ما أهم عنصر في الصحافة، وبالذات التقارير الاستقصائية، الذي يجعل مصداقيتها متميّزة عما سواها ويرفع من أثرها؟ إنه ببساطة آلية التحقق من المعلومات، التي توصف أنها العمود الفقري للثقة، والحارس الذي يحمي الحقيقة من الانزلاق نحو التأويل أو التظليل. في بدايات الصحافة الأميركية خلال القرن التاسع عشر، كان العمل الصحفي يعتمد على سُمعة الصحفي ومصداقيته الشخصية، لكن مع توسع الصحف، وازدياد تأثيرها في الرأي العام، وصعود الصحف الصفراء، ظهرت الأخطاء التحريرية والهفوات المعلوماتية، بيد أن المنعطف الحقيقي برز مع صعود الصحافة الاستقصائية أوائل القرن العشرين، حين أدركت المؤسسات الإعلامية أن الخطأ الواحد قد يهدم ثقة تراكمت لعقود، هنا بدأ التحوّل من التحقق الفردي إلى التحقق المؤسسي المنهجي. آلية التحقق في الصحافة الأميركية الحديثة بدئت في وكالة "الاسوشيتدبرس"، وصحيفة "نيويورك وورلد" ومجلة "التايم"، وتطورت إلى مجموعة خطوات متسلسلة، تختلف في التفاصيل من مؤسسة لأخرى، لكنها تتفق في جوهرها، أولها وأهمها هو: الفصل الواضح بين الكاتب والمدقق، فالصحفي يجمع ويكتب، والمدقق يتحقق، ولا يجمع بين الدورين، ثم التحقق من كل معلومة قابلة للتحقق: الأسماء، التواريخ، الخلفيات، الاقتباسات، أوصاف المواقع، وحتى الصفات الشخصية -إن كانت ذات صلة بالسياق-، ثم عدم الاكتفاء بالمصادر الثانوية، بل العودة إلى المصدر الأولي، عبر الرجوع للوثائق أو الأشخاص المنسوب لهم، وكذلك التواصل مع جميع الأطراف المعنية، إذ يُمنح الطرف محل الاتهام حق الرد ضمن المادة المنشورة، والأهم توثيق المصادر داخلياً، بحيث يحفظ دليل كل معلومة داخل المؤسسة الإعلامية. هذه المنهجية جعلت "التحقق" عملية تحريرية لا تقل أهمية عن الكتابة نفسها، وليست مرحلة لاحقة أو شكلية! فمثلاً يعد التحقق جزءاً أصيلاً من غرفة أخبار صحيفة "نيويورك تايمز"، إذ تمر التحقيقات الصحفية عبر عدة مراحل من المراجعة، تشمل المحرر، والمدقق، والمراجع القانوني عند الحاجة، مثل سبقها الصحفي "أوراق البنتاغون" عن التضليل الإعلامي في حرب فيتنام، التي أضحت اختبارًا لنظام تحقق معلوماتي وقانوني صارم. أما تحقيق "ووترغيت" الشهير في صحيفة "واشنطن بوست"، فقد رسّخ نموذجا يُدرَّس، حيث لم يكن كشف الحقيقة ممكنًا لولا التحقق المتكرر من مصدرين اثنين مختلفين على الأقل، ومراجعة كل تفصيل، الذي ازداد تشدداً بعد فضيحة تقرير "عالم جيمي"، الذي اعتمد على مصدر واحد، واُكتشف لاحقاً عدم دقته، وسبب سحب جائزة "بوليترز" من الصحفيّة "جانيت كووك"! لكن تبقى مجلة "ذا نيويوركر"، المثال الأبرز عالميًا على تحويل التحقق من المعلومات إلى هوية تحريرية فريدة، أذ أسست منذ عقود قسمًا مستقلًا للتحقق من المعلومات، ينشط فيه محررون متخصصون لا يكتبون، بل يراجعون فقط! واللافت في هذه التجربة، أن المدقق قد يتواصل مع مصادر متعددة لتأكيد جملة واحدة، أو يراجع وصف لون السماء أو شدة الرياح إذا كان جزءًا من سرد قصة صحفية، ولا يُنظر إلى ذلك بوصفه مبالغة أو ترفًا، بل التزام أخلاقي لقارئٍ يستحق الدقة الكاملة، حتى في التفاصيل الصغيرة، وهذا الالتزام النهج جعل المجلة مرجعًا في الصحافة السردية والاستقصائية، وأكسبها سمعة أن أي مادة نشرتها قد خضعت لأقصى درجات التحقق. مع تطور المشهد الإعلامي، ظهرت منظمات مستقلة، جعلت التحقق من المعلومات هدفها، تخصص وقت طويل للتحقق قد يفوق زمن الكتابة نفسها، خصوصًا في التحقيقات المرتبطة بالفساد أو إساءة استخدام السلطة، بل تُنشر أحيانًا ملاحق توضح آلية التحقق، تعزيزًا للشفافية. واليوم في عصر الأخبار العاجلة وسهولة انتشار المعلومات المظللة، بالذات عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع الذكاء الاصطناعي، تبدو آلية التحقق أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ لابد من وجود أقسام تحقق مستقلة تخفف الضغوط عن الصحفي، وتحمي المؤسسة قانونيًا والمجتمع أخلاقيًا، وتؤكد دور الصحافة بوصفها صوت المجتمع لا مجرد صناعة محتوى. لم تتطور آلية التحقق في الصحافة دفعة واحدة، بل تشكلّت عبر تجارب، وفضائح، وأزمات، حتى صارت اليوم نظامًا متكاملًا يُحكم العمل الصحفي الموثوق، لتمسي هي الخيط الرفيع الذي يحفظ للصحافة جوهرها، وهو نقل الحقيقة.