مطلباً مهماً في مجابهة السرقة، وكشف خفاياها باستخدام التطبيقات والفنيات المستخدمة علمياً في كشف السرقة، من خلال ردود الفعل، وقراءة ما يحدث على مستوى الجهاز العصبي، وتخطيط المخ، خاصةً في المقابلات الخاصة بالجريمة، مبيّناً أنّ جانب الفساد والسرقة نسبي ولا يمكن أن نصل به إلى حد العدم مهما عمل ويعمل من أسباب لمحاربتها، إلاّ أنّ الوقاية مطلوبة من خلال نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، وغرس المبادئ والقيم التي تحارب الفساد وتضبط السلوك، بالتالي تبني المجتمع الصالح، لافتاً إلى أنّ الثواب والعقاب له دور في تعزيز السلوك الإيجابي.
وأشار إلى صعوبة المهمة بسبب المثيرات والدوافع التي قد تؤثر على الأشخاص وتدفع بهم إلى السرقة، والتي ازدادت بحكم تعقد الحياة وكثرة ضغوطها مع تغير نمط التفكير في التعامل معها، كما أنّ الاطلاع على الخبرات المتعلقة بذلك على مستوى العالم والمشجعة على ممارسة الفساد يزيد الطين بلة، مستدركاً: "لكن المرجع الأول والأخير في ذلك هو ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة عبر وسائل التربية الحديثة، لنبني الفرد ونحميه من داخله، ويكون لديه مناعة كافية لتحصينه في كل زمان وأي مكان".
استغلال السُلطة لمكاسب شخصية يُفقد الجميع الثقة
رأى "د.فواز العلمي" أنّ الفساد هو سوء استغلال السُلطة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، ففي تاريخنا المعاصر أصبحت سلطة الفساد قوة اقتصادية لا يستهان بها، لافتاً إلى أنّه في العام الماضي فقط تسبب الفساد في خسائر فادحة غير مسبوقة بلغت أكثر من (1300) مليار دولار في العالم، لتساوي (4%) من الناتج العالمي الإجمالي، و(12%) من حجم التجارة العالمية، وكانت حصة العالم العربي (40%) من إجمالي هذه الخسائر.
وقال إنّ سلطة الفساد ثلاثة أنواع: الأول فساد عرضي يحدث عند قاعدة الهرم الحكومي من قبل صغار الموظفين، والثاني فساد نظامي يتم حين تتحول الإدارة إلى تنظيم فاسد تديره شبكة مترابطة ومكونة من مدير الإدارة ومديري المشروعات والمدير المالي، والثالث فساد شامل، وهو النهب الواسع للمال العام عن طريق الصفقات الوهمية وتحويل الممتلكات العامة إلى مصالح شخصية.
وأضاف أنّ القاسم المشترك بين هذه الأنواع هو وحدة الهدف المتمثل بتحقيق أقصى المنافع من سُلطة الوظيفة وبطرق غير مشروعة، لافتاً إلى أن في معظم المجتمعات تتصدر سلطة الفساد قيم العمل الخاطئة، مثل عدم احترام الوقت والتراخي في تطبيق النظام وعدم الالتزام بالقرارات وإفشاء الأسرار واستخدام الغش لإنجاز الأعمال ورفض تحمل المسؤولية، وإصدار التعليمات المخالفة للنظام والجمع بين وظيفتين أو أكثر في نفس الوقت، والاعتماد على الوساطة والمحاباة لتسهيل الوصول إلى الأهداف.
وأشار إلى أن جميع هذه الثقافات تؤدي إلى خلل كبير في أخلاقيات المجتمع وفقدان الثقة لدى الفرد بأهمية العمل وقيمته وتراجع هيبة النطام العام، وتصبح التجاوزات هي الأصل واحترام النظام هو الاستثناء مما يؤدي إلى زيادة فجوة عدم الثقة بين الجمهور وأجهزة الدولة.
مكافحة الفساد مثل «الدرج».. تبدأ من الأعلى!
اعتبر «د. عبدالرحمن بن محمد السلطان» أنّ من أبرز أسباب تفشي الفساد في البلدان النامية -خاصة الغنية بالموارد الطبيعية- هو تدني مستوى كفاءة وفاعلية القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية؛ نتيجة وفرة الموارد وعدم وجود حاجة ملحة لتحقيق أداء عال الكفاءة، ما انعكس بدوره على مستوى أداء تلك الأجهزة، وأوجد بيئة يستشري فيها الفساد، ولا تساعد على محاسبة المقصر ومكافأة المجد.
وقال:»أصبح ما يتحقق من أداء -ومهما كان متواضعاً مقبولاً- لا يُعتقد بإمكان تحقيق أفضل منه، أو أن للقصور في الأداء دورا في حدوث مشكلة كان من الممكن تفاديها، لولا افتقار القائمين على الجهاز لروح المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات الجريئة في الوقت المناسب، وإلى حرصهم الشديد على عدم الاصطدام بالمصالح الشخصية للمتنفذين، حتى لو تعارض هذا الموقف بشكل سافر مع المصلحة العامة وكفاءة وفاعلية الجهاز الذي يديرونه».
