منذ أزمنة بعيدة، قبل نشوء مدينة الرياض، نشأت مدينة الدرعية كتجمع من البيوت الطينية والقلاع والحصون الحجرية، محيطة بمجاري الوديان التي كانت تغذيها، وأصبحت عاصمة للدولة السعودية الأولى. وقد شهدت جدرانها الكثير من البدايات، وكانت ساحاتها تعج يوما بالنقاشات الفكرية والمواعظ والغزوات والمعارك، والاحتفاليات التي صبغت الحياة السعودية المبكرة. وما زالت جدرانها تحتفظ بأصداء قصتها كمكان تنمِّقُه ذكرى بعيدة ونسيج في حاضر الزمان. واليوم، تلقي المصابيح بوهجها الدافئ على الساحات الواسعة الممتدة، وتحتضن الواجهات المجددة بعناية تحتها الكثير من المقاهي، والمطاعم والمتاجر، حيث يصور مهرجان الشتاء والمتاحف الثقافية إيقاع الحياة اليومية النابضة التي شهدتها تلك المنطقة منذ قرون. كانت هذه هي أول زيارة لي للدرعية التاريخية، وقد تم ذلك بينما كنت أستعد للقيام بعمل حقلي ميداني لأطروحتي للدكتوراه في علم الأحافير من جامعة ستانفورد بالولاياتالمتحدةالأمريكية. وبينما كنت أمشي بين تلك المباني العتيقة، سحبت جوَّالي لأخذ صور، فنقلتني إيقاعات الطبول المنبعثة من السماعات إلى ماضٍ بعيد. لم أكن أصور حينها المعمار، وإنما الأرضيات الصخرية والتي أخذتني إلى نقطة أعمق في الزمن. واختلطت قرون الحضارة المحفورة في جدران الطين مع آثار التاريخ لملايين السنين في الأحجار التي تسفل الجدران مشكلة أساساتها. كانت أفرع أحافير المرجان من العصر الجوراوي وتموجات علامات النيم على سطح طبقات القيعان البحرية التي أضناها الزمن، تضفي تغضنا وتجعدات رقيقة على سطح النقوش الصخرية تحت قدميّ. وكأنما كانت سرا مخفيا لكنه ملقى على مرأى العيون. إنها تحوي رسائل مكتوبة بفصاحة لأولئك الذين تعلموا قراءة لغتها الخاصة والتي تقول: إن هذه الصحراء تستضيف أطلال بحار قديمة. ويمكن مشاهدة آثار من هذا الماضي في أجزاء كثيرة من المملكة، وبينما كنت أقود سيارتي من الدرعية شمالا متجهة لعنيزة في القصيم، حيث موقع ميدان بحثي العلمي في رحلة دامت لأربع ساعات، شعرت وكأن تلك الشواهد الحيوية القابعة بين الصخور الشاهدة على آثار ذلك المحيط العظيم الذي غطى المنطقة منذ ملايين السنين، شعرت وكأنها تناديني من خلال الصخور. كانت طبقات أحجار الجير الممتدة على مسافات شاسعة حبلى بالكثير من الأحافير المخروطية لكائنات منقرضة شبيهة بالحبار. وتخفي جدران الخوانق والجبال نفسها أحافير لأصداف المحاريات وبقايا المعد قدميات، وتحت الطبقات الرقيقة من الرمل بين الكثبان، كانت هذه الأحافير تنتظر لتروي قصتها. كعالمة أحافير، فإنني أقرأ طبقات الصخور في المكتشفات الصخرية كما أقرأ كتابا ألفته الحياة البحرية. ولقد بينت تلك الصخور أثناء قراءتي المتأنية لها، أنه بعد نقطة ما تتوقف هذه القصة فجأة في طبقة صخرية، كعلامة تعجب صادمة في نهاية فصل. هنا تصبح الأحافير أقل عددا وأقل تنوعا، مشيرة إلى نقطة في الزمن العميق حيث شهدت تلك البحار كارثة مغرقة في القدم، مؤدية لهلاك المجتمعات البحرية، وماسحة كل أوجه الحياة تقريبا. ومثل جزيرة أطلنطس الخرافية، تعرضت هذه الأحافير التي تعيش في مجتمعات مائية بحرية لكارثة أهلكت جزءا