أهم تجربة تثري حياة الكاتب والمبدع - شعراً ونثراً - هي تلك المستمدة من ممارسة العمل «الصحفي».. ففي الصحافة تتعلم أشياء كثيرة.. لا يمكن للمبدع «المستقل» أو المنعزل.. أو البعيد عن الاتصال المباشر برد فعل القارئ «العادي» أن يتعلمها. لعل أولها وأهمها.. أن العمل الصحفي يخلصك من «فوقية» و«تعالي» المثقف.. المنتفخ بحصيلة قرأ في عزلته.. صحيح أنه يكون قد «تعب على نفسه».. لكنه «تعب» يمكن أن يكون ناقصاً دون الاحتكاك بالصحافة.. إن لم نقل ممارسة الركض في أروقتها. سلطة العمل الصحفي - وحدها - كفيلة بأن تخلص المبدع والفنان من «تسلط» كثير من سمات المزاجية.. ففي مكتبك «المنزلي» تكتب ما تريد.. وفي أروقة الجريدة تكتب ما تأمرك به متطلبات الساعة.. من أخبار وتحقيقات وتعليقات ومقالات أيضاً.. تصبح قادراً على تجاوز نزعة «الإبداع» الانتقائية. ففي الأخبار.. أنت لا تنتظر الخبر.. لأنه لا ينتظرك.. عليك أن تبحث عنه.. وتتكون لديك الحساسية الكافية ل«صنعه» مؤشراته التي توحي بها مصادره.. وأنت لا تنتقيه أيضاً.. لأن عليك أن ترضي فضول مختلف اهتمامات القارئ.. لذلك فإن الأمر يتجاوز رغباتك وأهواءك الشخصية. وفي «المقال» لا بد أن تكون على أعلى درجات التفاعل مع ما يطلب منك الكتابة عنه ولن نقول إنك سوف تكتب «على هوى أحد».. لكن لنقل أن من «طلب» منك الكتابة عن... أو عن... أو عن... يدرك أنك الأقدر على التفاعل مع «الشأن» الذي يتطلب الحديث عنه أو التعليق عليه. وفي التحقيق الصحفي والاستطلاع أو «التغطية» والمتابعة.. يفرض شرط العمل الصحفي أن تتخلص من «البلاغة الزائفة» وتنقي «أسلوبك» من «الشوائب الشعرية» التي يتسم بها عملك الإبداعي. وفي نهاية الأمر يكتشف المبدع والفنان.. أن سلطة الصحافة.. القت بظلالها على سمات أدواته الفنية والإبداعية.. وانعكست إيجابياً على «لغته الخاصة» التي يتعامل بها مع نصه الإبداعي.. وفي تجارب مبدعين كبار مثل همنغواي وماركيز.. نجد أن العمل الصحفي أكسب تجاربهما سمات جديدة.. حيث يؤكد همنغواي.. أن القاص والروائي يتمكن من صقل أدواته بشكل جيد من خلال العمل ك«مراسل» أو ك«محرر رياضي» وخلال عمله كمراسل «حربي» يؤكد همنغواي.. أن صعوبة الاتصال الهاتفي ومحدودية الوقت المتاح لإيصال الرسالة.. يفرض على المراسل أن يتعامل مع الحدث بمباشرة وكثير من الاختصار.. لايصال المعلومات الأساسية.. دون وجود مجال للحديث عن الانطباع الشخصي والاكتفاء بالوصف التقريبي قدر الامكان وهو نفس الشيء بالنسبة للمحرر الرياضي.. فمهما كان نوع «اللعبة» التي يكتب عنها.. فإن الأمر يتجاوز متطلبات البلاغة والإسهاب.. فأنت لا تستطيع مثلاً أن تكتب: - «رفع رأسه إلى المدرجات مستمتعاً بهتافات الجماهير.. ثم نفض «شوشته» إلى الوراء.. وداعب الكرة بحنان.. قبل أن يقسو عليها و«يمحطها» في الثمانيات» لأن مثل هذا قد يكون كافياً لدى أحد القراء للبحث عنك - ولو بعد عام - حتى يتمكن من «الدوس في بطنك» من الغيظ لا أكثر ولا أقل. وفي زماننا قبل أن نتذوق حلاوة العمل الصحفي.. وندرك أهميته ومتعته، كنا نعتبر كتاب أقسام الرياضة تحديداً هم الأدنى منزلة وشأناً.. على اعتبار أننا مبدعون وهم «حقون كورة». طبعاً لم نكن ندرك أن «المراسل أو المندوب الصحفي».. يتعلم ويفهم «قواعد» سلطة الصحافة أفضل وأسرع منا.. ولم نفهم أو ندرك أن الأقسام الرياضية هي المكان الصحيح لصقل مواهب محبي المهنة.. إلى أن رأينا ثلاثة من أنبغ وأفضل رؤساء تحرير الصحف في الوطن العربي وأعني بهم الأستاذ تركي السديري رئيس تحرير جريدة «الرياض»، والأستاذ خالد المالك رئيس تحرير جريدة الجزيرة، والمتقاعد الدكتور هاشم عبده هاشم الرئيس السابق لتحرير جريدة عكاظ.