وأضاف أنّه قبل عدة سنوات وفي لقاء نظمه منتدى الرياض الاقتصادي استضاف فيه السيد «لي كوان يو» -رئيس وزراء سنغافورة السابق، أحد أنجح محاربي الفساد والمخططين الاقتصاديين في العصر الحديث-، وصاحب مقولة «مكافحة الفساد مثل تنظيف الدرج تبدأ من الأعلى أولاً»، حيث تحدث السيد «لي» في هذا اللقاء عن معايير ثلاثة وضعها لاختيار المسؤولين في الدولة لضمان امتلاكهم القدرة والتأهيل الذي يمكنهم من القيام بمهامهم بكفاءة، أولها: أن يمتلك المرشح القدرة على التحليل، بمعنى أن يكون قادراً على استيعاب الواقع من حوله؛ مما يجعله قادراً على تشخيصه ووضع الحلول المناسبة المصاغة بشكل سليم، الثاني: الواقعية، أو كما قال «أن تكون رجلاه على الأرض دائماً»، أي أن لا يكون حالماً أو لا يعرف حدود ما يمكن القيام به في ظل الموارد المتاحة؛ لذا فهو يستخدمها بكفاءة وحكمة، والمعيار الثالث: امتلاك القدرة على قراءة المستقبل والتخطيط له، بحيث لا يقف جامداً دون حراك ليتفاجأ بالأزمات تتالى أو يفشل في التخطيط لاقتناص وتعظيم القادم من الفرص.
وأشار إلى أنّ تدني مستوى أداء العديد من الأجهزة الحكومية بما فيها الأجهزة الرقابية هو المسؤول عن استشراء الفساد، مبيناً أنّ الحل ليس في إيجاد أجهزة جديدة، بل البحث عن مواطن الخلل التي أوجدت البيئة المساعدة على تفاقمه وحد من فعالية الأجهزة الرقابية، مؤكداً على أننا في أمس الحاجة إلى مراجعة المعايير التي يتم على أساسها اختيار القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية؛ مما يضمن تحسن أداء أجهزة تنفق عليها الدولة بكل سخاء، وتُوفر لها مختلف الإمكانيات التي كان من المفترض أن تعينها على أداء مهامها، لو واكب ذلك قيادات إدارية كفؤة، فالحل دائما وأبدا في علاج المشكلة نفسها لا في علاج أعراضها.
السارق مريض نفسي و«إقامة الحدود» أنجع الحلول
بيّن «د.علي بن عبدالله البكر» أنّ السرقة مرض نفسي سلوكي مزمن في جسد المجتمعات، تتغير نسبته وانتشاره من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى غيره، ويصعب أن يتم القضاء عليها أو أن تختفي لدرجة الصفر؛ لارتباط هذا المرض بكثير من المتغيرات النفسية، والتربوية، والسلوكية، والاجتماعية، والشخصية، موضحاً أنّ حد السرقة -كما ورد في القرآن الكريم- يعكس عظم الجريمة وخطورتها، وأثرها على الفرد والمجتمع؛ لما تشكله من تهديد للأمن، وانتشار للفوضى، وانفلات في القدرة على تحمل المسؤولية تجاه النفس والآخرين، لافتاً إلى أنّ حياة الفرد يفترض أن تقوم على المساهمة في بناء الحياة المتزنة، القائمة على المبادئ والقيم الإسلامية الصحيحة.
وقال إنّ السارق يعاني من اضطراب نفسي، ويدل على فشل في إشباع الحاجات بطريقة سليمة، ومن هذا المنطلق قد يلجأ إلى السرقة، إلى جانب ضغط الاهتمام بالجانب المادي وسيطرته عليه الذي قد يصاحبه شيء من الشح والبخل؛ مما قد يدفعه للسرقة، بالإضافة إلى بعض الممارسات التي قد توجه السلوك نحو السرقة، كالتبذير أو الصرف غير المقنن، خاصةً إذا ارتبط بحالات غير طبيعية، كالإدمان وغيره من السلوكيات الشاذة وغير الصحية، فهي تشكل جانباً ضاغطاً على صاحبها، ليجد نفسه متوجهاً إلى السرقة كحل لمشكلته وحاجته المالية، مؤكّداً على أنّ المشكلة في الواقع لا تحل، بل تكبر، حيث يعالج مشكلة بمشكلة أكبر، لافتاً إلى أنّ العمل الخاطئ لا يمكن أن يكون مصدر إشباع أو سعادة؛ لتعارضه مع تعاليم الدين، قال تعالى: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا».
وأضاف أنّ للفرد والمجتمع دوراً كبيراً في المشكلة وحلها، حيث تعتبر ثقافة المجتمع محركاً أساسياً لسلوكيات أفراده وكذلك ضابطة لها، موضحاً أنّ بعض المجتمعات يمكن أن تشجع على السرقة باعتبارها نوعاً من القدرة والذكاء أو الشجاعة، وقد تربط بقوة الشخص وضعفه، ولهذا على المجتمعات أن تنشئ أبناءها على القيم التي تحمل الأمانة، والصدق، والوفاء، والإخلاص، وفق التوجيه الشرعي الذي يحفظ الحقوق ويؤكّد على الكسب الحلال، وعدم التجرؤ والتجاوز قل أو كثر، مبيناً أنّ دور الفرد فهو المسؤول الأول عن نفسه وعن تصرفاته؛ لذا نتوقع منه أن يفكر بطريقة عقلانية تحفظ عليه دينه وتوجهه إلى اتباع السبل المناسبة للكسب الحلال، وعدم الرضوخ للنفس ورغباتها وإتباع الهوى والشيطان، لافتاً إلى أنّ التوازن بين الحاجات والدوافع وطرق الإشباع مطلوب أن يكون في إطاره الشرعي الصحيح، فالدين دل على كل خير، وحذر من كل شر، ويجب أن يكون الإنسان بصيراً بنفسه، مشدداً على أنّ إقامة الحدود وإشهارها ومنها حد السرقة لها دور كبير في تفعيل دور الوقاية والعلاج.
د.فواز العلمي
د.علي البكر
د.ممدوح الروحاني
د.عبدالرحمن السلطان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.