كبيرا منها. إلا أن قصة هذه الأحافير لا تشبه قصة أطلنطس، فهي أبعد ما تكون عن الخرافة، فقد وجد العلماء على مدى عقود، وفي أجزاء متفرقة من الأرض، دلائل على هذه الأحداث الكارثية التي انتابت الأرض في تاريخها الطويل. هذه الحادثة تعرف ب (حادثة الانقراض الكبير في نهاية العصر البرمي) أو (الموت العظيم) وسببها هو انفجار براكين عنيفة خنقت الجو وسمَّمت المحيطات بالكبريت وثاني أكسيد الكربون منذ حوالي 252 مليون سنة مضت، وانتهت بقتل ما يقدر ب 79 % من الأجناس البحرية عبر الكرة الأرضية. وكشواهد أمينة على الماضي، فإن الأحافير التي نجدها اليوم، والتي تمثل ما بعد تلك الحادثة، ترسم صورة شديدة الوضوح لما عرفناه بعده، لم يَنجُ إلا كائنات قليلة من الحالة المميتة التي عمت المحيطات. في السنوات الأولى القليلة للدراسة للدكتوراه في قسم علوم الأرض والكواكب بجامعة ستانفورد، درست بتركيز (الموت العظيم)، وجاءت جائحة كوفيد 19 كورونا لتحد من العمل الحقلي الميداني وتلزمني بقضاء ليالي عدة محاطة بوهج شاشتي بينما كنت أعمل على إكمال أشكال الوفرة الأحفورية، والمواقع الجغرافية، ومنحنيات الانقراض، والتي ساعدتني على اختبار أسئلة حول كيف صار حال المجتمعات البحرية في المحيطات حول الأرض مباشرة بعد ذلك الانقراض الهائل؟ وكلما ازدادت تلك الحادثة في المضي قدما، ازداد شوقي لفرصة الوصول إلى الأحافير التي سجلت انهيار البحار القديمة. لقد مُنحت فرصة القيام بعمل حقلي في مكان مألوف لي. كانت خطة أستاذي المرشد للدكتوراه، دكتور (جونوثان باين)، معدة مسبقا قبل أن أبدأ مسيرة الدكتوراه، وعندما تواصلتُ معه لقبولي للعمل في مختبره كطالبة دكتوراه، كانلمحاسن الصدف أنه قد عاد توا من رحلة استكشافية جيولوجية لوسط المملكة العربية السعودية. وهناك قام هو وفريق من المتعاونين من الولاياتالمتحدة والمملكة وإيطاليا بقياس المقاطع الصخرية، وجمعوا عينات الأحافير للأبحاث المستقبلية. وعندما أخبرني عن تلك الرحلة الاستكشافية، لاح في مخيلتي ما يمكن أن تبوح به تلك الصخور من قصص وأخبار في ذلك الماضي السحيق، وقد شدني ذلك كثيرا للمشروع. وحال ما بدأتُ في ستانفورد، بحثت عمن يمكن أن يشاركني رحلتي وهويتي من أساتذة وأقران. وللأسف لم أجد أي عالمة أحافير سعودية غيري. وشعرتُ بعبء كوني الأولى في ذلك المجال، وكذلك جذبني شيء أكبر: فرصة استقراء المحيطات القديمة والحياة المفقودة، وعن طريق ذلك يمكنني ترك آثار أقدامي على الرمال. وعندما رُفِع حذر السفر بسبب الجائحة في 2021، حجزت للسفر للعمل الحقلي في المملكة، وبدأت الاستعداد للرحلة بقراءة كل ما أستطيع عن الصخور الحاوية للأحافير التي أنوي جمعها. واعتدلتُ في كرسيي وأنا أقرأ السطور تلو السطور وأعيدها عدة مرات بابتهاج لمعرفة داهمتني. والدي، الدكتور أحمد عبدالله الأسود، قد أجرى دراسات مكثفة على نفس الصخور التي أنوي دراستها، منذ عقود قليلة عندما كان أستاذا للجيولوجيا في جامعة الملك سعود بالرياض. كانت تجمعني بوالدي روابط كثيرة مثل الطبيعة والفلسفة والموسيقى والأدب والفن عموما. لكن بالرغم من توازي مسارينا الأكاديميين، إلا أننا لم نناقش