قامت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بزيارة للمنطقة بين العشرين والثاني والعشرين من نيسان أبريل الجاري. وقد قادتها إلى كل من بغداد والمنامة والكويت. وضمن أمور عدة، كانت الدعوة إلى مساندة العراق ودمجه في محيطه الإقليمي بنداً ثابتاً في حركة رايس وتصريحاتها. وتندرج في إطار مقاربة دعم العراق العديد من القضايا السياسية والاقتصادية، بل والثقافية أيضاً. وهي تبدو في مجملها موضع إجماع واتفاق في عموم المنطقة. وحيث يتزايد اليوم الشعور بضرورة انفتاح المنطقة على العراق ومساندته في تطوير بنيته التحتية، خاصة المرافق الخدمية منها، كالماء والكهرباء والصحة العامة، إذ من شأن ذلك أن يعزز من فرص الاستقرار الوطني المنشود، الذي لا غنى عنه لمقاربة الأمن والاستقرار الإقليمي العام. وفي تصريحات أدلت بها على متن الطائرة التي أقلتها إلى بغداد، دعت رايس دول المنطقة إلى دمج العراق في محيطه الإقليمي، وهي عادت وكررت الدعوة ذاتها في التصريحات التي أدلت بها في العاصمة العراقية، داعية دول المنطقة للمساهمة في تعزيز استقرار العراق المالي والاقتصادي. وفي الاجتماع الذي عقد في المنامة يوم الاثنين، تم رسمياً قبول العراق عضواً في اللقاءات التشاورية المعروفة ب(6+2+1) وهي اجتماعات تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست والأردن ومصر والولاياتالمتحدة. وقد التأمت أربع مرات في غضون 16شهراً. وفي الحقيقة، فإن إشراك العراق في النقاشات الإقليمية يبقى أمراً ضرورياً لا غنى عنه بحال من الأحوال، وهو يجب أن يتطور في القادم من الأيام، ليرتبط بطائفة واسعة من القضايا الإقليمية موضع الاهتمام المشترك، على المستويات الاقتصادية والثقافية، كما السياسية والأمنية. وفي الكويت، اتفق وزراء خارجية دول جوار العراق، في ختام اجتماعهم الثالث، الذي عُقد يوم الثلاثاء، على عقد اجتماعهم المقبل في بغداد. وحيث تم التأكيد على ضرورة دعم العملية السياسية في العراق، وتعزيز جهود المصالحة الوطنية بين القوى العراقية. وبين اجتماع المنامة ومؤتمر الكويت، كان ثمة حديث عن شطب ديون وفتح سفارات، بيد أن المغزى من كل ما حدث هو تزايد الشعور العام بضرورة دعم الاستقرار الوطني للعراق، باعتباره جزءاً أصيلاً من الاستقرار الإقليمي. وثمة مسألة من الجدير التوقف عندها بهذه المناسبة، وهي أن الإدراك السائد اليوم بضرورة دعم البنية التحية، الاقتصادية والاجتماعية، للعراق يُعد في جوهره تصالحاً مع المفهوم الاجتماعي للأمن. وكان هذا المفهوم قد ظل موضع تأكيد مستمر من قبل العديد من منظري العلاقات الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لأمن الخليج، على وجه التحديد، بدا هذا المفهوم موضع إجماع العديد من الباحثين المحليين، وهو قد تقدم في أولويته بالنسبة لهؤلاء على ما سواه من مداخل الأمن الإقليمي، خاصة وأن التجربة قد أثبتت أن المداخل الأخرى لم تؤت أي من الثمار المرجوة منها. ومن هنا، نخلص لنقول إن دول المنطقة، وهي تقارب الحدث العراقي، عليها أن تبدأ مساراً لا رجعة فيه للنمذجة الاجتماعية للأمن الإقليمي. وبالعودة للحدث العراقي ذاته، تشير التقارير الدولية إلى ارتفاع معدل البطالة في البلاد إلى مستويات مخيفة، تهدد بالقضاء على كافة انجازات العملية السياسية الوطنية. وتشير هذه التقارير إلى أن هناك "فقرا مدقعا وضعفا" ناشئين عن عقود من التدهور الاقتصادي وما واكب ذلك من حروب هدرت فيها ثروات العراق وطاقاته. ووفقاً للأرقام الرسمية العراقية، تبلغ نسبة البطالة 18بالمائة. بيد أن البطالة المقنّعة تُقدر بما يتراوح بين 40و 50بالمائة، وفقاً للتقارير المتداولة. وفي الرابع عشر من آب أغسطس من العام الماضي،أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً استشاريا حول العراق، هو الأول من نوعه منذ 25عاماً، تضمن نصحاً للحكومة العراقية بالتسريع في عملية إعادة الإعمار وتوفير الاستثمارات في قطاع النفط. وجاء في بيان صندوق النقد،الذي أوجز تقييم مجلسه التنفيذي لأداء الاقتصاد العراقي، أن "توسيع إنتاج النفط تباطأ. وبالرغم من أن التضخم المالي هو إلى انحدار، بصفة عامة، إلا أنه يبقى مرتفعا". وثمة إجماع اليوم على أن الموقف المالي للعراق لا زال يخضع لتأثير الديون المتراكمة عليه بفعل سياسات العقود الماضية. وقد اتفقت الدول الأعضاء في نادي باريس في تشرين الثاني نوفمبر من العام 2004على تخفيض هذه الديون بنسبة 80% بحلول العام 2008.