حين يتكامل عند الإنسان حس السؤال ونزاهة التحقق وهدوء الحكم يصبح عصيًا على أن يكون ساحة لعب لتلك الأصابع البعيدة.. عندها فقط يخفت صخب المتخفين، ويتراجع نفوذ المنتحلين، ويعود للحديث طهره، وللكلمة وزنها، وللمجتمع قدرته على حماية ذاته من أشواك تُلقى في الطريق وهي متخفية في هيئة ورود.. في واقع المنصات المفتوحة والوجوه الرقمية التي تتبدل أسرع من الظلال خرجت في منصة إكس أنماط غريبة من البشر لا يُرى لها وجه ولا يُعرف لها أصل، تتقمص الأسماء وتستعير الرموز وتلبس ملامح غيرها لتسير بين الناس وكأنها منهم؛ بينما هي في الحقيقة شيء آخر، شيء يتخفى وراء اللغة ويزور الانتماء ويصطنع القرب وهو بعيد في جوهره كل البعد. يظهر المتخفي في صورة الناصح حينًا، وفي هيئة الغيور حينًا آخر، ويتكئ على مفردات دافئة تشبه العسل في ظاهرها غير أن في أعماقها ما يلدغ ويُنهك ويُلوّث الوعي ببطء. هؤلاء لا يتحركون عبثًا ولا يكتبون مصادفة؛ إنما يسيرون وفق خيوط دقيقة تُدار من غرف بعيدة ومن شاشات لا تعرف حرارة المكان الذي تتحدث عنه، ولا تدرك قيمة الاسم الذي تنتحله. يتسللون إلى القضايا الاجتماعية كأنهم أبناؤها، ويعبرون إلى شؤون الرياضة بوجه المشجع، ويطرقون باب الاقتصاد بلغة المهتم، ويتحدثون عن الوطن بنبرة المحب، وعن التاريخ بلهجة الحريص، بينما في الصدر نية أخرى، وفي العقل مقصد مغاير، وفي السطر ما لا يشبه السطر الذي قبله في الطهر والصفاء. يعرفون كيف تمشي موجات الرأي، وكيف يولد الاندفاع الجماهيري، ويجيدون ركوب التيار حين يعلو في السوق العامة للأفكار، يلتقطون الوسم الرائج كما يلتقط الصياد طريدته، وينفخون فيه من هوائهم الخاص حتى يتحول إلى سوق مزدحم برسائلهم المتلونة، يدسون المضمون الخفي داخل عبارة لينة، ويزرعون الشك داخل جملة لطيفة، ويُلبسون الريبة لباس التساؤل ثم يبتعدون خطوة ليراقبوا أثر الغرس كيف ينمو في صدور بعض الناس دون أن يشعروا أنهم صاروا جزءًا من لعبة لا يرون أطرافها. ليس أخطر ما في المتخفي أنه يكذب بل إنه يُحسن ترتيب كذبته على هيئة صدق، وأنه يعرف مواضع الألم في الوعي الجمعي فيطرقها متى شاء، ويوقظ جراح الذاكرة، ويعبث بعواطف البسطاء، ويعيد تدوير الحكايات بطريقة جديدة تجعل السامع يظن أنه يكتشف الحقيقة لأول مرة، بينما هي صيغة أخرى للضباب. بعضهم يتوزع في بقاع شتى خارج حدود المكان، وبعضهم يتخفى داخل الإقليم، وبعضهم يتنقل بين مدن بعيدة، وكلهم يجتمعون عند فكرة واحدة هي أن التشويش متى اتسع ضاقت الرؤية، وأن الفوضى متى سادت ضعف التمييز. لكن اللحظة الفارقة جاءت في منصة إكس حين انكشف الستار عن الجغرافيا المواراة فظهرت المواقع التي كانت مستترة خلف أسماء مستعارة وصور لا تعود لأصحابها. حينها ارتبك الكثير وتبعثر بعضهم وغابت حسابات كانت تصرخ ليلًا ونهارًا. انحسر الصوت حين سقط القناع؛ لأن الجراءة المصطنعة تعيش على الظل لا على الضوء. كانت الصدمة حاضرة لأن من حسبهم الناس من الداخل شماليين في الحرف جنوبيين في الهوى شرقيين في الصورة غربيين في الموقع والغاية واحدة. هذه الحكاية لا تروي موقفًا عابرًا بل تكشف درسًا ثقيل المعنى وهو أن السلامة اليوم لم تعد رهينة حراسة الطرق والأسوار فقط؛ بل رهينة عقل يزن، وبصيرة تنتقي، ووعي لا يُسلم مقاليده لأول عبارة براقة. لم تعد الرسائل كما كانت سطرًا يعبر سريعًا، بل صارت كائنًا له نية وله اتجاه وله أثر متراكم، ومن يفتح لها الباب دون فحص قد يكتشف متأخرًا أنه أدخل ما يكدّر روحه ويخلخل تقديره للأشياء. لا ينجو في هذا العالم إلا من تعلّم أن يسأل قبل أن يصدق، وأن يتريث قبل أن يتبنى، وأن يُعمل قلبه وعقله معًا. ليس كل من تزيّن باسم الوطن صادقًا في وده، ولا كل من رفع شعار القيم حارسًا لها، ولا كل من تحدث عن التاريخ أمينًا على روحه. بعض الأسماء ستظل عارية مهما كثرت حولها الزينة، وبعض الأصوات ستنفضح مهما علا صداها، لأن الزيف بطبيعته لا يحتمل مكثًا طويلًا تحت الشمس. ويبقى القول: وحده الوعي هو الحصن الأخير في زمن كثرت فيه المرايا الكاذبة، وتكاثرت فيه الوجوه المستعارة.. وحين يتكامل عند الإنسان حس السؤال ونزاهة التحقق وهدوء الحكم يصبح عصيًا على أن يكون ساحة لعب لتلك الأصابع البعيدة.. عندها فقط يخفت صخب المتخفين، ويتراجع نفوذ المنتحلين، ويعود للحديث طهره، وللكلمة وزنها، وللمجتمع قدرته على حماية ذاته من أشواك تُلقى في الطريق وهي متخفية في هيئة ورود.. فاحذروهم!