يوما الجيولوجيا أو الأحافير أو حتى الانقراض الحيوي الكبير، فقد كان هناك دائما الكثير مما يمكن قوله غير ذلك. وفي الواقع فإن اختيار مهنتي كجيولوجية جاء مصادفة تقريبا. كان يحلو لوالدي أن ينكِّت قائلا إنه لو أنه شجعني على التخصص في ذلك المجال، لهربت في الاتجاه المعاكس. وكل ذلك تغير ذات أمسية عندما تحدثتُ معه عبر الفيديو عن تقرير له ودراسته لنفس الصخور التي سأزورها، رفع أصبعه نحوي حينها والإثارة تضيء وجهه قائلا: لدي ما تحتاجينه تماما. وأسرع إلى مكتبته الشخصية وأخرج منها الكتب والخرائط، بعضها من تأليفه وأخرى من عمل جيولوجيين آخرين عملوا على توثيق السجل الصخري للمملكة. وبالرغم من أن تلك الخرائط كانت متآكلة وممزقة عند أطرافها، إلا أنها تحدت اختبار الزمن كسجل ممتاز للتاريخ الجيولوجي، بألوان نابضة، تختلف درجاتها بحسب نوع الصخر، والعمر الجيولوجي. ولم أستطع الصبر لقراءتها. وحالما وصلت للمملكة لبدء عملي الميداني، درست الخرائط لمعرفة أفضل منكشفات صخرية لدراستي. شعرتُ أنني جاهزة للبدء تقريبا، وكان التحدي الأخير الباقي هو إيجاد مساعد لمرافقتي للحقل الجيولوجي. ولم يكن ذلك سهلا ولا متوفرا. وهنا تطوع والدي للقيام بذلك. وما تبع ذلك كان شهرين عزيزين على قلبي من العمل البحثي الميداني في الجبال جنبا إلى جنب مع والدي، خالقةً ذكريات سأحملها معي طيلة حياتي. في كل صباح في عنيزة، عندما تبدأ أشعة الشمس الذهبية في إضاءة أفق الفلل المجاورة، يبدأ والدي وأنا في التجهز للخروج للصحراء، مع ما نحتاجه من حقيبة الظهر، والخرائط، وأشرطة القياس، والمطارق وعدسة يدوية، ووحدة تحديد مواقع، وصناديق العينات، وغير ذلك. وضحك والدي عندما أريته المواقع الصخرية محط قصدنا، فقد كان أكثرها لا يبعد عن مزرعة جدي عبدالله البراهيم السليم -رحمه الله- في عنيزة سوى كيل أو كيلين، حيث ينكشف الجزء العلوي من متكون خف من العصر البرمي، المسمى بعضو خرطم، وصخوره هي المستهدفة بدراستي. لقد اقترنت تلك المناظر الطبيعية على الدوام مع ذكريات الطفولة، من الركض المتواصل خلال صفوف متراصة من أشجار نخيل التمر، ورحلات السيارة الطويلة حيث تلقي أضواء الشارع بوهجها البرتقالي بشكل متقطع على النوافذ، وتختلط تلك مع ذكريات إطعام أغنام جَدِّي. وها أناذا اليوم أعود لأجري بحثا علميا لأكتشف قصة الحياة لمئات الملايين من سنين مضت. قمنا بدراسة الصخور المنكشفة على جوانب الجبال، وقياس مقاطعها وتسجيل الملاحظات لكل نموذج مشوق تبديه تلك الصخور. وبعد الظهر، كنا نقوم بقلع أصداف المحاريات والمعد قدميات من الصخور باستخدام المطرقة والإزميل. وبعد شهرين من العمل الحقلي، كان لدي أكثر من مئة عينة، وبعد عدة زيارات لجدي الذي تجاوز المئة عام من عمره محتفظا باتقاد عقله وحدَّة ذاكرته، وأقاربي الآخرين في عنيزة، كنت مقتنعة وراضية بالعودة لكاليفورنيا لبدء تحضير عينات الأحافير للدراسة والبحث. وبمساعدة من الدكتور خالد الرمضان بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، المتعاون رسميا مع جامعة ستانفورد، قمنا بشحن العينات إلى جامعة ستانفورد، حيث قمت لاحقا بقطعها وتصويرها، ودراستها، وتعريفها