لا تُقاس جودة الحياة في الأحياء السكنية فقط بجمال المباني أو اكتمال الخدمات، بل بمدى احترام حقوق الجوار، وقدرة السكان على التعايش ضمن مساحة مشتركة تحفظ الخصوصية والسكينة، وفي المملكة حيث تتسارع وتيرة التوسع العمراني وتتغير أنماط السكن من الأحياء التقليدية إلى العمارات والمجمعات السكنية الحديثة، برزت حقوق الجيران كقضية مجتمعية تتقاطع فيها الأنظمة النظامية مع القيم الدينية والاجتماعية. ويؤكد مختصون أن الأنظمة السعودية وضعت أطرًا واضحة لضبط العلاقة بين الجيران، بما يحقق التوازن بين حق الفرد في استخدام ملكه الخاص، وحق الآخرين في الهدوء والخصوصية، في وقت باتت فيه النزاعات السكنية أكثر حضورًا في البلاغات البلدية والقضايا المنظورة إزعاج يهدد الأسرة. وعي أكبر وقالت أم ناصر الهادي -ربة منزل تقطن إحدى العمارات السكنية شمال الرياض-: إن علاقتها بجيرانها بدأت بهدوء اعتيادي يشبه بدايات معظم الجيران، قبل أن تتغير ملامح تلك العلاقة تدريجياً مع تكرار الأصوات المرتفعة وأحياناً الموسيقى والزيارات التي تمتد حتى ساعات متأخرة، مضيفةً: "في البداية كنا نعتقد أنها مناسبات عابرة، لكن الأمر تحول إلى نمط متكرر أربك حياتنا اليومية، وأثر بشكل مباشر على نوم الأطفال واستقرار الأسرة"، مبينةً أنها لجأت أكثر من مرة إلى أسلوب الحوار الودي، حرصًا على الحفاظ على علاقة طيبة داخل المبنى، إلاّ أن محاولات التفاهم لم تُحدث تغييرًا ملموسًا، ومع استمرار الإزعاج، وجدت نفسها مضطرة لتقديم بلاغ رسمي عبر الجهات المختصة، في خطوة تصفها بأنها كانت الخيار الأخير بعد استنفاد جميع الوسائل الودية، مشيرةً إلى أن تدخل الجهات الرسمية أسهم في إعادة الهدوء إلى المبنى، لكنها لا تخفي شعورها بالأسف لأن الأمور وصلت إلى هذا الحد، ذاكرةً أن احترام الجار ومراعاة السكينة كانا كفيلين بتجنب التصعيد. ورأى مختصون أن هذه التجربة تعكس صورة متكررة من نزاعات سكنية كان من الممكن احتواؤها في مراحلها الأولى، لو توفّر وعي أكبر بحقوق الجوار وحدود الحرية الشخصية، والتزام عملي بثقافة التعايش داخل الأحياء السكنية. انتهاك خصوصية وفي أحد أحياء شرق الرياض، لم يكن "أبو خالد" -موظف في القطاع الخاص- أن تتحول تفاصيل يومية بسيطة إلى مصدر قلق دائم داخل منزله، يقول: إن الأمر بدأ حين لاحظ، بالصدفة وجود كاميرا مراقبة مثبتة على واجهة منزل الجار المقابل، وموجهة بشكل مباشر نحو مدخل منزله وساحة الوقوف الخاصة به، في البداية ظننت أنها تخدم حماية المنزل فقط، لكن مع التدقيق أدركت أن زاوية التصوير تشمل حركة دخولنا وخروجنا بالكامل، ومع مرور الأيام، تصاعد شعور الأسرة بعدم الارتياح، خاصةً مع وجود أطفال في المنزل، إذ باتت الكاميرا مصدر قلق دائم، وشعور متكرر بانتهاك الخصوصية داخل مساحة يفترض أن تكون أكثر أماناً، مضيفاً: "كنا نشعر أننا مراقَبون طوال الوقت، حتى في أبسط تفاصيل حياتنا اليومية، حاول معالجة الأمر ودياً، فتوجه إلى الجار أكثر من مرة، مقترحاً تعديل زاوية الكاميرا بما يحقق الغرض الأمني دون المساس بخصوصية الآخرين، إلاّ أن تلك المحاولات لم تُثمر، بل قوبلت بتبرير أن الكاميرا وُضعت للحماية فقط، دون مراعاة تأثيرها على الجيران"، مبيناً أنه مع استمرار الوضع، قرر اللجوء إلى الجهات المختصة، مقدماً بلاغاً رسمياً شرح فيه تفاصيل المشكلة. وأشار إلى أن الجهات المعنية تفاعلت مع البلاغ بشكل سريع، حيث تمت معاينة الموقع، والتأكد من زاوية التصوير، قبل أن يُلزم الجار بتعديل اتجاه الكاميرا بما يمنع تصوير مدخل المنزل المجاور. قلق متكرر وفي أحد الأحياء السكنية الهادئة، تعيش سيدة في السبعين من عمرها وحدها مع العاملة المنزلية منذ أعوام، بعد أن تفرّق أبناؤها بين أعمالهم ومنازلهم، لا تكسر وحدتها إلاّ زيارة أسبوعية ثابتة ينتظرها قلبها قبل موعدها بأيام؛ زيارة أبنائها وأحفادها كل يوم جمعة، حين يتحول البيت الصغير إلى مساحة دفء وطمأنينة مؤقتة، غير أن هذه الزيارة، التي يفترض أن تكون لحظة فرح، بدأت تتحول إلى مصدر قلق متكرر بسبب معضلة مواقف السيارات أمام المنزل، فجار السيدة استحوذ منذ فترة طويلة على جميع المواقف المحاذية لسور المنزل؛ موقفًا لنفسه، وآخر لابنه، وثالثًا لزوجة ابنه!. تقول إحدى بنات