في شهر سبتمبر 1883 م غادرت قافلة رسول بن رشيد ومعه الرحالة الفرنسي هوبر إلى دمشق بينما بقي رفيقه الألماني أوتنغ في قرية كاف مقر إقامتهم المؤقتة في انتظار عودتهم حتى يرافقهم إلى حائل بغية التعرف على المزيد من الأعراف والتقاليد التي لا تزال غريبة عليه وعلى لهجة البدو عن قرب وممارسة تمارين الخشونة كما يقول ومنها السير حافيا بعدما تكرر سرقة حذائه من بعض الرعاة ويذكر لنا ضمن هذه اليومية أنه التقى عجوزا ضمن الناجين من حمام الدم بمعركة الجوف حدثه عن ظروف النزاع حولها وقصة اخضاعها لولاية حاكم الجبل وفلاشات أخرى ذكرت تفاصيلها في كتاب (الرحالة الأوربيون) في شمال الجزيرة قال فيها : بسبب استيطاني القسري في كاف شعرت حالا وكأنني برجوازي صغير من برجوازيي القرية , فاطلعت على تلك الحياة الهادئة لقرية قانعة للبدو. بعد رحيل الغرباء الكثيرين , بدأت النساء والأطفال في الظهور تدريجيا . مما مكنني أن أراقب الحياة المنزلية اليومية . أولا وقبل كل شيء كان للسكون التام بعد ضجيج الأيام الأخيرة أثر ممتع , وبدأت أحاول قدر الإمكان أن أقوم بتأثيث القهوة بشكل مريح , فقمت بصنع طاولة باستخدام غطاء أحد الصناديق ومع سرجين لأتمكن من الكتابة والرسم بشكل مريح أكثر منه على الركبتي. ولطرد الذباب الكثير قمت بصنع مروحة من سعف النخيل . زارني اليوم رجل عجوز من الجوف اسمه خلف وروى لي تفاصيل مثيرة للاهتمام , والتي بكل أسف لم أفهمها كلها آنذاك من حيث اللغة وكذا من حيث الموضوع . وكانت حول إخضاع موطنه إلى حكم أمير الجبل في حائل . تمتعت تلك الواحة ( الجوف ) عقب غزوة ابراهيم باشا عام 1817م بنوع من الاستقلال, ولكن في أعقاب خصومات داخلية لم يتمكن أهلها من الاحتفاظ بالاستقلال لمدة طويلة, استغل طلال الرشيد أمير حائل منازعات العائلات والقبائل بها, وبعد أن ضرب على أوتار الرفق في البداية قام بإرسال عمه عبيد الملقب بالذئب في عام 1855م ( وفي رواية أخرى عام 1853م ) ومعه مدافع إلى هناك فقصف الأسوار والمنازل وسيطر على ممن كانوا معاندين تصعب قيادتهم أو حتى فقط ممن يشتبه بهم , واقتلع أشجار النخيل وقد أسس على هذا النحو بالرغم من ذلك العنف نوع من الهدوء والنظام, ومنذ ذلك الوقت تبعت الجوف إلى منطقة جبل شمر . كان خلف الرجل المذكور اعلاه ضمن الناجين من حمام الدم الكبير ذلك. ولقد تم إحضاره مع 65 من الوجهاء المتبقين لاحقا إلى حائل وهناك وضعوا في القيد بالسلاسل لمدة ستة أعوام, ولكن فيما بعد أطلق سراحه, لقد دهش كثيرا عندما سمع مني بأنني علمت مسبقا بحقيقة الحادثة الأخيرة هذه من بلغريف. وكان متلهفا لمعرفة كيف وماذا أعلمه عن شخصه, ومنذ ذلك الحين دأب الرجل على الحضور بانتظام يوميا ليؤانسني اجتماعيا. بعد وجبة مساء هذا اليوم جلست في الفناء المظلم ضمن مجموعة من زوار يدخنون النارجيلة عند مضيفي لكنني أصغيت إلى الحديث قام احد الزنوج بتقديم القهوة للضيوف, أما أنا فلم تقدم لي القهوة الا آخر الموجودين مع ملاحظة أنني لم أكن معتادا بأن يقدم لي الشيء كآخر شخص .. نهضت واقفا وقفلت عائدا إلى مكان إقامتي , وبسبب الارتباك العام استيقظ الشيخ والذي كان أثناء هذا المشهد بالقرب من المجلس. واقبل نحوي واعتذر بإلحاح شديد لعدم الاحترام الذي تلقيته مرددا ان ذلك الرجل مخلوق فظ وجاهل ولا يعرف التقدير, وإنني من أنبل الرعايا المسيحيين. وانه كان حينها نائما ولا توجد لديه أدنى فكرة عن الأمر الذي حدث واني يجب ان اقنع ان مثل هذا الأمر لن يتكرر مرة أخرى, بناء على توسلاته تحركت خارجا لأجلس معهم، ومن قهوة قام بإعدادها بنفسه تناولت أول فنجان من يده. كان لابد لي من ان أتصرف وفق ما فعلت لأن الأمر بلا ريب مع هؤلاء الناس أتخذ صفة اللامبالاة وعدم الاكتراث, وإذا ما احتمل المرء خرق التقاليد دون عتب ولوم فإنهم و إلى إشعار آخر يحكمون على كرامة ووجاهة الآخرين فقط وفق ما يقوم بحسمه هو شخصيا. عند المساء واصلت التمارين بالأقدام الحافية وقمت بتعليق حذائي بخيط على كتفي خلف القرية كان هناك خيام بدائية نصبها رعاة الضأن وبجوارها جلس بعض هؤلاء . نهض احدهم واتجه صوبي وطلب مني أن أكتب له حجابا, كنت محتارا ومترددا في كيفية تلبية هذا الطلب ثم أفهمته بأنه يجب عليه أن يحضر الي في الصباح الباكر لأرى مايلزم عمله . ثم جاء آخر أيضا وسألني لماذا تمشي حافي القدمين؟ لقد رأيتك بالفعل هذا الصباح وأنت تسير دون حذاء, وانك رجل محترم وغني ولديك بالتأكيد حذاء. أجبته : نعم .. ولكن إلى متى .؟ إلى حين تسرقونها مني , أما انا في هذه الحالة فإنني قادر على مطاردة اللص وانتزاعها منه !!