بالجنس والنوع. هذه الأحافير تساعدنا على فهم أي من هذه المحاريات نجت بعد تلك الحادثة الأكثر عنفا وجائحية في تاريخ الأرض، وما مدى مقارنة هذه المجتمعات البحرية السعودية مع نظيراتها حول العالم. وبنقل نفسي نحو ذلك الماضي السحيق بهذه الطريقة، كان بإمكاني امتلاك فهم لكيفية تحمل هذه الكائنات ذلك التغير المتطرف في المناخ وأحداث الانقراض في غابر السنين. وهكذا كان اهتمامي البحثي للدكتوراه منصبا على كيفية تعافي الأنظمة البيئية البحرية بعد تعرضها لأكبر انقراض جماعي في تاريخ الأرض وعلى مستوى عالمي. ومن خلال بيانات الأحافير للكائنات التي عاشت تلك الظروف قرب نهاية العصر البرمي ومقارنتها مع درجات الحرارة القديمة السائدة، وكذلك تغيرات مستويات الأكسجين في البحار، ودور هذه المتغيرات في كيفية تحمل هذه الكائنات فسيولوجيا للضغوط البيئية القاسية. والهدف هو الوصول إلى فهم يشرح لماذا حدث التعافي بالطريقة الذي حدث بها. وهذا النمط من البحث العلمي الواسع النطاق، يعتمد على بيانات كثيرة ومتجددة من العمل الحقلي الميداني. ولقد قدمت المواد الحقلية التي تم جمعها في المملكة العربية السعودية مساهمة هامة من منطقة وفترة زمنية لم يتم دراستهما سابقا لهذه المجموعات الحيوانية. لم تكن حقائب العينات هي كل ما حملته معي من المملكة إلى كاليفورنيا، بل صاحبني شعور بأن تلك الأرض علمتني كيف أقرأ الزمن ذاته. في الصحراء أصبحتُ العالمة التي كنت آمل في تحققها يوما عندما بدأت مسار مهنتي في علم الأحافير. لقد كنتُ محظوظة فعلا بأن الدكتور (بين) قبلني للدكتوراه، ولهمني كل الشكر لصبره وتوجيهه الدؤوب لي كطالبة تلقت كل تدريبها السابق في مجال الجيولوجيا، إلى العالم الدقيق لعلم الأحافير وأحداث الانقراض القديمة، كما أنني ممتنة للغاية لحكومتنا التي كان لها الفضل الأول في تعليمي العالي من البكالوريوس إلى الدكتوراه، وفي كل مراحل تعليمي الأخرى. ولقد لعب والداي أيضا دورا محوريا في هذا الحلم، فوالدتي، الدكتورة فاطمة عبدالله البراهيم السُّليم، أستاذة علم الاجتماع بجامعة الملك سعود سابقا، قد نحتت لها مكانا في التاريخ، كأول دبلوماسية سعودية في كندا بموافقة ملكية، وكانت درجتها للدكتوراه في علم الاجتماع وازعا عندي لتذكيرنا بمدى ما يمكن للفضول المعرفي أن يأخذنا إليه. لقد غذت هي ووالدي تلك الروح فيَّ، والمثال الذي كانا عليه كلاهما، هو الذي شكل العالمة التي سكنتني. لقد ذكرتني الرحلة العلمية للمملكة أن العلم ليس عن السعي نحو المعرفة فحسب، وإنما عن الحكايات التي يمكن للمكان أن يرويها. تلك القصص تتشابك وتتداخل مع حياتنا ومع حيوات الأجيال السابقة. المشي فوق تلك المرتفعات الصخرية التي قد درسها والدي مرة، والتي قد مشى عليها جدي، أشعرني باستمرارية الفضول المعرفي والاستكشاف العابر للأجيال. الأحافير نفسها، بكونها شاهدة صامتة على المحيطات القديمة، تصبح جسرا بين الماضي والحاضر. ولقد وصلتُ إلى فهم مفاده أن كل موقع صخري يحمل طبقات من المعنى الخبيء تبوح به لمن أُلهموا بإرادة التبصر. * باحثة في علم الأحافير من جامعة ستانفورد بالولاياتالمتحدة الأميركية