يُعدّ لفظ الجاهلية من المصطلحات القرآنية ذات الثقل الدلالي؛ إذ لا يقف عند حدود وصف مرحلة زمنية سبقت بعثة النبي (ص)، بل يتجاوزها إلى توصيف حالة فكرية وثقافية وأخلاقية تعارض مقاصد الوحي. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم أربع مرات، في مواضع مختلفة، تكشف كلّ واحدة منها عن بعدٍ من أبعاد (الجاهلية) التي جاء الإسلام ليقوِّضها. جاهلية الحُكم (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة: 50 في هذا الموضع يواجه القرآن الذين يُعرضون عن شريعة الله، ويستبدلون بها قوانين البشر وأهواءهم. فالجاهلية هنا ليست زمناً مضى، بل حالة كلّ مجتمع يرفض حكم الله ويستبدل به غيره. وقد جمع التعبير بين الاستفهام الاستنكاري والتقرير بأن حكم الله وحده هو الأكمل والأعدل. جاهلية التزيّن (تبرّج النساء) (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)الأحزاب: 33، جاء هذا الخطاب موجَّهًا لنساء النبي (ص)، ولكنه يتجاوزهن إلى نساء المؤمنين عامة. «تبرّج الجاهلية الأولى» هو سلوك اجتماعي يقوم على إظهار الزينة بغرض لفت الأنظار، في سياق ثقافة لم تضبط العلاقة بين الرجل والمرأة بضوابط العفاف. فجاء الإسلام ليؤسّس لثقافة الطهر وضبط الغرائز، رافضًا قيم الجاهلية في استعراض الجسد. جاهلية الاعتقاد والظن بالله (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) آل عمران: 154، نزلت هذه الآية في شأن المنافقين يوم أُحُد، حينما أصابت المسلمين الهزيمة فاعتقد بعضهم أن الله لن ينصر رسوله، أو أن الأمور تجري بغير تقدير إلهي. فسمّى القرآن هذا الظنّ «ظنّ الجاهلية»، لأنه يقوم على تصوّر قاصر لله تعالى يخالف التوحيد. فالجاهلية هنا عقلية منحرفة عن الإيمان الحقّ، تُسقط على الله ظنون البشر القاصرة. جاهلية العصبية والحمية (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الفتح: 26، يصف القرآن مواقف المشركين يوم الحديبية، حينما حملهم الكبر والعصبية على رفض الحقّ، فصدّوا النبي (ص) عن دخول مكة. وسمّى ذلك «حمية الجاهلية» أي الأنفة الباطلة القائمة على الهوى والعناد. فجاء الإسلام ليقابلها بسكينة الإيمان وتواضع اليقين. تتكامل هذه المواضع الأربعة لتقدّم صورة شاملة عن مفهوم الجاهلية، ففي الحكم: رفض مرجعية الوحي. وفي الأخلاق الاجتماعية: انفلات السلوك عن ضوابط العفاف. بيد أنها في العقيدة: تنبئ عن سوء الظن بالله وضعف الإيمان. وفي السلوك السياسي والاجتماعي: دليل العصبية والحمية للباطل. بهذا يتضح أن «الجاهلية» ليست مجرد مرحلة تاريخية قبل الإسلام، بل هي نموذج ثقافي وفكري متكرر، قد يظهر في كل عصر ومكان إذا عادت تلك الصفات. إن تأمل السياقات القرآنية الأربعة التي ورد فيها لفظ «الجاهلية» يبرز أن رسالة الإسلام لم تكن مجرد انتقال من زمن إلى زمن، بل نقلة حضارية شاملة من حالة فكرية وأخلاقية إلى أخرى. فالجاهلية حالة ضد الإيمان، وضد العدل، وضد الطهر، وضد اليقين. والإنسان المسلم مدعوّ في كل عصر إلى الحذر من عودة هذه المظاهر، ولو تغيّر شكلها أو لبست لبوس الحداثة.