وهي قد بلغت قبل تخفيضات نادي باريس 127مليار دولار. ومن جهتها، شطبت الولاياتالمتحدة كامل الدين الأميركي المترتب على العراق، البالغ أربعة مليارات ومائة مليون دولار. وفي شباط فبراير الماضي، وقع العراق اتفاقية مع روسيا تعفي بموجبها الدولة الروسية 93% من الديون العراقية المستحقة لها، أي ما يعادل 12مليار دولار أميركي. وإضافة لسعيه للتخلص من تركة الديون التي ورثها، يسعى العراق لاجتذاب نحو 20مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية من أجل زيادة طاقته الإنتاجية النفطية وتطوير بنيته التحتية. ويمتلك العراق ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية. وقد بلغ متوسط إنتاجه النفطي خلال الربع الأخير من العام 2007نحو 2.4مليون برميل يومياً، وبلغ متوسط صادراته النفطية 1.9مليون برميل يومياً. ووصلت قيمة هذه الصادرات إلى 41بليون دولار في العام 2007.وقد خصصت الموازنة العراقية للعامين 2006و 2007سوية ستة مليارات دولار لوزارة النفط. و 2.3مليار لوزارة الكهرباء. وتقرر أن تخصص موازنة العام 2008مبالغ بأحجام مماثلة، ضمن مخصصات الإنفاق الرأسمالي. وعلى الرغم من ذلك، يعاني العراق من نقص كبير في مشتقات الوقود، وقد أصبح العراقيون يصطفون لعدة كيلومترات، ولساعات طويلة، من أجل الحصول على مادة البنزين. وتشمل عمليات الاستيراد العراقية الآن البنزين وزيت الغاز والغاز السائل والنفط الأبيض. وتشير التقارير ذات الصلة إلى أن النظام النفطي العراقي يفتقر إلى عدادات كافية لقياس حجم الكميات لدى ضخ النفط من الآبار، ولدى إرساله إلى معامل التكرير، ولدى تحميله لتصديره. وعند معرفة هذه الأرقام، سيصبح بالمقدور القيام بجهود حقيقة لمحاربة الفساد في القطاع النفطي. وحسب وزارة النفط العراقية، فقد خسر العراق منذ استئنافه تصدير شحنات النفط في حزيران يونيو من العام 2003أكثر من 11مليار دولار من عائداته النفطية بسبب السرقات وأعمال التخريب التي تعرضت لها المنشآت. وقد ظهرت تقديرات متباينة لتكلفة إعادة إعمار القطاع النفطي العراقي. وإذا كانت تقديرات حكومة الرئيس صدام حسين، في العام 2002، قد بلغت أربعين مليار دولار، فإن بعض التقديرات التالية تجاوزت المائتي مليار دولار. بيد أن المغزى يبقى واحداً، وهو حاجة العراق إلى الاستثمارات الخارجية لتطوير البنية التحتية لقطاعه النفطي، ويعد هذا مدخلاً رئيسياً وحيوياً لتحسين وضعه المالي. ودول المنطقة، وتحديداً القطاع الخاص فيها، معني بالاستثمار في صناعة النفط العراقية، على النحو الذي يقوم به اليوم في شمال آسيا وأوروبا، ومناطق مختلفة من العالم. وعلى القطاع الخاص الخليجي أن يعمل على دعم جهود الحكومة العراقية في إدارة برنامج إعادة الإعمار، وبدء برامج طارئة لتلبية الاحتياجات المستعجلة، مثل توفير فرص عمل واستعادة الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء والصحة العامة. وعلى المؤسسات المالية في المنطقة أن تنهض بمسؤوليتها في دعم الحركة التجارية بين الخليج والعراق، وذلك عبر تقديم ضمانات قروض وبوالص تأمين على ائتمانات التصدير، وقروض مباشرة. وثمة ضرورة لتوفير حساب ائتماني لا يقل مبدئياً عن 600مليون دولار للتأمين، إلى البنوك والشركات التي تمول الصادرات الخليجية من خلال بنك التجارة العراقي. وثمة مشكلة أخرى يجب تسويتها فيما يرتبط بتدفق السلع الخليجية للعراق، فأجرة الشاحنة من دول الخليج إلى مركز صفوان العراقي تكلف حالياً بين ألف دولار إلى ألف وخمسمائة دولار، وهذا رقم مرتفع نسبياً. وهو يعكس نفسه بالضرورة على القدرة التنافسية للبضائع الخليجية. وعلى دول الخليج أن تنسق فيما بينها بهذا الشأن كي يتخلص العاملون في هذا الحقل من الإجراءات التي تحد من قدرتهم التنافسية. وما يمكن قوله بصفة عامة، هو أن دول الخليج معنية بالحضور الفاعل في العراق، الذي تربطنا به الجغرافيا والتاريخ ووحدة الانتماء القومي والحضاري. إنها دعوة لدعم فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق، التي عبرها يتحقق الأمن ويحل السلام. وهذا ما فعله الأوروبيون في مناطق مضطربة داخل القارة وعلى تخومها، ونجحوا بذلك في تحقيق ما أرادوا. وإن مساهمة الخليجيين في بناء العراق وتنميته يعد استثماراً قيّماً وثميناً في تشييد دعائم الأمن الإقليمي للمنطقة. إننا أمام فرصة مؤاتية لوضع لبنات صلبة في بناء الأمن الإقليمي، وهذه الفرصة يجب ألا تضيع. إذ لا بد أن نستثمر في أمننا الإقليمي بكافة السبل المتاحة، وعبر جميع المداخل المؤدية لهذا الأمن. وإن أحد هذه المداخل يتمثل اليوم في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعراق. وإن تجارب الأمم ماثلة أمامنا، ويمكننا أن نراها رأي عين.