السيدة: إن أبناءها كانوا يضطرون في كل زيارة إلى إيقاف سياراتهم بعيداً عن المنزل، أو في أماكن غير مخصصة، ما يرهق والدتهم التي تنتظرهم عند الباب، ويصعّب وصول كبار السن والأطفال، كانت أمي تقلق علينا أكثر مما تفرح بزيارتنا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان الجار يُبدي استياءه الواضح في حال توقف أحد أبناء السيدة في أي من تلك المواقف، حتى وإن كان ذلك لبضع دقائق، معتبراً إياها "مواقفه الخاصة"، رغم أنها مساحات مشتركة تخضع للتنظيم العام للحي، ومع تكرار الموقف، احتدم النقاش بين الجار وأبناء السيدة، بعد أن طالبهم بإخلاء أحد المواقف فوراً، ما أدى إلى تصاعد التوتر وارتفاع الأصوات في مشهد لم يكن أحد يتمنى أن يحدث أمام منزل سيدة مسنّة اعتادت الهدوء. أثر نفسي ترك هذا الموقف أثراً نفسياً بالغاً على السيدة، التي شعرت بالحرج والضيق بدلاً من الاطمئنان، وبعد تدخل أطراف من الحي ومحاولات لاحتواء الخلاف، تم التوصل إلى تسوية وديّة، تقضي بأن يكتفي الجار بموقفين فقط، ويُترك موقف ثالث لاستخدام زوّار السيدة، خاصةً في أوقات الزيارة الأسبوعية، ورغم أن الاتفاق أعاد جزءاً من الهدوء، إلاّ أن أبناء السيدة يؤكدون أن المشكلة لم تكن في المواقف بحد ذاتها، بل في غياب مراعاة ظروف الجار الآخر، خاصةً عندما يكون شخصاً مسناً يعيش بمفرده. وتختصر إحدى بنات السيدة القصة بقولها: لم نكن نبحث عن امتياز خاص، فقط عن مساحة احترام تتيح لنا الوصول إلى منزل والدتنا دون توتر، قصة تعكس كيف يمكن لتفاصيل يومية بسيطة، كالمواقف والمساحات المشتركة، أن تتحول إلى أزمة إنسانية صامتة، إذا غاب الوعي بحقوق الجوار وروح التعايش التي تقوم عليها الأحياء السكنية. إطار واضح وفي تعليق قانوني عام حول حقوق الجيران، أوضحت نورة العتيبي -محامية ومتخصصة في القضايا المدنية والعقارية- أن الأنظمة المعمول بها في المملكة أرست إطاراً واضحاً لتنظيم العلاقة بين الجيران، قائماً على مبدأ التوازن بين حرية الفرد في استخدام ملكه الخاص، وحق الآخرين في السكينة والخصوصية وعدم التضرر، مضيفةً أن الشريعة الإسلامية تُعد المرجعية الأساسية في هذا الجانب، حيث قررت قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وهي قاعدة يعتمد عليها القضاء السعودي في الفصل في كثير من النزاعات المتعلقة بحقوق الجوار، حتى في الحالات التي لا يوجد فيها نص نظامي تفصيلي، مبينةُ أن حقوق الجيران تشمل عدة محاور رئيسة، من أبرزها منع الإزعاج بكافة صوره، سواء كان ناتجاً عن الضوضاء، أو التجمعات المتكررة، أو الأنشطة غير المناسبة داخل الأحياء السكنية، مؤكدةً على أن الجهات المختصة تتعامل مع هذه المخالفات تدريجياً، بدءا بالتنبيه، وصولاً إلى تحرير المخالفات النظامية عند التكرار، مشيرةً إلى أن حماية الخصوصية تُعد من الحقوق الجوهرية التي كفلها النظام، ويشمل ذلك منع التعدي بالتصوير أو المراقبة أو فتح النوافذ أو تركيب الكاميرات بشكل يطل على ممتلكات الآخرين دون مسوغ نظامي. خط دفاع وذكرت نورة العتيبي أن هذه الأفعال قد تندرج ضمن مخالفات نظامية، وقد تأخذ طابعاً جزائياً إذا اقترنت بسوء نية أو تكرار، مضيفةً أن المساحات المشتركة في العمارات والمجمعات السكنية، مثل المداخل والممرات والمواقف والأسطح، تخضع إلى تنظيم نظام ملكية الوحدات العقارية ولوائح اتحاد الملاك، ولا يجوز الاستئثار بها أو استخدامها بما يخالف الغرض المخصص لها، مؤكدةً على أن أي تعدٍ في هذا الجانب يمنح بقية الملاك أو السكان حق المطالبة بإزالته، لافتةً إلى أن الأنظمة السعودية تشجع في المقام الأول على الحلول الودية والصلح بين الجيران، لما لها من أثر إيجابي في الحفاظ على النسيج الاجتماعي، دون أن يسقط ذلك حق المتضرر في اللجوء إلى الجهات الرسمية أو القضائية عند استمرار التعدي أو الإضرار، مختتمةً بأن الوعي بحقوق وواجبات الجوار يمثل خط الدفاع الأول للحد من النزاعات السكنية، داعيةً السكان إلى الاطلاع على الأنظمة ذات العلاقة، والالتزام بالذوق العام، واحترام خصوصية الآخرين، باعتبار أن حقوق الجار ليست مسألة قانونية فحسب، بل قيمة اجتماعية أصيلة تسهم في بناء أحياء مستقرة وآمنة. اختيار الأوقات المناسبة للزيارة يدل على احترام الجار